الصليبملفات دينية

الماء والمنشفة

مسار وتحديات الخدمة المسيحيّة

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا،  ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَل، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا […] قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ. (يو13: 1 – 16)

        طلب مني الفاضل الزميل القس نصرالله، كتابة مقالًا لمجلة الهُدى تحت عنوان “الماء والمنشفة مسار وتحديات الخدمة المسيحيّة”. ولأنني كتبت العام الماضي مقالًا لمجلة أجنحة النّسور بعنوان “غسل الأرجل هُويّة وإرساليّة”، فوجدت نفسي أبحث لأكتب إضافة لا تكرار للفكر، فاحتجت إلى التفكير في الجزء الثّاني من العنوان وهو “مسار وتحديات الخدمة”، أي هل المنشفة والماء (غسل الأرجل) هو منهج للخدمة المسيحيّة، أم مجرد تحدٍ صعب أمام الخدمة المسيحيّة الحقيقيّة؟ أم أنهما منهج وتحدي للخدمة المسيحيّة؟ وكيف نفهم ذلك المنهج وتلك التّحديات؟

  • الماء والمنشفة في عصرنا الحاضر:

العالم اليوم يشتعل حروبًا واضطرابات وقلاقل في كل بقعة منه، والأحوال الاقتصاديّة تزداد سوءًا،  ما تسبب في عدم استقرار للبشر على عدّة أصعدة في الحياة، فزاد العلاقات بين الدول من جهة والناس من جهة أخرى توترًا دائمًا وانشقاق بلا حدود. لم يعد للأمان الداخلي طريقًا ليملك القلب والوجدان. ومن هنا أصبح البحث عن الأمان عن طريق التنافس على المكانة والمركز. وطَّنَ الخوف في النفوس حب التّسلط، والأنانيّة والمنفعة الذاتيّة. وصلت هذه الحالة إلى الذروة في العلاقات داخل الكنيسة. مما شجع على الفرديّة الصّارخة، واستغلال الآخرين في سبيل المصلحة الشخصيّة. ولم يعد هناك ما يجمع الناس حول هدف جماعي مثل مشروع قوميّ للوطن، أو مشروع دينيّ (كنسيّ) على مستوى الأفراد الكنسيين. التكالب على امتلاك زمام الأمور، هو مسعى لا يمكن منعه في نفوس كثيرين. هو نفس الصراع الذي اعتمل في نفوس التلاميذ وقت أن كان يسوع قد وصل إلى نهاية أيام رحلته على الأرض. رغم أنه حدثهم عن موته، إلّا أنهم انشغلوا فيما بينهم متفكرين فيمن يكون الأوّل. هذا ما استدعى يوحنا أن ينفرد بحدث غسل الأرجل.

         تحمل المنشفة والماء صورة السيد وهو راكع أمام تلاميذه ليغسل أرجلهم. صورة الذي يعرف أن “يضع التاج الملكي على رأس الخدمة” على حد تعبير وليم باركلي.[1] هذا الحدث الجلل الذي قدمه السيد المسيح لنا لمّا أخذ منشفة واتزر بها، وانحنى ليغسل أرجل التلاميذ معنيان: المعنى الأوّل الذي يظهر على السطح أو قل الأقرب لذهن القارئ هو تواضع السيد العظيم، حيث قام يسوع بدور العبيد، فخدمتهم في وقت الولائم هي صب الماء وغسل الأرجل. أما المعنى الأعمق في انحنائه ليغسل أقدامًا متّسخة من تراب الطريق ووحله، هو إعلان عن مسار خدمة هو اتخذه بنفسه كذبيح الفصح الذي من خلال إخلاء ذاته ليغسل وسخ أخلاقنا الرديّة وآثامنا وذنوبنا، ويعيد لنا مفهوم الشركة الحقيقيّة، ودور الخادم الحقيقيّ.[2] إنّ الخدمة الحقيقيّة تعني أن نبذل حياتنا، وأن نغسل قلوبنا من الحقد والأنانية وحب الذّات.

        يسوع أخلى نفسه، كنموذجٍ ومثالٍ حقيقيٍّ للخادمِ من خلال مسيرة حب بين الرِّفاق، الحب الأسمى الذي ظهر حتى المنتهى لخاصته، الحب الذي بلا نهاية “أي الحب في كماله وملئه.”[3] حب عطاء الذات حب الشركة.  إنه مسار تحديات الخدمة أي غسل أرجل الآخرين، إنه إعلان التضحية والتخلي عن ألوهيته. قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا.»

  • الماء والمنشفة استثمار علائقي (Relational)

        لم تكن مناسبة غسل الأرجل ضيافة من المسيح للتلاميذ ليخفف عنهم معاناة الطريق وغبارها فحسب، بل أخذت ليلة العشاء الأخيرة طابعًا احتفاليًّا لوداع السيد بالجسد بعد خدمة دامت أكثر من ثلاث سنوات مع تلاميذه. من المتعارف عليه أنّه في احتفالات الوداع يكون المحتفى به صاحب الخدمة، إلّا إنّ السيد نفسه هو من يحتفي بوداعه مع تلاميذه. في الواقع هي احتفاليّة إعداد وتجهيز لمسار خدمة، وتجهيز لتحدياتها، وليست احتفالية تكريم. في قراءتنا للنص في يوحنا 13 نرى أن السيد أعطى الفرصة للتلاميذ ليغسل أحدهم أرجل الآخر. إلا إن نزعة الاستعلاء والكبرياء وإحساس كل منهم أنّه الأفضل، جعلت كل منهم يشعر أنه يستحق أن يكون الأوّل. فهم يبحثون عن الزّعامة، لذلك، كان الاستفسار عن “من الأعظم؟” وهُم من كان يُفْتَرَض أن يكونوا مترابطين في جسدٍ واحدٍ. وحيث إنه لم يجد من هو مستعد لهذه الخدمة، كانت هناك المنشفة والماء، فأخذ هو -وهو السيد والمعلم- المبادرة، ليغسل أرجلهم.

        غَسْل أرجلهم شكّل عقولهم وقلوبهم، بل ملك وجدانهم، إنّه نموذج لن يُنسى. الصّورة أصبحت أكثر إشراقًا، حيث إن السيد قد وصل إلى ذروة نجاحه، وعظمة مكانه، وفي أيامه الأخيرة في إتمام رسالته وإرساليّته، في طريق المجد في اقترابه من الآب وأمجاده. كان السيد نموذجًا للعبد، ونموذجًا للسيد والمعلم(الرَبيّ) الذي لا يرحب فقط، بل يعلم ويصلي من أجل ضيوفه. غَسْل الأرجل وسيلة قدمها يسوع ليعلن أنه اقترب للآب وسيفارق محبيه بالجسد، فجسّد لهم معنى العظمة، لأنه عاش معلمًا وخادمًا للجميع، اقترب من أبيه لذلك أصبح أكثر قربًا لقلوب تلاميذه، من هنا يقدم نفسه نموذجًا لكي يعدهم لمسار خدمتهم وتحدياتها. أعلن لهم أن في الاقتراب لله، اقتراب أكثر لأحبائهم وشركاء إيمانهم وخدمتهم من ناحية، وفي اقترابهم من بعضهم البعض يقتربون لله من الناحية الأخرى.

        استثمر السيد هذه الحادثة ليصحح العلاقات المتناثرة، ويرمم الشّروخ التي سببتها الأنانية وحب الذات. قدم نموذجًا يصالح النفس الداخلية، ليتصالحوا بعضهم مع بعض. إنه مفتاح تشكيل وبناء مجتمع المحبة والوحدة التي تجسد محبة الله.[4] ما عمله يسوع علامة واضحة وحجر أساس لبناء نوع وشكل العلاقات بين التلاميذ. وسؤالي للقارئ الكريم هو، أليست هذه هي الأزمة التي يعاني منها المجتمع الدولي الواسع، ومجتمع الكنيسة الضيق؟ العلاقات ممزقة، والمصلحة الفردية فوق المصلحة العامة، وأنا ومن بعدي الطوفان؟ وذلك بسبب البحث عن السلطة المدنية أو الروحية. هكذا كان حال التلاميذ “تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ  [……]قَالَ لَهُمْ (يسوع) : «إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلًا فَيَكُونُ آخِرَ ٱلْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ.” (مر9: 34).

        مسار الخدمة وتحدياتها، ليس طقسًا للمنشفة والماء في الكنيسة، بل أعمق من طقسٍ، إنه اتجاه قلب وعزيمة روح وتكليف إلهي. إنّ مفتاح الاحتفاليّة ليس مجرد غسل أرجل التلاميذ، هناك المعنى الأعظم والجوهري نجده بين السطور، عندما يكتب لنا يوحنا بالوحي بشكل دقيق جدًا، حيث يسلط الضوء في استهلال روايته عن غسل الأرجل فيذكر لنا تعبيرًا قد سكه بحنكة فائقة الوصف أن “يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ”. إنه تعبير مركزيّ يسلِّط به الضّوء على سلطانه وقدرته الفائقة، ويوضح يوحنّا من خلال الرِّواية أنّه على الرغم من السّلطان والقدرة التي للسّيد، فقد ارتضى أن يتخلى عنهما، وأخذ دوره كعبدٍ فانحنى ومد يديه وغسل أرجل تلاميذه. كانت مكانة العبد معروفة أنّه خادم سيده، وفاقد للأهليّة، يُباع ويُشترى، يُرتهن ويُعاقب، يُقتل بيد سيده دون مؤاخذة.[5] بهذا المفهوم وهذه الممارسة، أعلن لتلاميذه بداية رحلة الإخلاء الأسمى، حيث “أَخْلَى نَفْسَهُ، صَائِرًا فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ- أخذ دور العبيد.”(فيلبي2:7).  إنه مسار الخدمة ومواجهة تحدياتها، بل وإن أرقى أنواع العظمة وأكثرها قوة هي عظمة الخدمة، والركوع أمام حاجات الأخوة.[6]

في مقال بعنوان “برفقته في رحلة التجديد: الهجرة نحو أرجل الآخرين”، يقدم الأب سيرافيم  البراموسي تفسيرًا مبدعًا عن الإخلاء الذي قدمة الرب يسوع قائلاً: “إنّ مساحة الإخلاء هي أقصى مسافة ممكنة ما بين نقطتين؛ ملء الألوهيّة، وأقدام الإنسانيّة. ويؤكد قائلاً: أنه لا يوجد من البشر من يستطيع أن يهاجر من ذاته (يتخلى عن) أبعد من هذا. لقد رسم لنا الربّ يسوع الطريق للملء بالإخلاء، أي طريق الامتلاء بالله، بأن نفرغ ذواتنا وننزل إلى أدنَى نقطة ممكنة كما فعل الربّ يسوع.” إنّه سلطانه وقدرته تجليا في غسل أرجل تلاميذه.[7] إن التّخلي هو سر الوجود للانتصار لخدمة الآخرين، وأن المسار الحقيقي للخدمة وتحدياتها هو الوجود للآخر وليس للذّات. وإنّ السّلطة والسّيادة تظهر في معدنها الأصيل في التّخلي.

أمر آخر في استثمار علائقي، حينما أراد المسيح أن يؤسِّس شكلًا علائقيًّا يعبِّر عن ديناميكيّة الحياة بين أعضاء الجسد الواحد بين الأخوة، نزل ليغسل الأرجل.  ولما رفض بطرس الماء والمنشفة قائلًا للمعلم» لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَدًا«! رد عليه السّيد بحسم: “إِنْ كُنْتُ لَا أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ” أدرك أنّه محروم من وجوده في عائلة الرب، فالماء والمنشفة شرط علائقيّ من دونهما يخرج الفرد من دائرة علاقاته مع أخوته وأخواته. كانت كلمات الربّ يسوع صادمة لبطرس، فإن رفض أن تُغسل رجليه، فإنه سيفقد إمكانيّة الشركة مع المسيح! الأمر جد خطير! يبدو أنّ المعنى واضح وضوح الشمس، إنّ من لا يقبل أن تكون شركته مع إخوته على قياس غسل الأرجل، لن يستطيع أن يكون شريكًا للمسيح، أي من لا يشاركه في إخلائه، لن يشاركه في مجده! [8]

علّق أحد أعضاء الكنيسة الإنجليزيّة التي أرعاها على هذه الآية قائلاً: “إن الحوار الذي دار بين السيد المسيح وتلميذه يؤكّد على أن المسيح أراد أن يقول لبطرس، أنا المعلم والسيد، وَصَلَتْ خدمتي بينكم للقمة وها أنا ذاهب إلى المجد الذي ينتظركم، أحببتكم لذا أريدكم معي، فإن كنت لا أغسل رجليك، فمستحيل أن تكون معي.” أما الأب متى المسكين فيقول:”إنّ المنشفة والماء عمل تأهيليّ لنوال النصيب مع الرب.. إنّه إعداد وتجهيز لبشارة الإنجيل… غسل الأرجل هو لحفظ أرجلهم في طريق السّلام للبشارة، .. فعندما تكِلّ أرجل التّلاميذ من السير، وتتمزق أقدامهم من وعورة الطرق في الخدمة، هناك يتذكرون يدي الرب اللتين غسلتا أرجلهم، ويتحسسون أصبع المعلم التي مرت فوق أقدامهم، حتى يجددوا قوة لمزيد من السير ومزيد من الخدمة والكرازة.”[9]  إن مسار الخدمة وتحدياتها هو الاتضاع والمحبة والتّخلي عن الكبرياء والتعالي وحب الذات، وانتهاج خدمة الأكبر (السيد والمعلم) للأصغر ( التلاميذ). الإخلاء هو القيمة الأولى والحقيقة للوجود المسيحي. إنّه مسار تحدي الحياة والخدمة المكلفين بها. فالمنشفة والماء يقودان لغسل الأرجل التي توحد وتقوي وتربط وتُنضج، وتأخذ العلاقات إلى مستوى الرُّوح، فيتواصل وجدان الأفراد وكيانهم بالمسيح، فيترسِّخ مفهوم الإخلاء في الحياة بصورة عامّة والخدمة بصورة خاصة.[10]

الماء والمنشفة ترميم وشفاء

من أقوى مشاهد الرواية الكتابية الذي يلفت الانتباه أن السيد أعطى للمركز وللمكانة مفهومًا عميقًا وجديدًا على التلاميذ، مع أنه أدار سلطته كمعلم في الخدمة بحب لضبط العلاقات بينهم، إلا إنه قدم الممارسة الفعلية لسلطانه بالإخلاء. وهنا يظهر التميز والاختلاف بين ممارسة السلطة الإيجابية بالحب بشكل إيجابي وممارستها بالإخلاء.[11] يشرح الأب البراموسي فكرة الإخلاء عمليًا قائلاً:

ليس خطأ أن تُمَارَس السلطة الإيجابيّة لضبط العلاقات ما بين أعضاء الجسد الواحد. إلا إن هناك معيارًا آخر في تطبيق السلطة. كان بإمكان الربّ يسوع كمدير للجماعة أن يطرد من يسبب إشكاليات للجماعة، ويسرق من أموالها، ويخاطر بوجودها، ولن يلومه أحد. .. ولكن ملكوت الله لا يُدَار بهذا الشكل، أي بالمجازاة وحدها. فالمجازاة وحدها لا تشفي، لا تُرَمِّم الإنسانيّة، لا تُعيد خلق الإنسان. مثال الربّ يسوع يقول لنا إنّه لا يدين؛ “لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ.” (يو12: 47) .. لا يطرد .. ولكنّه يترك مساحة حرّة ليهوذا حتى يكتشف موقفه؛ إمّا يغادر، وإمّا يُشفَى.[12]

في الختام، نرى أن السيد المسيح أعطى للمنشفة والماء بُعدًا علائقيًا جديدًا، فيهما نتوحد ونتقوى ونترابط وننضج وتأخذ علاقاتنا إلى مستوى الرُّوح، ويرتبط وجداننا وكياننا بالمسيح، فيترسِّخ فينا مفهوم الإخلاء.[13] كما قدَّم نموذجًا غير مسبوقٍ سطره التّاريخ الدّينيّ والإنسانيّ لكل البشريّة، بغسله لرجلي يهوذا كما فعل مع باقي التّلاميذ، رغم قسوة المشاعر لخيانة التّلميذ، والألم والكسرة الداخليّة من فعلته إلّا إنه قدم الحب نفسه، ولم يُقْصِي الخائن، كما لم يعاقبه على خيانته، فكانت المنشفة والماء طريق على يهوذا أن يختار إما أن يُشفى أو أن يترك. لقد تجاوز السيد المسيح الألم والجرح والحزن، ليشفي ويُرمِّم، لكي يضعنا على درب الإخلاء ويساعدنا على اتحادنا معه، كما أخلى ذاته يدعم أرواحنا لتشفى وتُرَمَّم الأجزاء المنهدمة فينا. فتكون المنشفة والماء مسار وتحديات الحياة والخدمة المسيحيّة. فهل نستوعب الدّرس، ونختبر الإخلاء فنحيا لذلك الذي مات لأجلنا وقام؟!

الحواشي:

[1] وليم باركلي، تفسير العهد الجديد، بشارة يوحنا، ترجمة الدكتور عزت زكي ( القاهرة: دار الثقافة، 1977م)، ص 282.

[2] جادالله نجيب، غسل الأرجل: هوية وإرسالية، أجنحة النسور، أغسطس 2023.

[3]  الخوري بولس الفغالي، إنجيل يوحنا، دراسات وتأملات ( لبنان: دكاش برينتنغ هوس، 2010م)، ص 313.

[4]  جادالله نجيب ، مرجع سابق.

[5]  الأب متى المسكين، شرح إنجيل يوحنا، الجزء الثاني ( وادي النطرون: مطبعة الدير القديس أنبا مقار، 1990م)، ص 783.

[6] وليم باركلي، مرجع سابق، ص 281.

[7] الأب سيرافيم البراموسي، برفقته في رحلة التجديد: الهجرة نحو أرجل الآخرين، متاح على:  https://www.lifetowardgod.com

[8]  المرجع السابق.

[9]  الأب متى المسكين، مرجع سابق، ص786 – 793.

[10]  الأب سيرافيم البراموسي، مرجع سابق.

[11]  المرجع السابق.

[12]  الأب سيرافيم البراموسي، مرجع سابق.

[13]  المرجع السابق.

القس جادالله نجيب

تخرج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة 1987م، ثم خدم راعيًا خدم في كفر العلو من عام ١٩٨٥ حتى ٢٠٠٣،
قد تخرج في كلية آداب المنيا، قسم تاريخ 1997،
يخدم الأن راعيًا لكنيسة شرق وارزينج الإنجيلية East Worthing Baptist Church وكنيسة المجتمع العربي في برايتون/ إنجلترا.
درس في Eastern Mennonite University Justice and Peace Programme (العدل والسلام) عام 1998.
درس في معهد جون حجاي بمدينة هاواي بالولايات المتحدة الأمريكيّة عام 2002..
هاجر لإنجلترا كراعٍ لكنيسة عربيّة 2003، وأسس إرساليّة المجتمع لخدمة الكنيسة بمصر 2011. حصل على شهادة دراسة تاريخ الكنيسة الإنجيليّة في بريطانيا 2014، صُرح واعتمد قسيسًا إنجليزيًا 2016.
حصل على ماجستير في الفكر المسيحي عام 2019.
له عديد من الكتب والمقالات المنشورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى