الصليبقضايا وملفاتملفات دينية

الصليب حقق عدل الله ورحمته

الهدى 1248                                                                                           مارس وأبريل 2023

الكاتب: د. القس لبيب ميخائيل

يتساءل الكثيرون مراراً عن الضرورة التي جعلت كل آلام المسيح أمراً مقضياً، فمن قائل: «ألم تكن مجرد كلمة من الله كافية أن تغفر كل الخطايا؟». إلى سائل: «أليس الله هو الغفور الرحيم فلماذا يطلب ذبيحة كفارية حتى يغفر خطايا البشر؟». إلى مندهشٍ: «كيف يكون الله محبة ثم يرضى بعذاب المسيح البرىء على الصليب؟».
بالطبع ليس في مقدور أحد أن يجيب عن هذه الأسئلة إلا إذا عرف صفات الله جل وعلا، فمن هو ذلك الشخص الذي رأى الله. حتى يخبرنا تماماً عن صفاته؟ لقد أراد موسى أن يرى الله طالبًا منه، وقائلًا له «أَرِنِي مَجْدَكَ» لكن الله أجابه: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خروج 33: 18، 20). إذن كيف يستطيع الإنسان أن يعرف الله، وأن يدرك صفاته جلت قدرته؟ إن السبيل الوحيد هو أن يعلن الله عن ذاته للناس بوحي من السماء، وهو أن يقول للناس من هو وما هي صفاته! ويغير هذا السبيل يكون الحديث عن الله مجرد تكهن لا أساس له من الصحة، وهذه هي الحقيقة التي قررها الرسول يوحنا في غرة إنجيله قائلاً «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18) وإذن ففي مقدرونا، أن نعرف صفات الله بواسطة التعليم التي علم بها المسيح له المجد. وسجلها البشيرون في كتاباتهم.
فما هي صفات الله الواضحة في تعاليم السيد له المجد؟ إن الصورة المجسمة لهذه الصفات تتمثل في صفتين: «الرحمة» و «العدالة». ففي إنجيل متى نجد رحمة الله ظاهرة في هذه الكلمات «يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ» (متى 5: 45) بينما نجد عدالته واضحة في هذه العبارات «فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ» (متى 5: 29)، وبينما تتجلى رحمة الله في دعوة المسيح للمتعبين لنوال الراحة في قوله «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28) نرى عدالة الله بارزة في الكلمات «فَكَمَا يُجْمَعُ الزَّوَانُ وَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، هكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ هذَا الْعَالَمِ: يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ فَيَجْمَعُونَ مِنْ مَلَكُوتِهِ جَمِيعَ الْمَعَاثِرِ وَفَاعِلِي الإِثْمِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (متى 13: 40-42). وإذ ندخل إلى مقادس إنجيل مرقس نرى أنه بينما يذخر هذا الإنجيل بأعمال الرحمة، تبدو فيه العدالة بصورة مجسمة في قول المسيح له المجد «مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً» (مرقس 3: 29). وعلى هذه الوتيرة نجد هذين الخطيين يسيران جنباً إلى جنب، في كل الأناجيل الخط القرمزي المميز لرحمة الله ومحبته، والخط الناري المميز لعدالة الله وقداسته. ويبدو هذا جلياً في إنجيل لوقا. فبينما نقرأ هناك عن قصة الابن الضال التي تمثل حنان الآب وغفرانه، وقصة الفريسي والعشار التي تصور رحمة الله عن الخاطئ الهارب، وقصة الخروف الضال التي ترينا بحث الله عن الخاطئ الهارب، كذلك نقرأ عن عقاب الله لمن يهملون التوبة والالتجاء إلى رحمته، إذ نقرأ في هذا الإنجيل إجابة السيد له المجد للقوم الذين جاءوا يخبرونه عن الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم بذبائحهم في قوله «لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لوقا 13: 2-3).
وفي مرة ثانية يتكلم المسيح لتلاميذه عن عدالة الله ويظهرها في هذا الحديث «وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى الْغُبَارَ الَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلكِنِ اعْلَمُوا هذَا إنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ اللهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ» (لوقا 10: 10-12).
ويتجلى التعليم عن رحمة الله وعدالته في إنجيل يوحنا، المعروف بأنه إنجيل المحبة، فبينما ترن موسيقى رحمة الله ومحبته في الكلمات «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ» (يوحنا 3: 16) تتجسم عدالة الله في الكلمات «الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ» (يوحنا 3: 36). وهذا التعليم نفسه يظهر واضحاً في رسالة يوحنا الأولي ففي الأصحاح الرابع يقول يوحنا «اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ» (1يوحنا 4: 16) وفي الأصحاح الأول يقول «اللهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ الْبَتَّةَ. إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ» (1يوحنا 1: 5-6).
فما معنى عبارة « الله نور»؟ إن النور ليس فقط ضد الظلام، لكنَّه لا يمكن أن يعيش مع الظلام فحيثما يوجد النور يهرب الظلام، فإذا كانت محبة الله ترغب في أن تغفر للخاطئ، فإنَّ «الله نور» لا يستطيع أن يحيا مع الخطية أو يحتملها، فالله والخطية لا يمكن أن يوجدا معاً كما يقول حبقوق: «عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ» (حبقوق 1: 13) والذين يسلكون في الظلمة لا يمكن لأن يكون لهم شركة مع الله، ومن الآية يتوضح لنا أن السلوك في الظلمة هو حالة الذين يكذبون ولا يعملون الحق، وهؤلاء لا صلة لهم بالله! وعلى هذا فالصورة التي يجب أن نرسمها لله في أذهاننا هي: أن الله الرحيم هو أيضاً على عادل، وأن الله المحب هو أيضاً إله قدوس بكره الخطية! وإذا تركزت هذه الصورة في أذهاننا، فإننا لن نعود إلى سؤالنا القديم « ألم تكن مجرد كلمة من الله بكافية لأن تغفر كل الخطايا» إذ أننا سندرك على الفور أن صفات الله الأدبية الكاملة، لا يمكن أن تسمح بغفران الخطية دون أن تنال قصاصها، وقد أعلن الله عن عقاب الخطية في الكلمات «هَا كُلُّ النُّفُوسِ هِيَ لِي. نَفْسُ الأَبِ كَنَفْسِ الابْنِ، كِلاَهُمَا لِي. اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 4) فالخطية إذاً ليست من السهولة حتى يمكن غفرانها بكلمة دون أن تنال القصاص.
وعلى هذا فإن الصليب يبدو أمامنا ضرورة حتمية للتوفيق بين عدل الله ورحمته!! وقف أحد خدام الله في ميدان من ميادين لندن، يتأمل تمثال العدل المقام فوق دار محكمة كبرى في ذلك الميدان، وهو تمثال لامرأة معصوبة العينين، تمسك في يدها اليمني بسيف ذي حدين، وتقبض بيدها اليسرى على ميزان، وهي تمثل العدالة التي لا تحابي بالوجوه، وإنما تحكم بحسب ميزان القانون… وعلى مسافة ليست ببعيدة، رأى ذلك الخادم الجليل صليباً مرتفعاً فوق قبة كنيسة ضخمة!! وقف منبهرًا بين المنظرين، وأشار بيده إلى تمثال العدل وقال: هنا الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة … ثم أشار إلى الصليب المرتفع وهتف مردداً: وهنا الرحمة المتجسدة التي فتحت الطريق إلى الفردوس المردود، بعد أن أضاع الإنسان فردوسه المفقود. أجل، إن الصليب ضرورة لازمة لإظهار رحمة الله، وعدالة الله، فالمسيح عندما مات على الصليب كان بديلاً للإنسان الذي تعدى وصية الله، وفيه تلائم العدل والرحمة وظهر كمال بر الله كما يقرر ذلك بولس الرسول وهو يشرح فلسفة الصليب قائلاً: «وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ … مَشْهُودًا لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ» (رومية 3: 21-25).
فالصليب في نظر بولس كان هو الوسيلة التي بها تعانقت الرحمة مع العدل إذ عليه مات «الإنسان الثاني يسوع المسيح» نائباً عن البشرية الساقطة، وكما سقطت البشرية في آدم الأول كما يقرر الرسول في القول: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ» (رومية 5: 12) كذلك أُعطيت الإنسانية فرصة لنوال الحياة عن طريق «الموت» الذي أحتمله المسيح لأجلها، وهذا ما يقرره بولس في الرسالة إلى رومية أيضاً قائلاً: «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا نِعْمَةُ اللهِ، وَالْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ» (رومية 5: 15) فآدم ممثل البشرية الأول جلب الموت للبشرية، فجاء يسوع المسيح «الممثل الثاني للبشر» وحمل هذا الموت في جسده على الصليب، وهكذا حرر كل من يؤمن به من هذا القصاص الرهيب، وهذا ما يؤكده لنا بطرس الرسول في كلماته «الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ» (1بطرس 2: 24) وبهذه الكيفية ارتاحت رحمة الله وسكنت أحشاء رأفته بينما أخذ العدل الإلهي حقه كاملاً في يسوع المسيح الذي رضي طائعاً مختاراً أن يفدي الإنسان الأثيم وتمت الكلمة المكتوبة «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10).

د. القس لبيب ميخائيل

قسيس وكاتب له العديد من المؤلفات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى