الميلادملفات دينية

التجسد .. مبادرة أم رد فعل؟

الهدى 1239                                                                                              يناير 2022

«التجسُّدْ».. ليس من السهل على العقل البشري قبول أن يتجسَّد الله -تعالى- في لحظة ما من التاريخ، وتُكتَب حياته بين قوسي المذود والصليب؛ ليعود ثانيًة إلى سماه! فهل قرَّرَ الله في لحظة ما أن يتجسد ليفتدي الإنسان؟ أم أن هذا القرار كان في عقل الله منذ الأزل؟ فالترتيب التاريخي للأحداث بدأ بالخلق، فالسقوط، ثم التجسد، ثم الفداء. والقراءة السريعة لهذه العناوين الكبرى تجعل «التجسُّد» وكأنه رد فعل! فعندما أخطأ الإنسان، قرر الله أن يتجسَّد، إذ فوجئ بسقوط الإنسان الذي خلقه على صورته!
لكن من خلال الكلمة المقدسة التي أفصحت عما كان في عقل الله من ترتيب، يظهر غير ذلك، فعلى سبيل المثال يقول الرسول بطرس: «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ» (1بطرس 1: 8- 20)، وإن كان الرسول بطرس يتحدث عن الفداء، والفداء مرتبطٌ بالتجسد، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الترتيب كان في خطة الله الأزلية (قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ) -قبل أن يظهر الإنسان إلى حيز الوجود- أن يتجسَّد الله، ومن هنا يتجلى بوضوح أن «التجسُّدْ» مبادرة إلهية لا رد فعل، ويتجلى أمران هامان على الأقل من هذا:
1. الله كُلّي العلم: فالله لا يُفاجأ، حتى يقرر قرارًا جديدًا في لحظة ما من التاريخ، فهو لم يُفاجأ بسقوط الإنسان الذي خلقه على صورته، بل خطة الفداء كانت معروفة سابقًا قبل تأسيس العالم، أي بالأحرى قبل أن يسقط الإنسان، أما الإنسان يضع خطة وخطة بديلة، لأنه لا يعلم المستجدات، وهذا ما يسمى في علم الإدارة العامة بمبدأ «مرونة الخطة»، ومفاده التخلي عن الخطة –إذ دعت الضرورة لذلك- مع التمسك بالهدف، فمثلاً لو قرر أحدهم أن يسافر إلى القاهرة (الهدف) بالقطار (الخطة)، لكن هناك عطلًا في السكك الحديدية بسبب حادث انقلاب أو حريق قطار، فهل يتخلى عن الهدف (السفر للقاهرة)؟! قطعًا لا.. بل يسافر للقاهرة (الهدف) بالسيارة (خطة بديلة)، في هذا المثل المسافر فوجئ لأنه ليس كلي العلم، لذلك قرر قرارًا جديدًا كرد فعل.
2. محبة الله غير مشروطة: محبة الإنسان للإنسان لأجل كذا وكذا، بينما محبة الله للإنسان بالرغم من كذا وكذا! ومعنى أن «التجسُّدْ» كان في خطة الله الأزلية -قبل تأسيس العالم- أن محبة الله للإنسان كانت بالرغم من علمه بسقوطه، لذا فهي محبة غير مشروطة، لقد جاء عن محبة إسحق لعيسو: «فَأَحَبَّ إِسْحَاقُ عِيسُوَ لأَنَّ فِي فَمِهِ صَيْداً» (تكوين 25: 28)، كما جاء عن محبة يعقوب ليوسف: «وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ (يعقوب) فَأَحَبَّ يُوسُفَ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ بَنِيهِ لأَنَّهُ ابْنُ شَيْخُوخَتِهِ» (تكوين 37: 3)، وغيرها. هنا تكررتا كلمتان هامتان، هما: «فَأَحَبَّ»، «لأَنَّ»، والكلمة الثانية توضح أن المحبة كانت لها سبب، لذا فهي محبة مشروطة، أما محبة المسيح جاء عنها: «فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 7- 8)، وهنا لم يذكر الرسول بولس سببًا حسنًا فينَّا! ليس هذا فحسب، بل عندما تحدث عن محبة الله، لم تكن مجرد عاطفة جياشة، وإنما محبة عملية؛ إذ مات المسيح لأجلنا! وهنا وَجَبَ التفريق بين «محبة الله»، «رضا الله»، فمحبة الله تتجه نحو الإنسان، أما رضا الله فيتجه نحو سلوك الإنسان. كذلك فإن محبة الله ثابتة وغير مشروطة، أما رضا الله فيتوقف على السلوك، فالقبول لا يعني الموافقة.
نعم لقد كان «التجسُّدْ» في لحظة ما من التاريخ، يقول الرسول بولس: «وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4- 5)، ومعنى ملء الزمان: «زمن البلوغ، وهو الزمان المحدد من الله الآب.» وكما جاء هذا التعبير (ملء الزمان) عن «الميلاد» جاء أيضًا تعبير «الوقت المعين» عن «الفداء»، إذ يقول الرسول بولس: «لأَنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ مَاتَ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ» (رومية 5: 6)، فالمسرح كان مُعدَّا للأحداث روحيًا وسياسيًا.
فمن الناحية الروحية: كما يوضح الرسول بولس افتداء الذين هم تحت الناموس (اليهود)، «بمعنى تحريرهم منه، لينال اليهود والأمم التبني (ع. 5) وينتهي زمن العبودية للناموس، ولأن الأمم قد صاروا أبناء الله، وورثة لوعد البركة.» فالناموس هو المرآة وليس الماء! مرآة رأى الإنسان فيها أقذاره، لكنه لم يكن الماء لغسل تلك الأقذار! تجلى للإنسانية عبر تاريخها أن الناموس كمن يضع يديه تحت قدميه، محاولاً أن يرفع نفسه للخروج من الحفرة، وإذ بالإله يمنحه جناحيّ النسر ليُحلِّقْ عاليًا، إنها «النعمة»!
ومن الناحية السياسية: كان المسرح مُعدًّا أيضًا للتجسد، إذ كان اليهود في ذلك الوقت مُستعبدين تحت حكم الرومان، منتظرين بشغف من يخلصهم، ويكسر كبولهم، حتى إن بعض من قابلهم يسوع، فرحوا بالمقابلة الأولى منادين له: «مسيّا»، وفي حقيقة الأمر.. كان في ظنُّهم أنه مسيّا سياسي، على سبيل المثال: أندراوس: «هَذَا (أندراوس) وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ فَقَالَ لَهُ: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا»» (يوحنا 1: 41)، المرأة السامرية: «قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ»» (يوحنا 4: 25)، والتلاميذ في عمومهم كانوا يظنونه هكذا حتى وقت الصلب، لكن يسوع تمم خلاصًا أعظم.
خلاصة القول.. نعم كان حدث «التجسد» في وقتٍ ما من التاريخ (ملء الزمان)، والفداء كذلك الأمر (الوقت المعين)، لكن القرار كان في خطة الله الأزلية (قبل تأسيس العالم)، لأن محبة الله للإنسان لم تكن على أساس استحقاق إنساني، لكن من فيض نعمة إلهيّة، إذ يقول الرسول بولس: «كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ» (أفسس 1: 4)، فإن كان الرسول بطرس ذكر أن «الفداء بدم المسيح» معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم، فالرسول بولس ذكر أيضًا أن «الاختيار» كان قبل تأسيس العالم، ومن هنا يمكن القول أن «التجسُّدْ» هو مبادرة حب إلهية، لا رد فعل إلهي، لأن الله كلي العالم بسقوط الإنسان، كما أن محبته للإنسان بالرغم من علمه بسقوطه.

د. القس مدحت موريس

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
نائب رئيس مجلس الإعلام والنشر في سنودس النيل الإنجيلي
رئيس لجنة الإعلام والنشر في مجمع المنيا
كاتب وله عدد من المؤلفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى