القيامة والصعودقضايا وملفات

مُعجزة ما بعد القيامة

الهدى 1209                                                                                                                               مايو 2019

كانت قيامة المسيح من بين الأموات أعظم مُعجزة في حياته على الأرض، لأنَّها انتصاره الكامل والدائم على الموت وعلى شوكته. فهل هناك مُعجزة أخرى بعدها؟

إنَّ كلمات يوحنا في (32،31:20) تبدو الخاتمة الطبيعية لإنجيله. لكن الغريب أنْه يُضيف مُعجزة أخرى! تبدو وكأنَّها لا تُقدِّم شيئاً جديداً، وكأنَّها تكرار لمُعجزة سابقة ورَدَت في (لوقا1:5-11). إنَّ جميع أحداث ما بعد القيامة، التي دوَّنها الإنجيليون الأربعة، لها دلالات روحية وتاريخية ورمزية خاصة، مثلاً: ظهوره في العُليَّة، لكي يمنَح تلاميذه السلام ويفتح أمامهم الأبواب& ظهوره مرَّة أخرى لتلاميذه ومعهم توما، دليل اهتمامه أيضاً بالفرد وبيقين إيمانه& ظهوره لبطرس، ليؤكِّد له الغفران ويُكلِّفه بالخدمة الرعوية& وظهوره لأكثر من خمسمئة أخّ، لإزالة الشكوك في رواية النساء والتلاميذ. أمَّا المُعجزة التي ختم بها يوحنا إنجيله، وقد انفرد بتسجيلها، فما هي دلالتها؟ ولماذا جعلها الخاتمة؟
لابُدّ أنَّ لها دلالة أكبر من مجرَّد إثبات حقيقة قيامة المسيح، لعلَّ يوحنا أراد أنْ يضَع فيها برنامج عمل الكنيسة بعد قيامة المسيح. فعندما تفتَح الكنيسة أبوابها، وتخرُج خارج جدرانها وتحمِل رسالة المسيح المُقام مِن الأموات، المُقام في وسْطها، سوف تواجِه هذه الحالات الثلاث التي اجتاز فيها التلاميذ بعد قيامة المسيح: الفَشَل الذي حَلَّ بهم وهم يعملون مِن تلقاء أنفسهم، ثم النجاح الذي أصابهم وهم يعملون بحسب إرشاد مُعلِّمهم، ثم الشِّبَع الذي نالوه من الرَّب المُقام. هذه المراحل الثلاث هي المبادئ الأساسية في إرسالية الكنيسة في العالم، وهي أيضاً اختبار خدَّام المسيح: فهم يختبرون الفشل، ثم النجاح، لكنهم في النهاية سوف يختبرون الشِّبَع.
(1) حالة الفشل:
اجتمع سبعة من التلاميذ بعد القيامة، يذكر يوحنا أسماء خمسة منهم، والاثنان الأخيرين يبدو أنهما لم يكونا من الرسل بل من التلاميذ. لقد وحَّدت القيامة صفوفهم، بعد أن شتَّت الصليب شملهم. وكان بطرس أحدهم، فقال: أنا قرَّرت الذهاب للصيد. وليس في هذا انحراف عن الجديَّة في الإرسالية، بل أراد أن يعمل عملاً شريفاً يقتات منه، في الفترة بين رجوعهم إلى الجليل وبدء خدمتهم العلنية. وواضح أن المسيح عندما ظهر لهم لم يوبِّخه على ذلك، لأنه يُكرم قيمة العمل.
وافقت بقية المجموعة على اقتراح بطرس، لعلَّه كان أكبرهم سِناً، لكنه المُتقدِّم بينهم دائماً. فذهبوا معاً في سفينته، لكنهم لم يُمسِكوا شيئاً طوال تلك الليل، حتى الصباح. كانت ليلة اليأس والفشل الذريع.
(2) حالة النجاح:
على الرغم من أنَّ الليل هو أنسب أوقات الصيد، حيث الهدوء والسكون، إلا أنهم ظلُّوا مُعذَّبين في تلك الليلة، ومع أشعَّة نور الصباح ظهر لهم المسيح على الشاطئ، وهم لم يعرفوه. ففي الوقت الذي لم يتوقُّعوا فيه أي صيد، أظهر لهم يسوع نفسه. لقد ذكرت الأناجيل الأخرى وعد المسيح لتلاميذه بالاجتماع معهم في الجليل، أما يوحنا فقد انفرد بتسجيل تحقيق ذلك الوعد في الجليل على بحيرة طبرية، حيث يسكن معظم التلاميذ.
وعندما ظهر لهم ناداهم: يا غلمان ألعلَّ عندكم إداماً؟ أي ما يؤكل مع الخبز، والمقصود هنا السمك. فظنُّوه جليلياً جاء ليشتري منهم سمكاً. إنه يعرف كلّ شيء، لكنه يريدهم أن يعترفوا أولاً بفشلهم. فأجابوه: لا. فأرشدهم بأن يلقوا الشباك على الجانب الأيمن من السفينة، حتى يجدوا سمكاً. وإذْ أطاعوه اختبروا نجاحاً عظيماً مُبهراً. لقد بدَّل فشلهم إلى نجاح، ويأسهم إلى رجاء حيّ.
هنا تحرَّكت مشاعر يوحنا الحبيب، فرأى وعرف أنَّ هذا هو يسوع، وأنَّ النجاح الذي صادفهم هذه المرَّة، ذكَّره بالنجاح الذي صادفهم في مناسبة سابقة. فقال لبطرس: «هو الرَّب». وما أنْ سمع بطرس ذلك، ارتدى ثيابه وألقى بنفسه بسرعة في المياه ليسبق السفينة إلى الشاطئ حيث الرب ينتظر، غير مكترث بالسمك أو الشبكة أو السفينة أو الرفاق. إنَّه نفسه الذي قال ليسوع في موقف شبيه سابق: أخرُج من سفينتي يا ربّ لأنِّي رجل خاطئ.
فكان يوحنا أسرع من بطرس في الإدراك، وكان بطرس أسرع من يوحنا في العمل المبني على ذلك الإدراك. وهكذا عبَّر كلٌّ منهما عن محبَّته للرب بطريقته الخاصة. يوحنا، وقف ساكناً مُتأمِّلاً مُنتظراً حتى ترسو السفينة على الشاطئ. أما بطرس الغيور المُندفِع، فقد ألقى بنفسه في البُحيرة دون أنْ يتمهَّل. أما دافعهما للتعبير عن هذا الحُبّ فهو واحِد: «هو الرَّب»، إنه سِرّ النجاح والبركة، الذي في طاعته تحوَّل الفشل إلى نجاح.
(3) حالة الشبَع:
بعد أنْ اختبروا الفشل ثم النجاح، خرجوا من السفينة إلى الشاطئ حيث كان يسوع قد أعدَّ لهم وجبة طازجة شهية بعد ليلة مُتعِبة. فذاك الذي كان يسألهم عن الإدام/ السَّمك، قد جهَّز لهم السَّمك والخبز والنار. ولا نعرف من أين جاء بالخبز والسَّمك، لكننا نعرف أنه ربّ البرّ والبحر وكل ما فيهما. إنه يفكِّر في احتياجاتهم ويدبِّرها بحسب سُلطانه. الاحتياجات العاجلة بكلّ أنواعها، والاحتياجات البعيدة المدى بكل تفاصيلها.
وكما أشبع بطونهم الفارغة مِن الطعام، أشبع نفوسهم الخائرة مِن التقدير والإكرام. عندما طلب منهم أنْ يقدِّموا من السَّمك الذي أمسكوه للتوِّ، حتى يُشعِرهم بأنهم أنجزوا شيئاً يستحقّ التقدير والتكريم. لقد أعطاهم عندما فشلوا، ومع ذلك يُشعرهم بكرامتهم وقيمتهم وإنجازهم الكبير. إننا عندما نفشل لم يساعدنا ويُعطينا النجاح فحسب، وإنما يعطينا تقديره لقُدراتنا، ويُشجِّعنا أنً نُقدِّم له ممَّا سبق أن أعطاه هو لنا. فكان لسان حالهم: منك الجميع ومن يدك أعطيناك.
وكعادته تقدَّم بطرس أولاً وجذب السفينة إلى الشاطئ إطاعة لأمر يسوع، وإذا بالشبكة مُمتلئة سمكاً كثيراً كبيراً. ويسجِّل يوحنا العدد (153). وقد حاول البعض اعتباره رمزاً، لكن لعلَّه إشارة إلى عدد أنواع السَّمك الذي اصطادوه وليس إلى عدد السمك. أو ربما هو العدد الصحيح لأسماك كبيرة الحجم. وفي كل الحالات كان عدد السمك كثيراً، وقد اهتمّ التلاميذ بإحصاء عدده، ومع هذه الكثير لم تتخرَّق الشبكة، أي لم تُفقَد سمكة واحدة من الذي السَّمك الذي أمسكوه.
دلالة هذه المعجزة:
لقد اختبر التلاميذ هذه الحالات الثلاث: الفشل والنجاح والشِّبَع. إذْ علَّمهم بسوع الدرس الأخير: في وقت الفشل واليأس، سوف يأتي بطريقة مُدهِشة ويُعطي النجاح الباهِر، ليس ذلك فقط، بل سيُعطي ويُشبِع أكثر جداً مِن المُتوقَّع، لأنه «هو الرَّب». لم يكن في حاجة أن يُظهِر قوَّته ومَجده لتلاميذه بعد قيامته، بل أراد أنْ يضعهم على الطريق الصحيح للخدمة.
وإذْ اختَتَم متَّى ومرقس ولوقا رواياتهم الإنجيلية بأمْر المسيح لتلاميذه أنْ يذهبوا ويكرزوا، وبوعده بأنْ يكون معهم ويُنجِح خدمتهم، اختَتَم يوحنا روايته بمُعجزة تؤكِّد ذات المعنى، وأنَّ النجاح متوقِّف على حضور يسوع بينهم بالروح وطاعتهم إرشاده. فإذا كنَّا نختبر الفشل والضيق والألم في خدمته، لنعلم أنَّ هناك بابًا مفتوحًا للنجاح والفرج والراحة «هو الرَّب». الذي يملأ اجتياجاتك ويُشبع بالخير عُمركِ فيُجدِّد كالنَّسر شبابك..

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى