الصليبملفات دينية

صراع في البستان

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

“وَخَرَجَ مَعَ تلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلاَمِيذُهُ».. «يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ». وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّيهِ. وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ.” (يوحنا ۱۸: ۱؛ لوقا ٢٢: ٤٢ -٤٤)[1]

إني لأشعر بكثيرٍ من الرّهبة، والخشوع المصحوب بالتّردد إذ يُخيل إليّ أنني اقتحم خلوة الرب يسوع مع الآب في بستان جثسيماني.

كنت قد شعرت بأحاسيس مشابهة وأنا أقترب من الصّلاة الكهنوتيّة، وشعرت أنني في قدس الأقداس خاشعًا وساجدًا.. لكنى هنا أشعر بمزيد من الهيبة مع التردد، ففي الصّلاة الكهنوتيّة كنا نسمع الصّلاة منطوقة، وواضحة الألفاظ والمعاني، وخارجة من فمه الطاهر إلى العرش الإلهي… وأما اليوم فإننا نحاول بخيالنا أن نراه في جهاده الشخصي، في صراعه في صلاة غير منطوقة، تعتصر نفسه، ونحاول من الكلمات القليلة التي رواها كتاب الأناجيل، أن نقرأ غنى المعاني، وعمق الاختبار، الذي تضمّنه هذا الصّراع وهذا الجهاد في الصّلاة، في بستان جثسيماني.

وكلمة “جثسيماني”، وهي اسم البستان معناها “معصرة زيتون”، وغالبًا كان ذلك البستان مليئًا بأشجار الزيتون وربما كانت في وسطه معصرة يعصر فيها الزيتون ويخرج الزيت الذي كان بالنسبة للأقدمين ليس فقط طعامًا مغذيًا، بل دواء شافيًا أيضًا.

ويا ليتنا نحن اليوم بعين الإيمان، نستطيع أن نرى السيد تعتصر الآلام نفسه الكريمة، فيفيض علينا زيت النعمة يغذينا ويشفينا ويطيب خواطرنا!

فدعونا نتأمل في هذا الصراع، في بستان جثسيماني، في ثلاث نقاط:

(۱) صراع يسوع الإنسان

(۲) صراع الصّلاة المسؤولة

(3) صراع انتهى بانتصار

صراع يسوع الإنسان

إننا في هذا الصّراع نرى مقدار التنازل العجيب الذي اتضع إليه المسيح عندما أخذ جسم بشريتنا، بكل ما يمكن أن تجوز فيه النّفس الإنسانيّة من نوازع وحيرة وأشواق وآلام. حقًا إنه إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا، لله. أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس.

صحيح أن ناسوته لم يفارق لاهوته لحظة ولا طرفة عين، لكنّنا في سر التّجسد العجيب الذي يفوق إدراكنا -وهل يمكن لعقل الإنسان القاصر المخلوق، أن يدرك أسرار الخالق العظيم الفائق القدرة والمتسامي على فكر البشر– أقول إننا في سر التّجسد العجيب نستطيع أن نرى جوانب من حياة السيد المسيح، تجلت فيها إنسانيته كاملة، بحيث أفحمت جميع من يظنون أن يسوع كان ذا طبيعة تختلف عن طبيعة البشر. فقد جاع، وعطش، وتعب، وها نحن الآن نراه يُصارع أمام شبح الصّليب، يطلب إن أمكن أن تعبر عنه تلك الكأس وما هي تلك الكأس التي يتمنى لو أمكن ألّا يتجرعها. إنها ليست آلام الصليب الجسديّة، فإن يسوع أشجع من أن يخاف آلام الجسد وليست كأس آلام الصليب النفسيّة من هزء وتعيير وبصق وسخرية فإن يسوع أقوى من أن تزعجه آلام النفس مهما كانت مضنية. وهي ليست كأس الموت الجسدي، فإن الذي علّم تلاميذه ألا يخافوا ممن يقتلون الجسد، لا يمكن أن يخاف من موت الجسد، لكنّها كأس غضب الله على الخطيّة. كأس الانفصال عن الله، الموت الأبدي التي كان عليه أن يتجرعها لكى يحمل عقاب آثام البشر كاملًا.

تطلع يسوع القدوس، الذى هو بلا شر، الذي انفصل عن الخطأة، وصار أعلى من السموات، تطلع إلى ما ينتظره وهو يضع نفسه بديلاً عن الخطأة. فرأى نفسه سيصير خطيّةً. ولعنةً، وستحل عليه جامات غضب الله.. ففزعت نفسه الإنسانيّة من هول تصوره لهذا العقاب من مثل هذا الخوف والفزع نستطيع أن نرى إنسانيّة يسوع، التي أطلقت فيما بعد صرخة أليمة مفجعة، إلهي إلهي لماذا تركتني. ومن مثل هذا الفزع نستطيع أن ندرك هول العقاب الذي تستحقه الخطيّة. العقاب الذي نجد أولى درجاته في عدم قدرة الإنسان أن يتطلع إلى وجه الله الغاضب، فيصرخ المرفوضون ينادون ويقولون للجبال اسقطي علينا، وللآكام غطّينا من وجه الجالس على العرش.

ومن مثل هذا الفزع نستطيع أن نتبين شناعة الخطيّة التي تفصل الإنسان عن الله، فيجد نفسه ضائعًا معذبًا، طريد نفسه التي تصليه نارًا، وضميره الذي يلهبه بالسّياط، فتضيق الدنيا في وجهه، وتغلق الأبديّة أمام عينيه، فلا يعرف أين يمكنه الهروب من وجه الله الغاضب، فلا موت ينقذه، ولا الهاوية تخفيه، ولا شيء في الوجود يقيه. لأنّه مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي. هذه هي الكأس التي صارع يسوع لكى تعبر عنه، وكان في صراعه إنسانًا كاملًا. آدم الثّاني، يصارع في بستان أيضًا، وتعتصر الآلام نفسه فينزل عرقه متساقطًا كقطرات دم نازلة على الأرض ونحن نرى إنسانيته في طاعته الكاملة فهو المساوي للآب في الجوهر، يضع نفسه كإنسانٍ خاضعٍ لمشيئة الآب… إنه صراع يسوع الإنسان.

صراع الصّلاة المسؤولة أو التّفكير المسؤول

لو أنّنا تأملنا في الكلمات التي رواها البشيرون من هذه الصّلاة لأدركنا أن الرّب

يسوع كان في حوار مع نفسه، وهو يصلى إلى الآب.

يقول متّى إن يسوع صلى قائلًا: “يا أبتاه إن أمكن أن تعبر عنى هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت.” وبعد فترة صلى قائلًا: “يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك.” (متّى ٢٦)

ويقول مرقس إنه كان يصلى لكى تعبر عنه الساعة إن أمكن وقال: يا أبا الآب (أي يا بابا أيها الآب) كل شيء مستطاع لك. فأجز عنى هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت. وعندما نتأمل في كلمات تلك الصّلاة، وتكرارها نحس أن يسوع كان يشعر بهول العقاب الذى كان عليه أن يتحمله، وكان يتمنى لو كان هناك طريق لكي يتجنب هذا العقاب وفكر وصلى… وكأنه يقول للآب أنت أبي المحب.. وأنت قادر على كل شيء.. أما كان ممكنًا أن تجيز عنى هذا العقاب لكنه عاود التفكير ورأى أنه لهذا جاء إلى العالم، وكأنه يقول لنفسه : لكنى لهذا أتيت. وكيف يمكن أن يكون الله عادلًا إذا غفر الخطيّة دون أن ينال أحد عقابها. وفكر في محبة الله للبشر ومحبته هو للبشر.. وفى نهاية هذا الصراع الفكري أدرك أنها مشيئة الله أن يتجرع كأس الموت الكفاري عن الخطأة، فختمت صلاته بالقول: لتكن مشيئتك…. هنا استطاع أن يصلى صلاة الشّخص المسؤول العارف برسالته، القابل بمسؤوليته، الخاضع لمشيئة الله الآب.

وكم تدين هذه الصلاة، صلواتنا التافهة الأنانية المتهربة من المسؤولية، فكم من صلوات تخلو من التفكير المسؤول، وكم من صلوات تتضمن مجرد طلب الراحة والنجاح والصحة والهروب أحيانا من المسؤولية. فيا من جئت لتفدينا وتعلمنا، علمنا أن نصلي صلاة التفكير المسؤول.

صراع انتهى بانتصار

لقد هُزِم آدم الأوّل في بستان جنّة عدن، وسقط بتجربة الحيّة، وكانت نتيجة عصيانه لله أنه أورث الجنس البشرى كله المتناسل منه طبيعيًا الموت الروحي، فانفصلت نفسه عن الله، وسرت منه وبه الخطيّة إلى نسله، وبالخطيّة الموت إذ أخطأ الجميع لكن شكرًا لله أن آدم الثّاني يسوع المسيح، انتصر في بستان أيضًا وبطاعته وقبوله مشيئة الآب فتح باب الحياة أمام كل من يؤمن به. لقد جاز يسوع الصّراع، وحيدًا متألمًا، لكنه استطاع أن ينتصر. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين واصفًا ذاك الصّراع: “الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنا تعلّم الطاعة مما تألم به وإذ كمل صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدى.” ( عبرانيين 5: 7-9).

تساءل الناس -وقد نتساءل نحن أيضًا- كيف انتهى هذا الصراع بانتصار والمسيح قد صلب؟ أو بمعنى آخر، كيف سمع له من أجل تقواه، مع أنه ذاق الموت فعلا؟ ونحن نستطيع أن نعرف الجواب، عندما نفهم أن قمّة الصراع كانت التسليم للآب، وكان التسليم هو الانتصار الحقيقي. وقمة الصّلاة كانت، لتكن مشيئتك.

لكن هل كل من يقول لتكن مشيئتك، يكون قد انتصر في صراعه؟ والجواب: كلا، فهناك الضّعيف أمام قوة لا تقاوم، يجد نفسه مضطرًا أن يستسلم قائلًا: لتكن مشيئة الله وهناك المنهزم الذي لا يريد أن يقاوم، ويقبل الهزيمة صاغرَا ويقول: لتكن مشيئة الله. وهناك الفاشل الذي يعجز عن تحقيق حلم حياته، يرضخ ويقول: لتكن مشيئة الله، يقولها في مرارة وغضب وضعف، لكن يسوع لم يكن واحدًا من هؤلاء.. لم يكن ضعيفًا فهو رب القدرة. ولم يكن منهزمًا فهو سيد الانتصار. ولم يكن فاشلًا، بل كان قمة التفاؤل والرجاء. لكنه قال: لتكن مشيئتك، واثقًا. كان واثقًا في الآب الذي يريد أن يحقق رسالة خالدة، كان واثقًا أن المحبّة لن تتخلى عنه، كان واثقاً أنّه إن جعل نفسه ذبيحة إثم یرى نسلًا تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. قال: لتكن مشيئتك، وهو يرى الملائكة تقويه. وهل كان محتًاجا إلى معونة من الملائكة؟ كلا، إن ما عملته الملائكة هي أنها ظهرت له معلنة أنها تشتهي أن تطلع على أسرار الفداء، مترقبة عمل الكفارة العظيم. وكأنها حاشية المليك تصفق له في انتصاره وتهتف قدامه ساجدة له. فليتنا ونحن نتأمل في اختبار جثسيماني أن نستفيد منه لحياتنا، فمن إنسانية المسيح نجد عزاءً لنفوسنا لأنه شاركنا طبيعتنا لكى يرثى لضعفاتنا، ومن تضرعاته ودموعه ندرك شناعة الخطيّة، فنعظم عمل نعمته المجيدة، ومن صلاته المسؤولة نتعلّم معنى الصّلاة التي تبحث وراء الالتزام ولا تسعى للهرب. ومن انتصاره في الصراع ندرك أن انتصارنا الحقيقي في التسليم الواثق فنتعلم كيف نقول: لتكن مشيئتك، حتى ولو كانت هذه المشيئة تتضمن أن نتجرع الكأس. ليملك في قلوبنا سلامه كل أيام الحياة!

[1]  صراعٌ في البُستّان، أحد مقالات كتاب «أحاديث الرحيل» الذي صدر عن دار الثقافة عام 1993. (المُحرِّر)

د. القس فايز فارس

تخرَّج في كلية اللاهوت عام 1948،
حَصَلَ على بكالوريوسِ العلومِ الاجتماعيّةِ، مع مرتبةِ الشَرَفِ، من الجامعةِ الأمريكيّةِ بالقاهرةِ عام 1950،
ماچستير العلوم اللّاهوتيّة مُتخصصًا في الارشاد وعلم النفس، من جامعة برنستون بأميريكا، عام 1952،
ثُم الدكتوراة في الفلسفة من جامعة سان فرانسيسكو، عام 1980؛
خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة الثانية في المنيا،
كتب العديد من الكتب الروحيّة، وغيرها،
انتقل للمجد في عام 2012.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى