إلتفاتة
الهدى 1209 مايو 2019
في عمق آلامه، وفي لحظة استنارة، هتف المرنم: «التفت إلى صلاة المضطر…» (مز 102: 17). ومَن منا لا تلحقه تلك الساعات والأيام التي يضيق العيش، فنتنهد ألمًا ونستنشق مرارةً؟ ومن منا لم يشعر أحيانًا أنه ليس الأبواب فقط موصدة أمامه بل والحياة نفسها؟
تلك المرات التي يغيب فيها الناس رغم كثرتهم، وتندر الأصدقاء رغم وفرتهم، وتذهب العزيمة حتى في وجود الصحة، وتدمع العين بلا سبب ولكل سبب، فتغلُبُ علينا مشاعر الضيق واختناق الأنفاس.
تلك الأيام التي فيها لا ندري لماذا حدث معنا كل هذا؟ ولماذا يستمر؟ هل بسبب مغادرة الأحباء؟ أم بسبب أحلامنا المتعثرة؟ أم ذكريات جميلة انقضت ولا أمل في رجوع مثيلاتها؟ يا لها من لحظات على هيئة سنين، وأيام تصيب الحياة بأكملها بالشلل والتوقف! تُرى ما الذي نحتاج إليه في مثل هذه الظروف التي، وإن اختلفت أسبابها، تجمعنا نتائجها؟ هل نحتاج إلى تلبية مطالب النفس ومطامحها؟ أم راحة من أعباء العمل وضغط الأشخاص؟ أم مكان نستنشق فيه هواءً برائحة الهدوء؟ أم ماذا؟ نعم، يجوز أن نحتاج إليهم جميعًا، ولكن سيظل صوتٌ صارخٌ داخلي بوحدةٍ ووجع؛ لذا، فنحتاج ياصديقي معًا إلى تلك «الالتفاتة،» فمضمونها يناجي الأعماق بترنيمة عذبة مفادها «أنا أشعر بك.»
يالها من كلمات قليلة، لكنها، وبصدقها، تخترق دروب النفس ومكامنها! كم نحتاج جميعًا إلى شخص لا يسمعنا وهو مضطر، بل يصغي لنا بلهفة وصبر. يعي كلماتنا بحب. يلتفت إلينا، لملامحنا، لنبرة مشاعرنا، وحِدَّة إزعاجها لنا. يحضن أرواحنا بعينيه. ويُضمد جروح نفوسنا بإيمائة مُعبرة، فيتغير القلب ويترنم بالبهجة، لأنه وجد أليفه وخليله. وقتها تنعكس الكآبة لتسبيحة، ويغدو اللسان فرِحًا متنطقًا بألطاف بعد حزن.
يا صديقي، تلك الالتفاتة ليست شيئًا يُشترى وإنما يقينًا يُكتشف. ليست كلمات تُطمئن بل حقيقة تُختبر. هذه الالتفاتة ليست مجرد تطورًا في ظروف حولك، أو وجود لأشخاص بعينهم بجوارك فحسب، بل هي بداخلك. نعم بداخلك، لأنها يقينٌ صارخٌ بأنك لست بمفردك، وهناك من يشعر بك، من يعرفك أكثر منك، من يهتم بصغائر حياتك المُخجلة منها والمُبهرة.
تلك الالتفاتة هي إعلان بأن هناك شخص أقوى منك، قادرٌ على أن يعينك على استيعاب أحداث أو ظروف تخشى أن تقهرك. إنها منظور جديد للحياة بأسرها، تناجيك بأن هناك رفقة تصاحبك ولن تتركك وإن تركك الأقربون. إنها استنارة واعية بأن الله بنفسه معك، بداخلك وبجوارك. لم ولن يحتقر مشاعرك بل يحتويها. لا يستهزء بآلامك بل يداويها. يسمعك حين لا تستطيع الكلام، ويرتب لك المواقف والأشخاص والأحداث التي تؤكد أنك لستَ بمفردك.
إذًا فلتطمئن ياصديقي، لأن هذه الإلتفاتة هي اهتمام شخصي من إلهٍ محب. إنها أحتواء لمشاعرك ومخاوفك، لطموحك وإحباطك. تحدث فهو يسمعك، بُح بأسرارك فهو صديقك، اعطه مجالًا لينصحك، فالقدير المشير هو رفيقك. حينها، تهتف مع المرنم: «التَفَتَ إلى صلاة المضطر…»