الميلادقضايا وملفاتملفات دينية

كتاب ميلاد يسوع المسيح ابْن داود ابن إبراهيم

الهدى 1205-1206                                                                                                              يناير وفبراير 2019

هذه الآية هي عنوان هذا الإنجيل، لكي يَسْرد لنا قصة ميلاد الرب يسوع المسيح الذي نحتفل بمجيئه إلى عالمنا. فالبشير متّى اليهودي الجنسية يعرف جيداً تاريخ تعامُل الله مع شعبه عَبْر الأجيال المُتلاحقة، لهذا فهو يَضَع قصة ميلاد المسيح بمغزاها الروحي واللاهوتي والتاريخي كجٌزء أساسي مٍن استمرار تعامل الله مع شعبه منذ القديم، ولكن الآن بطريقة جديدة لم تُعْرَف مِن قَبْل.
إنَّ الكلمة العربية «ميلاد» التي استخدمها المُترجمون، لا تَفي بالمعنى المطلوب الذي يود متّى أنْ يُخبرنا إيَّاه عن المسيح. فمتّى لا يريد أنْ يتحدث فقط عن موضوع ولادة يسوع المسيح ونشأته وبدايته في عالمنا، بل يودّ أنْ يَعْلِن لنا أنَّ ميلاد يسوع المسيح هو الحَدَث الأساس في تاريخ تعامل الله مع شعبه منذ القديم وحتى اليوم. فالكلمة المُستخدمة في اللغة اليونانية الأصلية هي كلمة «تكوين». فالبشير متى بحسب الأصل اليوناني للكلمة يبدأ إنجيله كما يلي: «كتاب تكوين يسوع المسيح»، وكلمة «تكوين» هي أوسَع وأشْمَل من كلمة «ميلاد». فهي، بالإضافة إلى أنَّها تحمل معنى أساسي هو الميلاد، إلاَّ أنَّها تحمل أيضاً في كنْهها معنيَيْن أساسيَيْن آخرَيْن، يود البشير متّى أنْ يُطلعنا عليهما. المعنى الأول لكلمة «تكوين» هو قصة». هناك قصة بدأت في القديم وتستمر حتى اليوم. والمعنى الثاني هو «الوجود» أو الحضور الذي ابتدأ منذ القديم ويستمر حتى اليوم. وبالتالي يود البشير متّى من خلال هذا العنوان أنْ يقول لنا إنَّ ميلاد المسيح في عالمنا إنما هو الجزء الأساسي من قصة تعامل الله وحضوره المستمر مع شعبه منذ القديم وحتى يومنا هذا. حيث يبدأ إنجيله بقوله إنَّ يسوع المسيح هو «عمانوئيل». «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (متى 1: 23)، ويَنْهي إنْجيله بقوله لتلاميذه ولكل مؤمنيه «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» (28: 20).
فلكي يوضِّح لنا متّى هذه الحقيقة الروحية، فهو يُعرِّف عن هوية المسيح بلقبَيْن، الأول: «ابن داود»، والثاني: «ابن إبراهيم». فقصة تعامل الله مع شعبه كما رآها متّى، لم تبدأ بالتجسد ولَمْ تبدأ في الميلاد، بل بدأت مع إبراهيم وداود. وبالرغم من أن النبي داود يأتي تاريخياً بعد إبراهيم وليس قَبْله، إلاَّ أنَّ البشير متّى أراد بتقديم المسيح بلقب «ابن داود» أولاً أنْ يلفت انتبهنا إلى أن المسيح هو مِن نسل ملكي، من نسل داود الذي كان ملكاً على إسرائيل حوالي سنة ألف قبل الميلاد، فقد اختار الله الملك داود لكي يؤسِّس مملكة تعبده وتحقِّق ملكوته في العالم. وبالرغم مِن أن داود الملك ابتدأ بداية جيدة إذْ وحَّد مملكتَيّ إسرائيل ويهوذا اللتَيْن كانتا مُنقسمتَيْن، إلاَّ أنَّ هذا الأمر لَمْ يستمرّ طويلاً، فانْقسمت المملكة ثانية، وابتدأت إسرائيل بالانْحدار والتشرذم، ممَّا أدى إلى دمار إسرائيل وخراب الهيكل وسبي الشعب إلى أرضٍ غريبة. وهكذا لَمْ يحقِّق الله ملكوته مِن خلال الملك داود القديم، فصار الشعب مُحْبط الآمال يتطلَّع إلى ملك جديد، بَلْ إلى المسيَّا الذي سيرسله الله لكي يحقق ملكوته. وقد تنبأ إشعياء بأنَّ الملك الجديد الذي سيُحقق ملكوت الله سيكون مِن نسل داود: (إشعياء 11: 1-2) «ويخرج قضيبٌ من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله، ويحلّ عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب»، ويسّى هو أبو داود. أما في الأصحاح التاسع من إشعياء، والذي يتضمَّن نبوءة عن ميلاد المسيح، فيذكُر أن الولد الذي سنُعطى، أي يسوع المسيح، سيجلس على كرسي داود وعلى مملكته ليثبِّتها ويعضدها بالحقّ والبرّ «لأنَّه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد» (اشعياء 6: 6-7). وبالتالي، فعندما يعرّف البشير متى عن هوية يسوع المسيح أنَّه ابن داود، فهو يريد أنْ يقول لنا إنَّ ما فَشل في تحقيقه الملك داود بإعلان ملكوت الله في القديم، سيُحققه ابن داود الجديد، الملك يسوع المسيح، الذي سيحقِّق ملكوته، ليس بمفهوم العهد القديم، أي مملكة أرضية زمنية، بَلْ بمفهوم العهد الجديد، حيث سيملك الملك يسوع المسيح على عروش وقلوب كل من يؤمنون به. أما اللقب الآخَر الذي يعرّف البشير متّى المسيح به، والذي هو جزء من هويته، فهو «ابن إبراهيم». فما الذي يشير هذا اللقب؟ وعلى أي أساس اختاره متّى؟ للإجابة عن هذَيْن السؤالَيْن، كان مِن الضروري أنْ نفهم دور إبراهيم في قصة تعامل الله مع شعبه. فيخبرنا سفر التكوين أن الله عندما دعا إبراهيم ليسير معه، قال له: «اذْهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك… أنا الله القدير، سِرْ أمامي وكُن كاملاً» (تكوين 12: 1، 17: 1). ثم وعده الله أنْ تتبارك فيه جميع قبائل الأرض، ليس فيه شخصياً بل في نسله. والأمر المهم الذي يسترعي انتباهنا هو أنَّه عندما نَطَق الله بهذا الوعد لإبراهيم، فإبراهيم كان لا يزال أممياً غير يهودي، لأنَّه لَمْ يكُن قد نشأ الشَّعب اليهودي بَعْد. وبالتالي، فإن بركة الله لإبراهيم من خلال هذا الوعد لم تُعْط للشعب اليهودي فقط، بل لكُل الإنسانية مِن خلال نسل إبراهيم. فإبراهيم هو أبو المؤمنين جميعاً.
أمَّا الأمر الآخَر الذي يسترعي انتباهنا، هو أنَّنا إذْا ما دقَّقنا في لائحة أجداد المسيح الطويلة التي يذكرها متّى في بداية إنجيله (2-17)، والتي تتضمَّن 42 جِيلاً، نلاحظ أنَّ هذه اللائحة، وخلافاً للمُتعارَف عليه، تتضمَّن ذِكْراً لخَمْسَ نساء، مع أنَّ الأجداد يُذكرون عادَة مِن خلال الرجال فقط، كما أنَّنا نلاحظ أنَّ هذه اللائحة تتضمَّن ذِكْر ثلاثة نساء غَيْر يهوديات: ثامار، راحاب، وراعوث. فراعوث مَثلاً إمرأة موآبية، ومع أنّه بحسب شريعة التثنية (23: 3) التي حَرّمت أنْ يدخل موآبي في جماعة الرب، فإنَّنا نرى راعوث الموآبية ضمن لائحة أجداد المسيح. وبكلمة أخرى، فإنَّ البشير متّى مِن خلال ذِكْره لإبراهيم، ووَعْد الله له بالبركة وهو لا زال أممياً، وذِكْر النساء الأمميات، فهو يريد أن يقول لنا أمرَيْن أساسيَيْن: الأول، أنَّ خطة الله للخلاص كانت مِن البدء لكل الإنسانية رجالاً ونساءً، يهوداً وأمم، وليس فقط لليهود. والأمر الثاني، هو أنَّ الوريث الحقيقي لمواعيد الله لإبراهيم بأنْ تتبارك فيه جميع قبائل الأرض (جميع الشعب) هو هذا الطفل المخلِّص الرب يسوع المسيح. وهذا ما أعلنه ملاك الرب للرُّعاة عند ولادة المسيح، إذْ قال لهم: «لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب إنَّه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب» (لوقا 2: 10 – 11).
خلاصة الأمر، إنَّ اختيار البشير متّى لقَبَيّ «ابن داود وابن إبراهيم»، هو لكي يُعلن لنا أنَّه بيسوع المسيح، طفل المذود، الذي أتى إلى عالمنا وعاش بيننا ومات وقام لأجلنا، تحقَّقت الآمال الداودية بحلول ملكوت الله، والوعود الإبراهيمية بحصول كل مَن يَقْبَل يسوع المسيح رباً ومُخلّصاً لحياته على بَركة خلاصه الله، بغض النظر عن انتمائه القلبي، له المجد إلى الأبد.

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى