يوسف الرامي.. التلمذة الخفية التي صارت علنية
الهدى 1248 مارس وأبريل 2023
الكاتب القس مدحت موريس
هناك شخصيات لمع بريقها وقت ميلاد المسيح، وشخصيات لمع بريقها عند صلب المسيح ودفنه وقيامته، من بين هؤلاء «يوسف الرامي»، وسمي هكذا نسبةً إلى مدينة «الرامة»، وهي مدينة «رام الله» اليوم، «ومع أنه احتفظ بتلمذته للرب يسوع سرًا لسبب الخوف من اليهود (يو19: 38)، إلا أنه اثبت أمانته للرب، بأنه لم يكن موافقًا لرأي باقي أعضاء السنهدريم.» [وليم وهبة بباوي، تحرير، دائرة المعارف الكتابية، الجزء الثامن (القاهرة: دار الثقافة، 2001)، 347.] ترى ماذا قال الكتاب عنه؟
أولاً: المشير الشريف
يوصف الرامي بالقول: «جَاءَ يُوسُفُ الَّذِي مِنَ الرَّامَةِ مُشِيرٌ شَرِيفٌ» (مر15: 43)، يقول القس إلياس مقار: «لم يكن الشريف الذي يعيش في برجه العالي، بل القائد الذي يحس معنى وجوده ورسالته في الحياة، صاحب الذهن المتسع والتفكير السليم، ومن ثم فهو المشير الذي تبدو الحاجة إليه في أدق المشكلات والأزمات.» ومن الجدير بالذكر أن «سنهدريم» هي كلمة عبرية منقولة عن «سندريون» (Synedrion) اليونانية، ومعناها الجالسون معًا (أي: مجلس المشيرين)، كان هذا المجلس يقوم بالسلطة القضائية المركزية لليهود، عدد أعضائه 70 عضوًا وبالرئيس 71، وكان يرأس اجتماعاته في أيام العهد الجديد رئيس الكهنة. أعضاء المجلس يُختارون من العائلات الكهنوتية، وكبار المعلمين، وعددٍ من الشيوخ، وبوجه عام قام السنهدريم بأعمال السلطة المركزية في الإدارة المدنية لأورشليم، وبالإشراف على الشئون الدينية، ووضع خطة للخدمات في الهيكل، وفي تنفيذ العدالة في قضايا شئون الهيكل وحفظ وصايا التوراة. [وليم وهبة بباوي، تحرير، دائرة المعارف الكتابية، الجزء الرابع (القاهرة: دار الثقافة، 1992)، 452- 453.]
كان ذا مكانة رفيعة، مؤثرًا في موقعه، صاحب رأي سديد، كل هذا لم يكن عائقًا أمام إكرامه لإنسان تركه الجميع في هذا التوقيت.
ثانيًا: الصالح البار
يصف البشير لوقا يوسف الرامي: «وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيراً وَرَجُلاً صَالِحاً بَارّاً» (لو23: 50)، وعن الفرق بين البر والصلاح يقول د. القس إبراهيم سعيد: «البر هو استقامة الإنسان في ذاته، والصلاح يُعيّن صلته الطيبة بالآخرين، وقد يتضمن الإحسان (رو5: 7).» فصدق السلوك حينما يتسق الخارج مع الداخل، الصلاح مع البر.
ذكر الفيلسوف أفلاطون أنه إذا اُمتحن سلوك إنسان، كما لو لبس خاتم سحري –افتراضًا- يخفيه عن الناس، فلو ظل سلوكه مستقيمًا كما هو، فإن سلوكه حقيقي وصادق، ولو تغير سلوكه عما كان يظهره أمام الناس، فهو مخادع وغير حقيقي، لقد كان يوسف الرامي متسقًا خارجه مع داخله.
ثالثًا: العامل عندما صمت الآخرون
أين هم التلاميذ؟ لقد هربوا وشددوا على أنفسهم غلق أبواب العلية، لولا تدخل يوسف الرامي ونيقوديموس (يو19: 38) ربما ما كان جسد المسيح قد دُفن بشكلٍ لائق. تحرك الرامي وقت انسحاب الأحباء عندما خيَّمَ الظلام على مسرح الأحداث، يقول القس إلياس مقار: «إن التلاميذ المختفين كثيرًا ما يشبهون نوعًا من الزهور التي تنبت في جنوب أفريقيا، ويطلقون عليها «زهور الليل»، وزهرة الليل جميلة رائعة يبلغ طول الواحدة منها حوالي سبع بوصات، ولكنها لا تتفتح إلا في الليل، ولا يظهر جمالها إلا في الظلام.»
وللأسف الشديد فإننا كثيرًا ما نربط إتمام العمل بمن يعملون معنا، لأننا نستريح إليهم ليس أكثر! نحب العمل في الزحام حتى لا نُلام، ونوصف بأننا كسالى! وفي الوقت نفسه نتجنب أن نقف في الثغر لأن هذا الأمر مُكلِّفْ، ولن نحصد منه إلا المتاعب!
رابعًا: التلميذ المقدام
يقول عنه البشير مرقس: «فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ» (مر15: 43)، تجاسر: أي استجمع قواه وتقدَّم، لِمَا يوصف بالمقدام؟
1. لم يطلب أحدٌ منه أن يقوم بما قام به.
2. سيتعرض لخطر، وستهتز مكانته، لأنه عضو بالسنهدريم.
3. سيدفع تكلفة معنوية ومادية.
لم يكن كبيلاطس الذي كان متأكدًا من براءة يسوع، ولم يقوّ أن يقف ضد التيار، خوفًا على منصبه.
خامسًا: التلميذ الباذل
يقول البشير متى: «وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي الصَّخْرَةِ ثُمَّ دَحْرَجَ حَجَراً كَبِيراً عَلَى بَابِ الْقَبْرِ وَمَضَى» (مت27: 60)، كما يقول البشير لوقا: «وَأَنْزَلَهُ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ مَنْحُوتٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ وُضِعَ قَطُّ» (لو23: 53)، كانت معاملة الجنود الرومان لجثث الموتى –خاصةً من عُقِبوا بالصلب- غير آدمية على الإطلاق، لكن يوسف الرامي دفن يسوع في قبره الجديد، يصف القس إلياس مقار يوسف الرامي قائلاً: «من الواضح أنه كان يمتلك الثروة، أكثر مما كانت الثروة تمتلكه.» لم يكن يوسف الرامي كالشاب الغني، الذي باع الغالي بالرخيص، وفي النهاية «مَضَى حَزِيناً لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ» (مت19: 22)، ومن هذا المنطلق لا يمكن التعميم بأن كل الأغنياء غير مؤثرين في ملكوت الله.
ويمكن القول أن يوسف الرامي كان أكثر شخصية برقت من خلالها براهين قيامة يسوع المسيح! وكان هذا القبر -نظرًا لتميّزه عن باقي القبور- دليلاً شاهدًا على قيامة المسيح، وذلك للأسباب التالية:
1. القبر: «ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَوَّلَ الْفَجْرِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ» (لو24: 1)، فمن المستحيل أن تكون النسوة قد أخطأن القبر الذي دُفن فيه المسيح، لأنه قبر مميز منحوت في البستان، وليس بين مدافن.
2. الحجر: «فَوَجَدْنَ (النسوة) الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ» (لو24: 2)، كان هذا الحجر الذي جعله يوسف على مدخل القبر كبيرًا يصعب دحرجته، حتى إن الشغل الشاغل للنسوة طوال الليل كان «من يدحرج لهن الحجر».
3. الأكفان: «فَانْحَنَى (بطرس) وَنَظَرَ الأَكْفَانَ (التي لفَّهَا يوسف الرامي) مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ» (لو24: 12)، وبالتالي فإن جسد المسيح لم يُسرق، لأن السارق كان سيسرقه بالأكفان!
لقد كان يوسف الرامي مشيرًا شريفًا، صالحًا بارًا، عاملاً عندما انسحب الآخرون، مقدامًا باذلاً، لذا كان مؤثرًا في ملكوت الله.