الميلادقضايا وملفاتملفات دينية

ابن الموعد .. ابن الملك

الهدى 1247                                                                                          يناير وفبراير 2023

مع بدء العام الجديد يبدأ فصل جديد من فصول السَّنة الكنسيَّة، وهو فصل المَجيء، الذي يستمرّ أربعة أسابيع قبل الاحتفال بميلاد المسيح. في فصل المجيء نتذكَّر بفرح وابتهاج مجيء المسيح الأول، بميلاده العذراوي المُعجزي، ومُدَّة الأسابيع الأربعة هي فترة الاستعداد لذلك الاحتفال:
أمَّا كلمة «مجيء» هنا فإنَّها تعني: «حلول، وصول». في ذلك الفصل نُركِّز أبصارنا على ذلك المولود العجيب، النُّور الحقيقي الذي جاء إلى العالم المُظلِم. إنَّها لحظات روحيَّة رائعة ومُباركة إذا أحسنَّا استثمارها في تلك الذِّكرى الجميلة. فلنَغتنِم هذه الفُرصة للتَّفكير في واحدة من النِّعَم التي رافقت ميلاد المُخلِّص.
تبدأ صفحات الإنجيل بأحد النُّصوص الصَّعبة (متى 1: 1-17)، ليس لشيء إلَّا لأنَّه يتضمَّن قائمة مُرهِقة من 45 اسمًا، التي لا نعرف شيئًا عن مُعظم أصحابها. ومُعظَم الوعَّاظ يعتقدون أنَّ هذا النَّص لا يصلُح أن يكون مادَّة للوعظ والتَّعليم. ومُعظم قرَّاء الإنجيل يبدأون قراءته مِن قوله: «أمَّا ولادة يسوع فكانت هكذا» (ع 18). على اعتبار أنَّ ولادة يسوع هي بداية المسيحيَّة، وبذلك يتخطّون تلك الفقرة الصَّعبة الأولى من العهد الجديد. فهل لهذه الفقرة قيمة لاهوتيَّة وروحيَّة، رُغم صعوبتها؟ لماذا هذه القائمة الطَّويلة من الأنسال التي قد لا تعني شيئًا للقرَّاء؟ لماذا يبدأ العهد الجديد بتلك الصُّعوبة؟ وآباء الكنيسة الذين رتَّبوا أسفار العهد الجديد القانونيَّة، لماذا اختاروا ذلك المقطع ليكون على بوابة العهد الجديد، رغم أنَّ إنجيل متَّى لم يكُن أول الأناجيل المكتوبة؟
لم يدوِّن متَّى هذه السِّلسلة لإشباع حُبِّ استطلاع بعضٍ عن الأصول البشريَّة التي جاء منها يسوع حسب الجسد. كما أنَّه لم يكتُبها ليفتَخر بها أتْباع يسوع ويتفاخرون على غيرهم بنَسَبِه الإبراهيمي والملكي الدَّاودي. إنَّما قصد أن يُبرهِن هذه الحقيقة، أنَّ يسوع هو المسيَّا الموعود به، الذي كان ينبغي أن يكون ابن إبراهيم وابن داود، أي ابن الموعد الحقيقي وابن الملك الحقيقي، إتمامًا للنُّبوءات.
«ابن يوسف» أمْ «بن يوسف»؟
نبدأ بهذه الإشكاليَّة اللغويَّة فيما يتعلَّق ببنويَّة يسوع. فإنَّه بحسب (لوقا 3: 23، 38) «يسوع ابْن يوسف بِن هالي… شيث بِن آدم ابن الله». فما الفرق بين «ابن» و»بن»؟ كلمة «بِنْ» من دون ألف الوصل تأتي دائمًا بَيْن علمَيْن أو كِنيتَيْن، أحدهما أبٌ للآخَر، ولا تُحذَف إذا كانت صِفَة. بينما توضَع الألف إذا كانت بين الابن والجدِّ، أو بين الابن والأمِّ، أو بين الاسم والصِّفة، أو إذا كان ما قبلها ساكِنٌ، أو إذا أُضيفَت إلى ضمير، أو إذا جاءت بَيْن صفتَيْن، أو إذا جاءت أوَّل السَّطر. وعليه نقول «يسوع ابن الإنسان، وابن الله»، دون حذف ألف الوصل لأنَّها البنويَّة هنا صفة وليست علاقة جسديَّة. لذلك يقول الكتاب «يسوع ابن يوسف» وليس «بن يوسف»، و»آدم ابن الله» وليس «بن الله» بينما في بقية الأسماء يستخدم كلمة «بن» من دون ألف الوصل.
