الشعراء العرب المعاصرون والكتاب المقدس
الهدى 1211 يوليو 2019
استوقفني ذات مرة ما قاله الشاعر أمل دنقل في كتابه «على خطوط النار» عن الكتاب المقدس فيقول «إن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هو تراث من المنطقة العربية، فأن لغة «التوراة» بل ترجمتها العربية لا تنفصلان عن روح «الكهانة» (الكهنوت الدينى) التي سادت جزيرة العرب: لهذا إن الاستفادة من إمكانيات التراث الديني- هو جزء لا يتجزأ من مهمة الشاعر»
وقادني هذا إلى طرح سؤال هل استخدم الشعراء العرب المعاصرين بعض الصور الشعرية في أشعارهم من الكتاب المقدس؟ وبقليل من البحث وجدت مئات الاقتباسات المباشرة وغير المباشرة لصور شعرية استخدمها الشعراء المعاصرين من الكتاب المقدس في أعمالهم الأدبية، التي تغنى بها أكبر الفنانين العرب وتغنت معهم الشعوب العربية سواء كنت على علم بذلك أم لا.
وأول من سنتناول أعماله هو الشاعر أمل دنقل في قصيدة «عشاء»، فنراه يشبه ما حدث من خيانة أصدقائه له لما حدث مع المسيح في العشاء الأخير، فيخفي وجهه ويتحد معه وأخذ يتحدث بلسانه، حيث يُخيّل إلی القارئ أن المتكلم هو المسيح نفسه فى عشاءه الاخير، قبل أن يتخلى عنه أصدقاءه فيقول الشاعر:
قصدتهم في موعد العشاءْ
تطالعوا لي برهة،
ولم يرد واحد منهم تحية المساء!
وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
في طبق الحساءْ
نظرت في الوعاء:
هتفت»: ويحكم .. دمي
هذا دمي .. فانتبهوا .. لم يأبهوا!
وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
وظلت الشفاه تلعق الدماء!
ويعوزني الوقت في حصر تشبيهات أمل دنقل، ولكن لننتقل إلى شاعر آخر معاصر وهو محمود درويش
وخير قصيدة تبرز استخدام درويش للرموز المتصلة بالمسيح كالصليب وإكليل الشوك هي قصيدة «شهيد الأغنية»، فالشاعر يأبى الخضوع والخنوع ويحتمل العذاب متصبرًا ليتحول صليبه إلى «صهوة» يمتطيها منطلقا، وليتبدل إكليل الشوك المنقوش بالدم والندى إلى إكليل غار رمزًا للانتصار، وهو إلى ذلك ليس «أول حامل إكليل شوك»، يأبى الشاعر الذل ويختار عليه اعتلاء «خشب الصليب»:
نَصَبوا الصَّليبَ على الجدار
فكّوا السَّلاسلَ عن يدي
والسَّوط مِروَحة …ودقّات النِّعال لحنٌ يصفّر: سيدي
ويقولُ للموتى حَذار !- يا أنتَ، قالَ نباحُ وحش : أعطيكَ دربَكَ لو سَجَدتَ أمامَ عرشي سَجدَتَين
ولَثَمتَ كفي في حياءٍ ، مرَّتَين
تعتلي خشَبَ الصَّليبَ شهيدَ أغنيةٍ وشَمس ،ما كُنتُ أوَّل حامل – إكليلَ شوك فعسى صليبي صهوة /والشَّوك فوق جبيني المنقوش/ بالدّمِ والنَّدى إكليل غار !
يقول الشاعر نزار قباني أو كما يسموه البعض «شاعر المرأة»، وقد غنى المغنى كاظم الساهر الكثير أعماله والتي انتشرت انتشارًا كبيرًا في الوطن العربي طوال سنوات وحتى الآن. ففي فى قصيدته «الحزن» التى غناها المغني كاظم الساهر بعنوان (علمني حبك سيدتي) فيقول: «علمني حبك أن ادخل مدن الأحزان» وهى صورة من مدن الملجاء المذكورة فى العهد القديم التى كان يلجاء إليها كل من عليه دم وقتل شخصًا سهوًا فى سفر العدد 35: 9 – 34.
أدخلني حبك .. سيدتي
مدن الأحزان
و أنا من قبلك لم أدخل مدن الأحزان
لم أعرف أبدًا
أن الدمع هو الإنسان،
أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسان ..
ويستطرد في نفس القصيدة بالقول: «تلك الشفاه أشهى من زهر الرمان» وهى قريبة للصورة التي رسمها كاتب سفر نشيد الإنشاد في وصف جمال محبوبته «شفتاك كسلكه من القرمز … خدك كفلقة رمانة « (نشيد الإنشاد 4: 3).
ومازلنا فى قصيدة «الحزن» لنزار قباني فيقول:
علمني حبك أن أحزنْ
وأنا محتاج منذ عصور
لامرأةٍ تجعلني أحزن
لامرأة .. أبكي بين ذراعيها..
مثل العصفور..
وهنا يشبه القباني نفسه بالعصفور الحزين الخائف، وهى صورة استخدمت في سفر المزامير وقد شبه داود نفسه بالعصفور الحزين «فكيف تقولون لنفسي انتقلي على الجبال مثل العصفور» (مز 11: 1)
– أما في قصيدته « خارطتي» يقول قباني طالبًا من حبيبته:
زيديني موتًا .. علّ الموت، إذا يقتلني، يُحييني ..
ففكرة التناغم والتسلسل للموت والحياة قريبة لما جاء فى الرسالة إلى العبرانيين فيقول كاتبها «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك..» (عب2: 14)، أو أنها أيضًا في كلمات المسيح «فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها .ومن يهلك نفسه من اجلي فهذا يخلّصها» (لوقا9: 24) .
أما في قصيدة «رائع عيد العشاق» يقول نزار:
مبحرٍ في زمن الحب ولا أدري أين لأين
مبحرٍ فيكي ولا أدري ولا أدري لأين
يا مساء الورد يا عصفورتي آه
ما أحلى السهرة في قربك
ما أرشق هاتين اليدين
مبحر في زمن الحب
فتعبير زمن الحب مستخدم فى سفر حزقيال، فى حديث رمزى يتحدث فيه الله مع شعبه، وكيف انه افتقده رغم ما كان فيه من حالة مزرية ورفض من الآخرين، إلا انه قبله وجعل زمنه زمن الحب.
«فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ، وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ» (حز 16: 8).
وفى قصيدة «اتحبنى» يقول قباني: عن عظمة الحب واستطاعته التغلب على الخطايا والخطأ بين العشاق
ولربما انقطعتْ رسائلُنا
ولربما انقطعتْ هدايانا
مهما غَلَوْنا في عداوتِنا
فالحبُّ أكبرُ من خطايانا
وهى نفس الفكرة الواردة فى رسالة الرسول بطرس الأولى عن عظمة المحبة وكيف أنها تخفي وتستر الخطايا وتمنح مساحة جديدة للغفران (1بط 4: 8).
«وَلكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا».
وفى أغنية «سلمتك بيد الله» يقول المغنى كاظم الساهر عن جمال حبيبته فيشبها بالمن والسلوى فيقول:
يا شعر الحلوة مَن بللك مَن؟
ويا طعم الخد شبيه السلوى والمن.
وهو الطعام الذي أمدّ به الله شعبه في القديم أثناء ترحالهم في البرية، فكان المن والسلوى طعامهم. (خروج 16)
إما شاعر الصعيد عبد الرحمن الابنودى في قصيدته (السيد المسيح) التي غناها عبد الحليم حافظ. فيبدأ قصيدته بالطلب من «كلمته» أن تجوب الدنيا فيقول:
«يا كلمتي لفي الدنيا بطولها وعرضها وفتحي عيون البشر…»
وهو هنا يصور الكلمة بكونها شخص كما في مستهل إنجيل يوحنا في حديثه عن شخص الكلمة المتجسد «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا.»
وربما يعوض الأبنودي عن كلمة «حكمة» بكلمة «كلمة» ليطلب منها أن «تلف الدنيا بطولها وعرضها» كما تحدث كاتب الأمثال عن الحكمة التي تجوب الأسواق والمدن تتحدث كلاماً. كما في الإصحاح الأول من سفر الأمثال « الحكمة تنادي في الخارج في الشوارع تعطي صوتها، تدعو في رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب في المدينة تبدي كلامها..» (امثال1: 20).
– وتغنت أم كلثوم في أغنيتها الشهيرة «ألف ليلة وليلة» كلمات الشاعر مرسي جميل عزيز الذي يقول عن الله إن «الله محبة» كما ذُكر في رسالة يوحنا الأولى الإصحاح الرابع و العدد الثامن إن الله في جوهره هو المحبة.
وقد غنت فيروز أغنيتها الشهيرة «أنا لحبيبي» ومطلع الأغنية مأخوذ من سفر نشيد الإنشاد،
«أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِي. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ. ( نش6: 3).
فى الختام اقول، نعم قد اطلع شعرائنا العرب المعاصرون على الكتاب المقدس ليس بشكل سطحي عابر بل بشكل كبير وعميق ودراسة دقيقة لمفرداته وصوره ومعانيه واستخرجوا منها أجمل الأعمال الفنية التي تغنت بها شعوبنا العربية، وإن دلّ هذا على عظم كتابنا المقدس وغناه على كل المستويات حتى الأدبية منها، والأمر الأكبر من ذلك ليس كون الكتاب المقدس عمل أدبي ننحني احتراما لسموه الادبى بل هو كتاب حياة لكل العصور نجد فيه في كل وقت جدد وعتقاء تلمس بعمق حياتنا اليومية.