المعمدان في الأدب العالمي
الهدى 1240-1241 فبراير ومارس 2022
يعتبر يوحنا المعمدان نبيًا في أربعة أديان هي اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام والمندائيّة وهو يسمى في الاسلام بالنبي يحي ويُعدُّ الشخصيّة الرئيسيّة في عيد الغطاس – معموديّة المسيح -.
وقد دفع يوحنا المعمدان حياته ثمنًا لقول الحق وتحدى بطش السلطة الغاشمة وقد وصف السيد المسيح يوحنا بأنه أعظم مواليد النساء إنجيل متى (11: 9-11)، واستشهاد يوحنا المعمدان هو الدرس والعظة المكررة على ألسنة رجال الدين المسيحي باستمرار باعتباره شهيد الحق إذ تحدى الملك هيرودس انتيباس، وأنّبه على تزوجه من امرأة أخيه، هيروديا وجال يندد بهذه الجريمة الأخلاقيّة فشعر هيرودس بعار الفضيحة في قومه فألقى القبض عليه وأودعه سجن قلعة مكاور الأردنيّة –الواقعة إلى الجنوب الغربي في مأدبا، عام 29 ميلاديّة– وفي ليلة عيد ميلاده رقصت له ابنة زوجته سالومي فانتعش قلبه بالرقصة ووعدها بتنفيذ أي طلبٍ تطلبه فسألت أمها هيروديا فأخبرتها أن تطلب رأس يوحنا ولأن «كلام الملوك ملوك الكلام» نفذ هيرودس وعده فأمر بقطع رأس يوحنا، وطبعًا في عيد الغطاس وفي الديانة المندائيّة يؤمن المندائيون بأن هذا النبي جاء ليرجع الناس إلى الشريعة الأولى شريعة الإنسان الأول (أدم وحواء).
لهذا النبي في الأدبيات والتراث الديني الصابئي المندائي الكثير من الروايات والقصص ولابد من الإشارة حول الاختلاف بالتسميّة ما بين يحيى ويوحنا؟ فإن الاسم الآرامي المندائي لهذا النبي هو (يهيا يوهنا) أو (يهيا يهانا) – أي يحيى يوحنا (وهو اسم مركب)؛ وبالعربيّة (يحيى) – الجزء الأول من اسمه الآرامي المندائي، وبالمصادر المسيحيّة (يوحنا) – الجزء الثاني من اسمه الآرامي المندائي. أي يصبح اسم هذا النبي بـ(يهيا يوهنا – يحيى يوحنا). أما كلمة المعمدان التي تلتصق بتسميته المسيحيّة (يوحنا المعمدان) ليست اسمًا وإنما لقب (كنيّة) عُرِفَ بها وذلك لتمسكه بتعميد الجموع الغفيرة التي كانت تقصده لتنال غفران الخطايا والدخول إلى ملكوت الأنوار. ولقد ورد هذا اللقب وهذه التسميّة في النصوص المندائيّة أيضًا، فقد ورد باللسان المندائي الآرامي ما يلي (يوهنا مصبانا) أي يوحنا الصابغ، لأن الصباغة هي المعموديّة المندائيّة التي كان يمارسها. أما معنى الكلمتين التي تؤلفان اسمه المركب فتدوران حول معنى الحياة.
ولقد وردت معانٍ كثيرة لاسم هذا النبي في كتب التراث العربي نورد أهمها: «الذي أحيا عقر أمه» لأنَّ أمه كانت عاقرًا لا تنجب، أو «الذي أحياه من الخطيئة»؛ أو «المحيي»، لأنَّه سوف يحيي الإيمان وعبادة الخالق في قلوب الناس. التقويم الصابئي المندائي المستعمل حاليًا والذي يسمى أيضًا بالتقويم اليحياوي (نسبة إلى يحيى) يبدأ من مولد هذا النبي. مع العلم أن المندائيين يحتفلون بعيد ميلاده (23 مايو) في عيد يسمى (دهفة اد دايما)، ولو أن هنالك رأي لبعض رجال الدين المندائيين يقول بأن هذا اليوم ليس عيد مولده وإنما هو يوم تقبله للصباغة الأولى (التعميد)، فلذلك يسمى هذا اليوم شعبيًا عند المندائيين بـ(بعيد التعميد الذهبي) والذي يتقبل خاصة الأطفال الصغار التعميد المندائي في هذا اليوم. وينسبون ليوحنا بعض الأقوال التي لم تذكر بالإنجيل منها «رأس الحقيقة. . لا تفسد كلمتك»، ولا تحب الفساد والكذب. ورأس إيمانك. . هو الإيمان بملك الأنوار المقيم والثابت في كل الفضائل. ورأس ثباتك. . أن تقاضي نفسك. ورأس علمك. . لا ترمي نفسك بالتهلكة. ورأس معرفتك. . لا تقول ما لا تعرف. ورأس طهارتك. . لا ترمي نفسك بالرجس.. اعطف على الأنفس العانيّة والمضطهدة.
الأدب العالمي
استوحي عدد كبير من الأدباء الحياة الدراميّة الداميّة ليوحنا المعمدان في أعمال أدبيّة خالدة. من أشهرها مسرحيّة «سالومي» للكاتب الإيرلندي «اوسكار وايلد» وكُتبت النسخة الأصليّة من المسرحيّة في اللغة الفرنسيّة عام 1891م. وبعد ثلاث سنوات تم نشر ترجمة إنجليزيّة. لقد وضع الكاتب فكرته الرئيسيّة في أنَّه كما أحبت هيروديا الملك هيرودس أحبت ابنتها سالومي النبي يوحنا المعمدان لكي تملكا المُلك والنبوة؛ أو السياسة والدين لكنَّ المعمدان رفض حب سالومي الأمر الذي جعلها تنتقم منه عندما رقصت في عيد ميلاد هيرودس، وتوصف الرقصة في هذه المسرحيّة بأنها رقصة الحجاب السبع. ثم تطلب بعدها رأس المعمدان.
بدأ التدريب على الظهور الأول للمسرحيّة على خشبة المسرح في لندن، لإدراجها في موسم لندن المسرحي من بطولة «سارة برنهارد» في عام 1892، ولكن الرقابة رفضتها ثم عرضت في مسرح بيجو في شارع آرتشر، بلندن، في 10 و 13 مايو 1905، بطولة ميليسينت موربي في دور سالومي وإخراج فلورنس فار وتوالت العروض.
وفي قصة «هيروديا» للكاتب الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير يقول فلوبير رقصت سالومي مثلما ترقص الكاهنات الوثنيات في بلاد الهند، أو كالفتيات النوبيات القاطنات عند الشلالات، أو كما ترقص الفتيات المُتَهتكات من بنات ليديا. وكانت في رقصها ترُد جسمها ورأسها إلى الوراء، وتتقلب في جميع الاتجاهات كأنها زهرة استخفتها العاصفة فحركتها حيث شاءت أن تحركها. والأقراط اللامعة في أذنيها تقفز فوقهما، بينما قطعة القماش التي تغطي ظهرها تتموج في لمعانها. كما كانت تنْقَدح من ذراعيها وقدميها وثيابها شرارات لا تراها العين، فتُسْعِرُ النيران الحاميّة في قلوب الرجال. وسواء في سرده أم في وصفه، فقد كان فلوبير حريصاً على اختيار ألفاظه وتنقيح عباراته والتزام الدقة في أسلوبه. وتقوم قصة (هيروديا) على ثنائيّة ضدّيّة، أو على مفارقة Paradox، تجمع بين سالومي والقديس يوحنا المعمدان.