بداية المسيحيَّة
صحيحٌ أنَّ (ع 18) يُخبرنا فيه متَّى عن كيفيَّة ميلاد يسوع، لكن بداية المسيحيَّة كانت قَبْل ذلك بكثير، لقد بدأت مع المسيح منذ جُذوره الأزليَّة. أمّا متَّى فإنَّه يُجيب على تساؤلاتنا بأنَّنا لن نفهم قصَّة يسوع، التي سيبدأ في سردها من (ع 18)، إلَّا إذا فهِمنا أوَّلًا القصَّة الأكبر التي ترجع إلى عدَّة قرون سابقة لميلاد يسوع، وهي العهد القديم، التي يلخِّصها متَّي في شكل سلسلة نَسَب يسوع. والآية الأولى من الإصحاح الأوَّل هي عنوان الفقرة، وعنوان الإصحاح، وعنوان إنجيل متَّى، بل هي عنوان العهد الجديد كلّه: «كتابُ ميلادِ يسوعَ المسيح ابن داود، ابن إبراهيم.» في هذه الآية يُلخِّص متَّى القصَّة الكبيرة كلَّها: قسمها الأول من إبراهيم إلى داود، وقسمها الثَّاني من سليمان إلى السَّبي البابلي، وقسمها الثَّالث من السَّبي البابلي إلى يسوع الذي هو المسيَّا. أمَّا إبراهيم وداود فهُما مفْتاحَا تلك الأقسام الثَّلاثة.
يكتب متَّى للمسيحيين الذين دخلوا المسيحيَّة من خلفيَّة يهوديَّة، وأمميِّين مُتناغمين مع العهد القديم. واليهودي يعرف جيِّدًا الكتُب المُقدَّسة، ويعرف أنَّ أيَّ اسم من تلك الأسماء يَستَدعي لذاكرته قصصًا وأحداث فترات مُعيَّنة ومُهمَّة من ماضيهم القوميّ. إنَّها قصة طويلة جدًّا، لكنَّ متَّى يُلخِّصها ويجمعها في 17 آية. إنَّنا نفهم قصَّة يسوع بطريقة صحيحة ودقيقة إذا رأيناها في ضوء تلك القصَّة الكبيرة. إذن، هذه الفقرة في غاية الأهميَّة، لأنَّها تُبيِّن عدَّة حقائق عن شخصيَّة يسوع التي سيقرأ عنها لاحقًا قرَّاء متَّى، إنَّه: ابنُ الموعد، ابنُ الملك.
(1) يهوديّ حقيقيّ
لم يكن هدف متَّى التَّأريخ بالمفهوم المعاصر، بل التَّشديد على تعريف القرَّاء بشخصيَّة يسوع، إنَّه المسيَّا المُنتظَر مُحقِّق جميع النُّبوءات المسيانيَّة. كانت سلسلة الأنسال أمرٌ ضروري في المُجتمع اليهودي لتدعيم حقِّ الشَّخص في الانتماء إلى شعب الرَّبّ. هناك مَن لا يُحبُّون أن يسمعوا أنَّ يسوع يهوديًاّ، لأسباب سياسيَّة تتعلَّق بموقفِنا الصَّحيح من الصّهيونيَّة، وليس من الدِّيانة اليهوديَّة. لكنَّ الحقيقة الأولى التي يُقدِّمها العهد الجديد عن يسوع هي أنَّه يهوديّ الجنسيَّة. هذه الصَّبْغَة ليسوع تُعطينا المفتاح الأساس لفهم هويَّة يسوع، وسبب مَجيئه إلى العالم، وكيفيَّة مَجيئه، ومعنى تعاليمه.
(2) ابن الموعد
لم يكُن وعد الله لإبراهيم بمُجرَّد أن يكون له ابن ونَسل يُباركه الله بصورة خاصَّة، بل كان جوهر ذلك الوعد أنَّه من خلال نسل إبراهيم سوف يُبارك الله جميع أمم الأرض. وعندما يُبرهِن متَّى أنَّ يسوع ابن إبراهيم، لا يقصد فقط أنَّه يهودي الجنسيَّة ينتمي إلى شعب الرَّب، بل إنَّه ينتمي أيضًا إلى شعبٍ وعَده الرَّب أن يكون سبب بركة لبقيَّة الشُّعوب. الأمر الذي سوف يُبيِّنه متَّى في صفحات إنجيله عن قيمة يسوع لشُّعوبٍ خارج الحدود اليهوديَّة. وهذا أوَّل ما يُظْهِره في إنجيله في سلسلة نسَب يسوع، حيث يضع في قائمته الطَّويلة أربع أمَّهاتٍ، على غير العادة اليهوديَّة: ثامار، راحاب، راعوث، بثشبع التي لأوريا الحثِّي (ع 3-6). هؤلاء كُنَّ أجنبيَّات، مِن وجهة النَّظَر اليهوديَّة. وهكذا يُشدِّد متَّى على مَضمون أنَّ يسوع اليهودي الجنسيَّة هو ابن الموعد، هو نفسه «نسل» إبراهيم على حدِّ قول بولس: «وأمَّا المواعيد فقيلَت في إبراهيم ونَسْله. لا يقول وفي الأنسال، كأنَّه عن كثيرين، بل كأنَّه عن واحدٍ، وفي نسلك، الذي هو المسيح» (غلاطية 3: 16). إذن، فهو يهودي الجنسيَّة، ابن الموعد الإبراهيمي، وقد كانت فيه دماء أمميَّة أيضًا. وبذلك، فإنَّ خلاصه يشمل جميع النَّاس: اليهود والأمم، الرِّجال والنِّساء، الأبرار والخطاة.
(3) ابن الملك
يذكر متَّى في هذه الافتتاحيَّة أيضًا أنَّ يسوع، الذي ينتمي إلى شعب الرَّب، بصفته ابن إبراهيم ونسله الحقيقي ابن الموعد، هو أيضًا من نسل داود الملكي، وبالتَّالي له حقٌّ شرعيّ أن يُدعى «ابن داود»، ويُلقَّب «ملك اليهود». يؤكِّد متَّى، من خلال تسلسُل النَّسل الملكي، أنَّ يسوع ابن داود شَرعًا. بينما أكَّد لوقا في إنجيله على بنوَّة يسوع الجسديَّة ليوسُف، باعتباره أبوه الشَّرعي بالتَّبني، وبحسب أمْر الملاك الذي أرسله الرَّب ليُكلِّف يوسف بتلك الأبوَّة. إلَّا أنَّ متَّى ذهب إلى ما هو أبعد من كون يسوع «ابن داود» الملِك، إنَّه مسيح داود ورَبّ داود أيضًا. ويُعتَبر (مزمور 72) شرحًا جيِّدًا لهذه الحقيقة: «يكون اسمه إلى الدَّهر، قدَّام الشَّمس يمتَدُّ اسمه، ويتباركون به، كلُّ أمم الأرض يُطوِّبونه» (مزمور 72: 17). كان لقب «ابن داود» شائعًا ومفهومًا عن المسيَّا، فهو الملك الذي يعمل حسب مشيئة الله. وكثيرًا ما دَعى النَّاس يسوع بابن داود. وبناءً عليه، عندما يُثبِت متَّى أنَّ جذور يسوع الجسديَّة تمتدُّ إلى داود الملك، فإنَّه يُظهِر بذلك كيف يجب على الإنسان أن يأخذ ادِّعاء يسوع بأنَّه المسيَّا مأخَذ الجَدّ، ويُتوِّجَه ملكًا حقيقيًّا.
(4) إنَّه نهاية فترة الإعداد
يسوع، يهوديّ إبراهيميّ، وإنسان حقيقيّ، وملك شرعيّ، وفي نهاية تلك المُقدِّمة يُشير متَّى (ع 17) إلى وجود ثلاث سُباعيَّات مُزدوجة من الأجيال (14 جيلًا) دلالة على تمام الكمال. لم يكُن هدفه فقط ذلك العدد الرَّمزي عن نادرةٍ تاريخيَّة، فهناك سلاسل أنسال تغاضي عنها متَّى لقصد لاهوتيّ مُتعمَّد، هو الإشارة إلى تاريخ العهد القديم ضمن ثلاث فترات زمنيَّة من الأحداث الجوهريَّة في تاريخ العهد القديم: الأولى، من وعد الله إبراهيم حتَّى إقامة الملكيَّة تحت حُكم داود. الثَّانية، من حُكم سليمان حتَّى تدمير تلك الملكيَّة في السَّبيّ البابليّ. الثَّالثة، من السَّبي حتَّى مجيء المسيَّا. هذا الذي بمجيئه تنتهي سلسلة الأنسال وتَكتَمِل بجلوسه على عرش داود. فالعهد القديم ملئ بالنَّظرة المُستقبليَّة، إذْ يرى أنَّ حركة التَّاريخ تتقدَّم حتى تصِل إلى نقطة الذُّروة.
وكما لخَّص متَّى ذلك التَّاريخ في شكل سلسلة أنسال، فإنَّ ملاحظته الختاميَّة تُشير إلى أنَّ ذلك التَّاريخ قد تمَّ تحقيق الهدف منه الآن. فكافَّة خطوات الإعداد قد تمَّت، والمسيَّا، ابن إبراهيم، ابن داود، قد جاء. وبذلك يكون يسوع هو غاية ذلك التَّاريخ ونهايته.
(5) إنَّه البداية الجديدة
يفتتح متَّى كتابه، والعهد الجديد بهذه الكلمة: «كتابُ ميلاد». تذكِّرنا هذه الكلمة بالتَّعبير نفسه الذي ورد مرارًا في سفر التَّكوين بصيغة الجمع «كتاب مواليد» عندما يريد الكاتب أن يقدِّم سلسلة أنسال يُنهي بها فترة تاريخيَّة ليبدأ فترة جديدة، أو لتحديد التَّقسيمات المهمَّة في السِّفر. لذلك، فقد تعمَّد متَّى أن يستخدم التَّعبير «كتاب ميلاد» كأوَّل كلمة في كتابه، لكي يحدِّد به بداية جديدة، هي خليقة جديدة في المسيح يسوع. فبالنَّظر إلى الوراء، ليس يسوع مجرَّد نهاية لبداية، بل هو، بالنَّظر إلى المُستقبل، بدايةٌ لنهاية أبديَّة لا نهاية لها.
إذن، هذه الآيات التي افتَتَح بها متَّى إنجيله، على قدر كبير من الأهميَّة. إذْ تُشير إلى أبعاد هامَّة في شخصيَّة يسوع، قبل أن يقدِّمه متَّى لقرَّائه بحسب الجسد بَدْءًا من ميلاده. فالله أعطى إبراهيم ونسله الوعد بالبركة الإلهيَّة، وأعطى داود ونسله الوعد بالمملكة الأبديَّة. وفي يسوع المسيح سوف يشترك جميع المؤمنون في بركات الوعد الإبراهيميّ، وفي المملكة الدَّاوديَّة الرُّوحيَّة الأبديَّة.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى