آية في قرينتهادراسات كتابية

اذبحوا أعدائي

الهدى 1244-1245                                                                 يونيو ويوليو 2022

من الأقوال الصادمة التي صدرت عن فم يسوع المسيح، والتي اعتبرت من قبل البعض، دليلًا على أنه، شجّع على القتل والذبح والعنف، قوله: «أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي». (لوقا 19: 27).
إذا ما قرأنا كامل النص الموجود في إنجيل لوقا، (19: 11-27). نلاحظ أن يسوع كان يقدّم مثلاً. يذكر لوقا: «وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هَذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً لأَنَّهُ كَانَ قَرِيب اًمِنْ أُورُشَلِيمَ وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ. فَقَالَ: «إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكاً وَيَرْجِعَ.» (لوقا 19: 11-12). نفهم من سياق النص، أن تلك الكلمات القاسيّة، مع أنها وردت عن فم المسيح، لكنها، كانت كلمات، السيّد الملك، الذي هو محور المثل، الذي قدّمه يسوع. كان يستخدم لقب «السيّد»، لكل الذين يستخدمون السلطة، إن كان ملكًا أو قائدًا أو مسؤولًا. إنّ التكلم بالأمثال كانت من الأساليب الأدبيّة الأساسيّة التي استخدمها يسوع في تعليمه. مثلًا، إذا ما قرأنا الاصحاح الثالث عشر، من إنجيل متى، نرى أن يسوع قدّم خمسة أمثال عن ملكوت الله. يعلّق البشير متى على كثرة أمثاله، قائلًا: «هَذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَالٍ وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ». (متى13: 34-35). الأمثال هي بطبيعتها مجازيّة، مهمتها تسليط الضوء، على أمور مهمة للإنسان. في طريقة التعاطي مع الأمثال، يشدّد المفسّرون، على أننا لا نستطيع اتخاذ كل تفاصيل مثلٍ ما، بعين الاعتبار عند التفسير، إنما يكون في كل مثل، نقطة أو نقتطان محددتان يريد المسيح، إيصال رسالة روحيّة من ورائها. أيضًا هناك أمر أساسيّ، ينبغي التوقف عنده، هو أن المسيح أثناء تعليمه، لم يستخدم أمثالًا عندما أراد أن يعطي تعليمات واضحة لتلاميذه، لكنه استخدم الأمثال، لإيصال رسائل روحيّة، وليس تعليمات.
وبالتالي، ما صدر عن فم يسوع، كان في سياق، تقديمه مثلًا يرتبط بملكوت الله. وكانت المناسبة، دخوله الأخير إلى أورشليم، ومنها إلى صليب الجلجثة. ظنّ العديد من الشعب، في ذلك الوقت، أن يسوع، سيدخل إلى أورشليم، كيما يجيّش الشعب، ضد حكم الامبراطوريّة الرومانيّة، ويؤسّس مملكة أرضيّة، يكون هو ملكها. نرى تفكير الشعب حول يسوع الملك الأرضي، في معجزة اشباعه، أعدادًا كبيرة جدًا، من وجبة مؤلفة من خمسة أرغفة شعير وسمكتين. يخبرنا البشير يوحنا، أنه في نهايّة المعجزة، أراد الشعب أن يجعلوه ملكًا، لكنه رفض. يذكر النص ما يلي: « فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: «إِنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ!». وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ.» (يوحنا 6: 14-15). لم يكن يسوع في هذا الوارد على الاطلاق، لأن مملكة المسيح التي أتى ليؤسسها، هي مملكة روحيّة سماويّة، وليست مملكة أرضيّة. نطق يسوع بمثل «المِنا»، في وقت كثرت فيه الاشاعات غير الصحيحة عن قرب تأسيس يسوع لمملكته الأرضيّة.
إن المثل الذي ربطه المسيح بملكوت الله، هو عن رجل شريف الجنس، أراد أن يذهب إلى بلاد بعيدة كيما يتوّج ملكًا ويرجع. وقبل ذهابه، دعا عشرة من عبيده، وأعطى لكل واحد منهم، «مِنا». «المِنا» هو مبلغ من المال كانت قيمته آنذاك، رواتب ثلاثة أشهر للعامل. كانت المهمة التي كلّفهم بها، المتاجرة بها، أثناء غيابه إلى أن يعود. وحيث أن أهل مدينته كانوا يبغضونه، أرسلوا وراءه قائلين: «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هَذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا.» (لوقا 19: 14). عندما عاد ملكًا متوّجًا، دعا عبيده كي يقدّموا حسابًا عمّا قاموا به. أتى الأول، فَجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ مَنَاكَ رَبِحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينا ًفِي الْقَلِيلِ فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدُنٍ. ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لِهَذَا أَيْضاً: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدُنٍ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعاً فِي مِنْدِيلٍ. لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ. فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِباً؟ ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ الْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ الْعَشَرَةُ الأَمْنَاءُ. فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي». (لوقا 19: 16-27).
إن سبب نزع السيّد الملك، للمنا الواحد الذي كان قد سلّمه للعبد سابقًا، وأعطاه للذي معه العشرة أمناء، هو لأنَّ العبد لم يكن أمينًا على وصيّة السيّد له، بالمتاجرة به. إن تصرّفه هذا وإهماله لمسؤوليته، اعتبره السيّد رفضًا للإقرار بسلطته الملكيّة، بسبب نظرته السلبيّة إليه. كان ذلك العبد من ضمن أولئك الذين، لم يريدوا أن يملك عليهم الملك، وقد بذلوا جهودا، لكي لا يتحقق ذلك، من خلال ارسالهم سفارة اليه، قائلين: «لا نريد أن يملك هذا علينا» (لوقا19: 14). لهذا قال السيّد الملك، « أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي» (لوقا 19: 27).
اعتقد المصلح الإنجيلي جون كالفن، أن هذا المثل هو نبوءة اسخاتولوجيّة عن دينونة المسيح الملك، للذين لم يؤمنوا به، ولم يصغوا لوصيته، ولم يكونوا أمناء على ما ائتمنهم عليه. ولم يريدوا أن يملك على حياتهم بالإيمان الحي العامل بالمحبة. هذه هي النقطة الأساسيّة الوحيدة، التي يريد المسيح أن يوصلها لتلاميذه ولنا في هذا المثل.
يتّفق مفسّرو الكتاب المقدس، أن هذا المثل لا يتكلم عن موضوع القتل والذبح، وإنما يتكلّم عن موضوع الدينونة الأسخاتولوجيّة الأخيرة، عندما يأتي المسيح ثانيّة في المجد، ليدين الأحياء والأموات، كما تؤمن الكنيسة. إذا ما أكملنا قراءة نفس الاصحاح الذي نطق فيه يسوع بالمثل، أي الإصحاح التاسع عشر، نصل إلى نبوءة يسوع عن دمار أورشليم. يذكر النص. بعد أن بكى يسوع على المدينة، قال لها: «فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ». (لوقا 19: 43-44).
يرى مفسّرون أن مثل يسوع الذي قدمه، وذكر فيه عن القتل والذبح، قد تحقّق جزئيًا، بتدمير الرومان لأورشليم وهيكلها، في السنة 70 ميلاديًا. إن كلمة «اذبحوهم»، باللغة اليونانيّة، التي وردت في المثل، تعني بالأصل اليوناني، «اذبحوهم بالسيف». والحقيقة التاريخيّة، تشير إلى أنه تمّ ذبح، الكثير من سكان أورشليم، بسيوف الرومانيين، وبسيوف بعضهم البعض. وبالتالي، يعتقد مفسّرون أن المثل قد تحقّق جزئيا، بالدينونة التي وقعت على أورشليم، لأنّ سكانها، كما قال يسوع، لم يعرفوا ما هو لسلامهم، ولم يعرفوا زمان افتقادهم. (لوقا 19: 42 و44). الا أن المثل يتحقّق بشكل كامل في يوم الدينونة الأخير، عندما يأتي المسيح الملك ثانيّة، ليدين الأحياء والأموات.
لقد قال يسوع في عظته على الجبل: «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ.» (متى 5: 44). وصلى على الصليب قائلًا: «يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». (لوقا 23: 34). لهذا فالسؤال، الذي من البديهي، أن نسأله، هو: هل يمكننا الاعتقاد أن من دعا إلى محبّة الأعداء، يمكنه أن يدعو إلى ذبحهم؟ هل من طلب الغفران لصالبيه، يمكنه أن يدعو إلى قتل وذبح الناس؟ حاشا وكلا.
لم يكن التلاميذ مجموعة عسكريّة، ولم يكن يسوع قائدًا عسكريًا. لم يأت يسوع ليؤسس مملكة أرضيّة على دماء الناس، كباقي القادة والملوك الأرضيين. فكيف يمكن أن يطلب من تلاميذه الذبح والعنف، والقتل. لم يذكر سفر أعمال الرسل، الذي هو السجلّ المكتوب، لأعمال ونشاطات تلاميذ يسوع، أي حادثة قتل، أو ذبح قام بها التلاميذ. إن السيف الذي استخدمه التلاميذ، في عملهم وكرازتهم، هو سيف كلمة الله، كما قال كاتب سفر العبرانيين: «لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ.» (عبرانيين 4: 12). يخبرنا الرسول بولس، عن نوعيّة الملكوت السماوي، الذي أتى المسيح يسوع ليؤسسه على الأرض. قال: «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْباً بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ.» (روميه14: 17).

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى