ابن البلد
الهدى 1256- 1259 مايو – أغسطس 2024
وسط زحام البشر وضجيج السيارات جال الكاتب في شوارع المدينة كعادته يُحدِّق في وجوه البشر والخليقة من حوله علَّه يجد فكرة جديدة لقصته القصيرة في العدد القادم لمجلة الهدى. وبعد البحث هنا وهناك ضاقت به الأفكار وكأن ماكينته الذهنية توقَّفت عن الإنتاج. قادته قدماه إلى مقهى أرستقراطي أمام المتحف الروماني في معشوقته الإسكندرية، فقرَّر الجلوس متأملًا في تلك التماثيل الرومانية المُبدَعة، وكأن هناك شيء يربطه بها، فكم تمنَّى أن يكون أحد أحفاد مايكل أنجلو، ولكن بعد ساعات من التأمل في ذلك العالم الروماني استفاق على لحظة ساخرة قرَّر فيها بجرأة أن تدور أحداث القصة بينه وبين شخوصه.
كتب عن شخصيته الأولى، اسمه رائد، الذي كان يجلس في إحدى الحدائق في انتظار سطوره المكتوبة لكي يتحرَّك من خلالها في القصة. فإذ بالكاتب ينزل إلى تلك الحديقة الخضراء ليجد رائد في حالة صمت تام. اقترب الكاتب من الشخصية ثم بدأ يدفعه من كتِفه فأخذ الجسَد يتحرَّك يمينًا ويسارًا باتزان كبندول الساعة حتى توقَّف. حاول أن يحرك يده أمام عينيه فإذ بعينيه متحجِّرتين لا يطرف لهما جفن. اغتاظ الكاتب من كثرة الانتظار فهمّ بالمُضيّ مقررًا أن تتحدث الشخصية الآن
- رائد: “إلى أين تمضي؟”
- الكاتب: “انتظرتك كثيرًا، ماذا تفعل؟”
- رائد: “أمارس هوايتي المفضّلة.”
- تعجَّب الكاتب: “هل هذه هوايتك المفضّلة؟”
- رائد: “لا تتعجَّب هكذا يا صديقي، فأنت من جعلتني هكذا.”
- لاحقه الكاتب: “حسنًا حسنًا، لماذا كنت تجلس كالصنم هكذا؟”
- ردَّ الرجل: “إنه تمرين اليوجا.”
- لاحقه الشّاب “وما غرضه؟”
- ردّ الرجل: “إنه اتحاد بقوى الطبيعة، عندما تجد نفسك منحصرًا في المادية البحتة والتفاصيل الروتينية التي تتطلَّب الانخراط فيها بكل ما هو حسِّي وملموس، عليك اللجوء ولو قليلًا إلى تلك الروحانية الطبيعية. واليوجا والتأمل إحدى الوسائل التي تجعلك تتأمل كثيرًا في الطبيعة الخلَّابة من حولك، مما يجعلك تخرج من ذاتك المادية للتقابل مع العالم الروحي.”
- “وكيف تعرف ذلك؟” سأل الكاتب.
- أجاب رائد: “إن الله خالق الطبيعة، كما إنه مصدر الروحانية، وبما أننا نتعامل مع الأشياء الملموسة، والله يعرف تلك الطبيعة الحسية لنا، فهو من جعل الطبيعة تحوي ذاته، وبالتالي إذا أردت الوصول إليه بالروحانية الحقيقية، عليك أن تتلامس روحك مع الطبيعة.”
- حكَّ الكاتب رأسه ثم بدأ حديثه: “معذرة، كيف يمكن أن تحوي الطبيعة ذات الله؟ إذا كانت الطبيعة مخلوقة من الله، إذًا فالله موجود من قبل الطبيعة، وبالتالي إذا كانت الطبيعة هي أجزاء الله، إذا فمن دون الخليقة الله غير موجود، وسيكون السؤال المطروح هو: قبل أين كان الله خلق الخليقة؟ من ناحية أخرى، إذا كانت الخليقة هي أجزاء الله، فالشجرة جزء من الله، والبحر جزء من الله وهكذا، إذا الشر أيضًا جزء من الله، حاشا!، ثم من أين لك أن تعرف أن الطبيعة بها ذلك العنصر الحيّ الذي يجعل كل جزء فيها شيئًا روحانيًا؟”
- قفز الرجل بالرّد: “بالطبع، فالله وضع بها ذلك العنصر الحيّ.”
- شعر الكاتب بعِبء السؤال فلم يخبئه: “إذا كانت الطبيعة بالفعل حيَّة، إذًا قُل لي: بماذا كانت تحلم الصخرة ليلة أمس؟”
- صفع السؤال جبين رائد فتلعثم ثم حاول الرّد: “إذًا عليك أن تكتب سطورًا أستطيع بها الرد عليك.”
- الكاتب: “يبدو أن زعمك بروحانية تأملاتك هذه غير جدير باستنفاد كلمات القصة. هيا بنا، علينا أن نجهز للتحرك.”
أخذ الكاتب صديقه المُتأمِل وخرجا من تلك الصفحة، ثم بدأ يكتب في صفحة أخرى. جال الاثنان حتى بدا على الطريق من بعيد أشعة ضوء قوية جاءت متأرجحة على نغمات مزمار وعود وإيقاع متزن، فكلما اقتربا من المكان يجبرهما جسماهما على التأرجح مع تلك الموسيقى المألوفة.
دخل الكاتب وصديقه الاحتفال باحثَيْن عن شخص. ثم بعد عناء ليس بقليلٍ، دخلا إحدى الغرف فإذ بمجموعة من الرجال يتحركون في حركات منتظمة مغمضة عيونهم يرددون بعض الأناشيد المحمَّلة كثيرًا باسم الله. حتى أن اسم الله ملأ أذن الجميع. فأجبر الكاتب رائدًا على الدخول إلى صديقهم الثالث مخترقًا الرجال المصطفين بانتظام شديد، حتى كاد رأس أحدهم المتحرك يمينًا ويسارًا يرتطم برأس رائد، فاجتازه ليصل إلى صديقه ليحثَّه على الخروج. فاستفاق عابد صديقهم الثالث من نشوته تلك ونظر إلى الكاتب بامتعاض، مُبعدًا يدّ رائد عن كتفه في إشارة إلى رغبته في البقاء في تلك الحَضرة، ما أجبر الكاتب على كتابة هذه السطور التي جعلت عابدًا يتحرَّك مع رائد، ليخرج ثلاثتهم.
- عابد: “لماذا أخذتموني من ليلتي البديعة؟”
- رائد: “ماذا بك؟ أنسيت موعد السفر؟”
- قفز عابد بالرد: “بالطبع لا” ثم ابتسم في هيام حيث بدا على وجهه راحة فائضة. “ولكنني أردت تحفيز نفسي بنشوتي الروحانية الداخلية لكي أكون قادرًا على التواصل ومقاومة الصعاب.”
- ردّ الكاتب: “وكيف تفعل ذلك؟”
- عابد: “أنت تعرف جيدًا. إنك مؤلِّفيّ!”
- لاحقه الكاتب “إذًا سأكتب الآن على لسانك ليعرف القارئ.”
- وصف عابد حالته في شوق جارف: “أفعل ذلك من خلال تلك النشوة التي تنتابني بذِكر اسم الله باستمرار مع الموسيقى أو من دونها، بتلك الحلقات بيننا، والحركة الجسدية التي تجعل قدمَيَّ تتلامس مع السماء. فعندما أقرأ النصوص الخاصة بي، يظهر من ورائها معنى باطني لا يكشفه الله إلّا لمجموعة خاصة من عباده الذين تشرق هذه المعاني في قلوبهم. إن الله منحهم أسرار العلم الباطن، وعندما أردد أجزاء من تلك النصوص بطريقة سريعة ومنتظمة، فهي تُحمِسني، ثم أبدأ بالتحرك مع فمي المتكلم، وفي وسط كل هذا تحاوطني الموسيقى البديعة فأذهب إلى عالمي.”
- الكاتب: “وماذا يحدث عندئذ؟”
- ردّ عابد: “تتلاشى النفس التي هي شر محضّ لأنها مركز الشهوات. ولذا يجب محاربتها، وأما الروح فهي الأداة الحقيقية التي بها أتَّحِد بالله، من خلالها أذوب فيه ويذوب فيَّ، إنه الفناء في الحقيقة المطلقة، فإذ بي أدور في دوائر بين الطرب والحزن، الهدوء والصراخ، أرتحل من حالة إلى حالة، حتى ينتهي الأمر بي في المكان التي تضعني حالتي عليه، يا لها من تجربة باطنية مباشرة بين العبد والرب. إنها مَلكة خاصة تفوق العقل المنطقي، وتغمرني بشعور قوي، كفيض من النور الباهر، أغوص فيه كالأمواج العميقة. وكأن قوة اقتحمت كياني الروحي، تبدو وكأنها نفحات علوية، هنا تُثرى الروح وتحرر الأفكار والخواطر، تلك روحانيتي البديعة.”
- اتسَّعت عينا الكاتب من حوار عابد المُلهِم، ثم بدأ يفكِّر فيما قاله: “يا له من وصف حالم، ولكن دعني أتساءل، لماذا يعلن الله لأناس وأناس لا؟ ألم يعلن كل ما أراد أن يعلنه في كتابه؟ ثم كيف يمكن التعامل مع هؤلاء الأشخاص الذين هم دائمًا في حالات شعورية خارج الوعيّ؟ أين مصداقيتهم؟ إن الروحانية قد يكون بها شعور تأملي، ولكن لا يمكن أن يكون خارج الوعيّ. في حوار دار بين المسيح وأحد اليهود في إنجيل مرقس، كان مفاداه إشادة الرب بالإجابة بالعقل “فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ.” (مر12: 34) إذًا العقل يجعلني أقترب أكثر إلى الله باعتباره مصدر الروحانية، وكلما تعقّلت أكثر أقترب أكثر فأكثر، ولكن ليست حالات النشّوة هي ما تجعلني قريب إلى الله. وبالتالي العقل الواعي حاضر في العلاقة بيني وبين الله.”
- سار الثلاثة خطوات قليلة ثم أكمل الكاتب: “ثم من قال إن النفس شر؟ أليست مخلوقة من الله وكل خليقة الله هي حسنة؟ دعني أعلِّق أيضا على الذوبان بينك وبين الله، فهو يلغي بالمرة تمايز الله عن خليقته، فالله كما هو مُحايث للخليقة، فهو أيضًا متسام عنها، لذلك هو كيان متمايز، وبالتالي أنت وأنا وجميع البشر كذلك، فإذا ذاب الاثنين فكيف يمكن التمييز بينهما! أخيرًا يا صديقي أقول إن العلاقة بيننا وبين الله جزء منها قائم على الوعي، هذا يختلف جذريًا عن المفهوم المسيحي للاتحاد بين الله والإنسان، ناهيك عن روحانيتك تلك التي تجعلك تتحد بالله الخالق، وليس الله الفادي. هل أنت واعٍ لما أقوله؟ أو على الأرجح لست بواعٍ، فأنا لا أعرف حالتك الآن!”
- اقتحم رائد الحوار: “هيا بنا، يكفي الحديث الآن، علينا الوصول لصديقنا الأخير حتى لا تفوتنا الطائرة.”
توقَّف الكاتب أمام ذلك الرجل المنحوت في المتحف الروماني الذي يقدم القرابين لإلهه مترجيًا منه مكافأته ثم بدأ يستكمل قصَّته. سمع عالي طرقًا قويًا على الباب فأغلق كتابه وهمَّ يفتح فإذ بأصدقائه الثلاثة أمامه، فعاتب عالي الكاتب في رقة:
- “لماذا تكتب تلك الطرقات المزعجة؟”
- فردّ الكاتب: “لأنني أعرف مدى هدوئك الذي يصل إلى حدّ الغيظ، هل جهزت حقيبة السفر؟”
- عالي: “نعم، هيا بنا.”
أخذ حقيبته ونزل ثلاثتهم متجهين إلى المطار ليلحقوا بالطائرة في اللحظة الأخيرة. فقال عابد والكلمات محمَّلة بزفيره:
- “يا لك من كاتب مُتعِب، حتى تفعل هكذا بنا.”
- ردّ عالي: “هو لم يفعل الأمر بالكامل، ولكننا اشتركنا معه.”
- فلاحقه الكاتب: “ألعلَّك تحاول أن تبين مدى استحقاقك لوجودك في هذه القصة.”
- ابتسم عالي: “ولما لا، أنت تكتب وأنا أتحرك وأقول ما تكتب.”
- ردّ الكاتب: “ولكن ما فضلك في وجودك؟”
- عالي: “ليس لي فضل في وجودي، ولكن فضلي في أعمالي، أعتقد أنني أثبت كفاءتي بتلك الأعمال والممارسات التي أفعلها، فكلما فعلت أكثر ازدادت رغبتك في صناعة أحداث أجمل لي، يذكِّرني هذا بمفهوم الروحانية الذي تحاول البحث عنه.”
- الكاتب: “يا لك من شخصية مثيرة، حدثني أكثر عن روحانيتك.”
- اتكأ عالي على الكرسي المريح: “ماذا أقول لك، إنني بالطبع لا أستحقها، ولكنها نعمة الله التي اشتركت معه فيها لتحقيقها، إنها الممارسات والأعمال الصالحة التي جعلت مني أقرب إلى الله، لذلك يملأ أذني دائما عدد الترنيمة الجميل: يا فرحتي بك فزت بحبك … وقرب قلبك أحبك يسوع.”
- ابتسم الكاتب ثم قال: “أعتقد أن كلماتك تحمل كثيرًا من الأفكار، ولكنني سأعلق على الشيء الوحيد الذي أعتقد أنك أصَبت فيه هو أن ذلك الشطر من الترنيمة لا يشير إلى النعمة وحدها، لأن الفوز بشيء يأتي نتيجة الاستحقاق، فمعنى أنك فزت بحب يسوع هذا يعني أن حبه مكافأة لك على ما قدمته من عمل حتى تفوز به، ويبدو لي أن هذا عكس رسالة الإنجيل كاملة، لذلك لا أعتقد أن هذه روحانية من الأصل.”
تسمَّر الأصدقاء الأربعة أمام شرطي مطار مدينة روما الذي فاجأهم بأنه يعرف العربية قليلًا، قائلًا:
- “عفوًا يا سادة، لا يمكن أن يدخل المدينة إلَّا من يحمل فقط الجنسية ولديه بطاقة تحمل عنوانه في روما.”
وقبل أن يسأله أحد، استطرد:
- “وذلك لحدوث طارئ منذ ساعات، ولدواعي أمنية صدرت الأوامر هكذا.”
- رائد: “هذا يعني أننا غير منتمين للخليقة في تلك المدينة.”
- فلاحقه عابد: “يبدو أن في الأمر سر لم يعلن لنا.”
- فاستطرد عالي: “هل علينا فِعل شيءٍ ما؟”
- فردّ الضابط: “لا، لكي تدخل لا بد أن تكون رومانيًا، هذا يتطلَّب أن تولد فيها لكيّ تحظى بجنسيتها، فأساس الرومانية أن تكون ابن البلد.”
نظر الكاتب إلى الضابط وكأنه وجد ما كان يبحث عنه، ثم قال:
- “بالضبط، فالرومانية ليست حالة مؤقتة، ولكنها طبيعة مُعاشة، كما أنها ليست سِرًا يحتاج لكثير من التخمينات، ولكنها حقيقة مُعلنة في دستورها، كما أنها ليست مبنية على جهد فأساسها هو الحصول على تلك الطبيعة الرومانية فتنتمي للعالم الروماني، وذلك دون أدنى شيء تفعله، إنها منحة من دستور البلاد بأحقيّة هؤلاء المولدون في مدينته. وإذا أردت أن تُبرهن على رومانيتك هذه، عليك أن تتصرف طبقًا لقواعد تلك الطبيعة الرومانية، فإن مدى قوة رومانيتك تتحدَّد بمقدار إفساح روح الروماني لطبيعتك الرومانية أن تقودك وتتحكَّم في حياتك، فكونك تعرف لغة المدينة قليلًا لا يجعلك ابنها، كما هو الحال مع الضابط الذي يعرف العربية.”
- اتَّسعت ابتسامته لأصدقائه ثم استطرد: “أعتقد أنه يجب عليكم تبديل حرف الميم بالحاء.”
قال هذا ثم أخرج جواز سفره الروماني فإذ بالجميع في حالة من الذهول، فقرَّر الكاتب إنهاء قصته قبل أن يتفوّه شخوصه بكلمة أخرى، لا لشيء إلا أنه اعتقد أن قارئ القصة لم يكن ليُسرّ بردود أفعالهم.