الحب الإلهي بين غياب المعنى وتفرد المضمون
الهدى 1240-1241 فبراير ومارس 2022
إن كلمة الحب هى بمثابة الغاية الحالمة التي يبحث عنها البشر منذ فجر التاريخ. فالحب هو الاحتياج العميق المتجذر داخل النفس الإنسانية على مرّ العصور وكر الأجيال. وهو الأمر الذي تجد فيه المنظمات الدولية ملاذًا مناسبًا، وإطارًا حاكمًا لصياغة قرارتها حيال القضايا المجتمعية المختلفة. وبنفس الكيفية تظهر بقوة وعنفوان في أوساط المثقفين والمفكرين كقيمة كانت يجب أن تكون ولكن تشوهت ملامح وجودها.
بينما نجد الشباب حول العالم يبذولون ما في وسعهم للأحتفاء بهذا الأمر. نجد الكثير من المظاهر التي تحاول أن ترسخ لهذه القيمة حتى ولو كانت تفتقد للمعنى وتُغيب المضمون. فنجد على سبيل المثال لا الحصر، عيد الحب بشقيه الغربي والشرقي يتم الأحتفال به على مستوى العالم سنويًا. هذا العيد الذي تعود مرجعيته إلى القديس فالنتين (باللاتينية: Valentinus). وهو قديس روماني من القرن الثالث الميلادي، وقد كان يُحتفل بهذا العيد منذ العصور الوسطى بتقليد مودة الحب.
وعلى الجانب الأخر، من كل هذا الزخم حول هذه الكلمة العميقة في مدلولاتها. نجد الكثير من التشوه والتشويه لمعناها المتفرد والنبيل. وأصبحت الكلمة الأكثر غيابًا على مستوى المضمون. بل هى القيمة الأكثر نضوبًا على مستوى العالم. فبينما يتشدق بها الكثير من الناس والدول، نجد الحروب والصراعات تهز أرجاء المسكونة والدول والمجتمع بكل ثناياه.
وسوف أستعرض باختصار، ثلاثة أشكال لمعنى كلمة الحب، تقودنا من مرحلة غياب المعنى البشري والسطحى لهذه الكلمة إلى الصورة الأمثل والمتفردة لمضون وماهية الحب. هذا الحب الذي من خلاله عبر الله عن نفسه لخليقته في شخص يسوع المسيح. وقد قال في يوحنا 13:15: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ». هذا الإعلان عن الحب الإلهي الذي هو، أفضل وأعمق وأوضح صورة على الإطلاق لهذه الكلمة «الحب» التي عرفها الإنسان، وطالما تطلع إليها. وهو الأمر الذي أكسبها القوة لإمتلاك الكيان، والوصول إلى ما هو أبعد من حدود المعقول وغياهب المجهول. وهذه الأشكال كالتالي:
حب الأيروس (Eros):
إيروس، هو إله الحب والرغبة في الميثولوجيا اليونانية. وهو الحب الأناني الشهواني. وكان اليونانيون القدماء يعبدون الإله إيروس باعتباره إلهًا للشهوة. إن «حب الأيروس» هو حب يتسم بالأخذ ورغبة الإمتلاك. وكذلك، يأتي بمعنى «الحب الطفولي». ويظهر جليًا في الطفل الصغير الذي يرغب فى أمتلاك كل ماهو حوله، حيث تسيطر عليه شهوة الأنا لامتلاك كل شيء. فهو الحب الشهوانى الاستئثارى.
ومن ثم، يتضح أمام نظر القاريء العزيز مدى الغياب العميق لمعنى الحب السامي والوجودي النبيل. فقد أختُزل المضمون في مجرد رغبات مُشوهة ومُشينة، تسعى للإمتلاك الشهواني والأناني وحسب. فقد غُلفت الأنانية الموحشة بكلمة الحب الباذلة.
وبالتالي، غاب المعنى وضاع المضمون، وغلب القبح على الجمال، وأستشرى في أوصال المجتمعات والأمم. وأصبح الجميع يتسأل ويبحث بشكل دوؤب عن صياغة جديد لملامح هذه الكلمة. وهل من سبيل أمام البشرية جمعاء للحصول عليها بالكيفية التي تصرخ داخلهم لطلبها؟
حب الفيليا (Philia):
حب الفيليا هو الحب الإنسانى الطبيعى، أو الحب الرومانسى. وهو نوع آخر من الحب أكثر نضوجًا من حب الأيروس، فهو الحب الذي يتبادله الناس فيما بينهم، حيث يتبادلون المشاعر الإنسانية الرقيقة، ومن خلاله تسود مشاعر الود بين البشر، ونرى هذا الحب فى علاقات الصداقة بصفة عامة.
وفي سياق مُتصل، نرى مدلول حب الفيليا أيضًا فى العلاقة بين الرجل والمرأة. هذه العلاقة التى تتخذ أحيانًا اتجاهًا عاطفيًا خاصًا، وفيه تخرج شحنات عاطفية متدفقة. لذلك، يسمى بالحب الرومانسى. والجدير بالذكر في هذا الإطار، أن حب الفيليا أرقى من حب الأيروس وأعمق، إلا أنه يُخفق فى بلوغ الاتحاد والفرح الداخلى. فهو يبقى محدود في إيجاد معنى عميق لمفهوم الحب، ويظل مُقيد وقابع عن الوصول إلى مرحلة من مراحل التفرد لمضمون كلمة الحب.
فنجد الإنسان لا يجد الإشباع الداخلي العميق من الحب الذي يُشبع له ذاته. ويجعله يحيا الصورة التي خُلق لكي يكون عليها. وتظل كل محاولاته في بلوغ بُعد جديد في علاقته بذاته، ومع من حوله محكوم عليها بالفشل الوجودي. وهكذا يظل قابعًا داخل جدران من الصوان الصلبة التي لا تتحرك أو تحرك ساكنًا. ليظل نفس السؤال مطروحًا وبقوة، هل من سبيل أمام البشرية جمعاء للحصول على الحب بالكيفية التي تصرخ داخلهم لطلبها؟ وهل من كينونة وكيان غير محدود يُشبع به الكيان الإنساني المحدود من الحب، ويحقق سيرورة وجوده؟
حب الأغابى (agape):
لقد بلغنا وجهتنا الأبدية السرمدية والوجودية والبادئة منذ الأزل، والتي تسمى الحب الإلهي «أغابي». فمن بين معاني ومدلولات كثيرة لهذه الكلمة «أغابي- agape» في اللغة اليونانية، سوف أنبر باقتضاب شديد عن الجانب الإلهي المحب والمحي. والذي أوجد المعنى الغائب، والمضمون المتفرد لكلمة الحب.
في سياق مُتصل، لقد نبر (سي. أس لويس)، على مقولة في سبيلها لأن تقودنا إلى منعطف جديد تمامًا لمفهوم متفرد للتعبير عن الحب الإلهي. هذه المقولة التي جاءت على فم أحد أشهر أباء الكنيسة وهو أغسطينوس: «لقد خُلقنا لنفسك، ولن تستريح قلوبنا حتى ترجع إليك».
وقد تلاحظ صديقي القاريء الكريم، أننا ذهبنا إلى علاقة حب من نوع خاص وفريد. فهى ليست ذلك الحب الأناني الأجوف «الأيروس». وليست هى تلك العلاقة المحدودة التي تتحدث عن ذلك الحب الرومانسي «فيليا» أو «فالنتين» والذي ربما تُذهبه التحديات والصعاب أدراج الرياح.
هذا الحب الإلهى أو الحب المسيحى، الذي يُعد أسمى مستويات الحب على الإطلاق. فهو الحب المنبثق من الإله الذي الذي هو «الله محبة». فكينونته غير المنتمية أصلًا إلى هذه البشرية، تفيض حبًا. وهو المبدأ الحاكم لطبيعة العلاقة الأنطولوجية «الوجودية» الكائنة في الله الثالوث «الأب والأبن والروح القدس».
في الواقع، لقد خُلق الإنسان ليتمتع بهذه العلاقة مع خالقه. ويتحقق سبب وجوده النهائي من خلال الشبع الداخلي لطبيعة العلاقة مع هذا الإله كلي المحبة. وهذه المحبة هى التي طالما أعلنها الله للإنسان من بداية وجوده على الأرض. ولكن رفض الممثلين للطبيعة الإنسانية في ذلك الوقت أدم وحواء هذا النوع المتفرد في مضمون علاقة الحب وماهيتها.
وبالتالي، سقط الجنس البشري بأسره في براثن رفضه لهذه العلاقة. وأصر أن يقتفي أثر الإيروس، والفيليا، تاركًا وغير مكترثًا بالأغابي. لذلك، نستطيع أن نرصد بدقة التشوه الذي ألم بالتاريخ الإنساني عبر العصور.
وفي وقت فريد من عمر الزمن، ولحظة فارقة من الوجود، نرى الإله المحب يُعلن عن ذاته من جديد للإنسان مرة أخرى. وذلك من خلال «اللوجوس الخاص» أو «الكلمة الذي صار جسدًا»، يسوع المسيح «أدم الأخير». ليدعوه من جديد لعلاقة الحب الإلهي «أغابي» التي خُلق لكي يكون عليها. وليغير سؤالنا الذي لم نجد له أجابات من قبل، أو بقيت أجابته حائرة، ونحن نتحدث عن الإيروس والفيليا. ويمنحنا أجابات شافية ووافية عن طبيعة الحب الإلهي الممتلئة بالمعاني، والمتفردة في المضمون، والتي تهز الكيان، وتسكت صرخة الحب المكتومة في الإنسان.
فهل تقبل هذا الحب الإلهى الفريد في يسوع المسيح «أغابي» صديقي العزيز؟ وكفاك دورانًا حول الإيروس والفيليا؟ لتعرف أن تجد المعنى لحياتك، وتستمع بتفرد المضمون.
في النهاية، يعوزني الكثير والكثير من الوقت بل والعمر بأسره، لكي أستطيع أن أعبر عن الحب الإلهي الفريد. ولكنني أسطر كلماتي البسيطة وأنتقي عباراتي الرقيقة على قدر ما أستطيع، للتعبير عن ما يفيض به قلبي عن هذا الإله القدير، وما فعله في كياني من لمسات حب عظيم. فدعنا نتجاوب مع صوت الكيان والضمير الذي يصرخ داخلنا بعمل الروح القدس قائلاُ: الحب الإلهي هو الصورة التي يجب أن نكونها. وهى التي تحقيق صيرورة وجودنا. فالحب الإلهي كان وسيظل يُعلن للإنسان طالما وجد، وأينما كان.أصلي وأتمني أن تتحول هذه الكلمات إلى ناموس عمل وحياة، ولا تتحول إلى ناقوس يدق في عالم النسيان.