فنون

قيامة المسيح حدثٌ يُغير الحياة

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

إذا بحثنا قليلًا عن بعض ملامح القيامة في الأدب العالمي لوجدنا نوعية من الروايات التي اتخذت من أحداث الصّلب والقيامة محور هامشي لإحداث تغير شامل في حياة أبطالها الذين صنعت لهم تاريخًا ونسجت وجودًا من خيال راقٍ، حلّق بالروح بعيدًا..
فمثلًا إذا كان باراباس قد نجا من الصّلب إلّا إنّ القيامة غيرت حياته كما تكشف رواية «باراباس» للكاتب السّويدي الحائز علي نوبل بارلاجير كفيست والذى نسج حياة باراباس -متخيلًا- بعد إطلاق سراحه، وكيف تحول إلى المسيحيّة نجد شخصيّة «باراباس»، وهو مجرم كان ينتظر تطبيق عقوبة الصّلب ولكن الوالي الروماني بيلاطس الذى كان يحاكم المسيح خيَّر اليهود بين صلب باراباس وصلب المسيح، فاختاروا إطلاق سراح المجرم الذي أصبح بطلاً لأكثر من عمل أدبي. وهنا يتحول بعد التبشير بالقيامة إلى شخصٍ مسيحيٍّ، إلا إنه يظل مثيرًا للمتاعب.
إنَّ التّحول للمسيحية بعد القيامة حدث أيضًا مع شخصية الجندي الروماني الذى كسب رداء المسيح المنسوج من الكتان وهي شخصية أصبحت ذات تأثير إبداعي، ليصبح بطلاً لقصة «الرداء» للكاتب لويد س. دوجلاس. قال لويد دوجلاس أنه كتب رواية الرداء للإجابة على هذا السؤال من خلال الأدب: ما الذي حدث للجندي الروماني الذي فاز برداء المسيح في لعبة النرد؟ فينسج من هذا السؤال أحداث الرواية التي تحولت لفيلم شهير من بطولة ريتشارد برتون، جين سيمونز، فيكتور ماتشور ومايكل ريني، مع دين جاجر، جاي روبنسون، ريتشارد بون، وجيف مورو واخراج هنري كوستر. وفي رواية «بين روما وأورشليم» قدّم الكاتب الإنجليزي شارل دانسكوم، سلسلة من الرسائل المتخيلة التي تكتبها لافيتيا ابنة أخي كلوديا زوجة بيلاطس البنطي الوالي الروماني الذى حكم علي المسيح بالصلب. وقد ترجمها إلى العربية الدكتور عزت زكي، ومن سطورها علي لسان أحد الجنود الرومان: «لقد كان صلب هذا الإنسان شيء جديد –قاس– رهيب لم أستطع تحمله، لا أقصد الظلام والزلزلة وما شابه من هذه الظواهر الغريبة، ولكني أقصد الرجل، الرجل نفسه.» ويبرر قرار بيلاطس بالصلب رغم اقتناعه ببراءة المصلوب فيقول: «إن الإنسان في حكمه للمستعمرات ينبغي أن يكون واقعيًا حازمًا فهذه الطّريقة التي تنجح مع هؤلاء، فماذا يهم لو مات إنسان واحد سواء كان بريئًا أم مذنبًا، ينبغي أن نضحي بكل شيء في سبيل عظمة دولتنا، فبعد أن يُنسى اسم هذا المدعو يسوع، ستظل الإمبراطورية الرومانية مزدهرة إلى الأبد!»

الإخوة الأعداء
من أبرز الروايات التي تعاملت مع القيامة كرمز حقيقي للسّلام والحياة، رواية «الإخوة الأعداء» للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكيس، الذي يُعدّ من أبرز الكتَّاب والشّعراء والفلاسفة في القرن العشرين. فقد ألَّف عديدًا من الأعمال المهمة في مكتبة الأدب العالميّ، تضمَّنت المقالات والروايات والأشعار وكتب الأسفار والتراجيديات، بالإضافة إلى بعض التّرجمات. وقد تُرجِمَتْ كتبُه إلى أكثر من 40 لغة. وقد سبق وعبر عن رمزية الصليب في روايته الشهيرة «المسيح يصلب من جديد» أمّا في رواية «الأخوة الأعداء» فتجلّت القيامة كحدث طقسي يتجلى في صلوات الكنيسة، وحدث لا بُدّ أن يعاش على الأرض فينهي الحرب.
تتناول «الإخوة الأعداء» من خلال سرد مبهر وتحليل نفسي قوي. الحرب الأهليّة التي شهدتها اليونان والتي نشبت بواكيرها أثناء الحرب العالمية الثّانية ومقاومة المحتلين، نتيجة الصراع بين اليسار واليمين الذي بدأ عام 1943 واستهدف الإطاحة بالسلطة التي أنهت الاحتلال الألماني–الإيطالي أثناء الحرب العالمية الثانية. وفعليًا، يؤرخ لهذه الحرب ما بعد نهاية الحرب العالمية الثّانية واستمرار الصراع بين اليسار واليمين في الفترة من (1946 – 1949م) بين جيش الحكومة اليونانية المدعومة من قبل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبين الجيش الديمقراطي اليوناني (قوات الأنصار) أي حرب بين الأخوة.
يتخذ الكاتب من رمزيّة صلوات أسبوع الآلام تعبيرًا عن وجع الحرب الأهليّة التي تأكل الجميع فيقرر الكاهن بطل الرواية إيقاف صلوات القيامة وإقامة المسيح من الأموات من خلال صلاته. إلّا إذا توقفت الحرب بين الأخوة. ويعلن ذلك أنّه لن يقيم المسيح فيقول: «لن أقيم لك القيامة، فلتبقَ نائمًا في الكفن تنتظر، لن تقوم من الموت إلّا ومعك اليونان، هل تسمعني؟ لا سلام؟ إذن لا قيامة، لست أملك شيئًا آخر أفعله.» ويعبِّر الكاتب المدهش عن مناهضة فكرة استعذاب الآلام وأهمية المناداة بالمسيح القائم فيقول: «أن تنسى أنك لست فقط المصلوب، لكنك أيضًا (القائم من الموت) والعالم لم يعد يحتاج إلى الرّب المصلوب، بل يحتاج إلى رب الجيوش» ويؤكد ذلك قائلًا: «يا رب سلِّح الخراف أيضًا حتى لا تأكلها الذئاب… وإذا أردت أن تعود للأرض، فلتعد أيها المسيح كالأسد الكريم، لا كالحمل. يا رب لا أستطيع أن أفهمك، لماذا تعاقب بقسوة أولئك الذين يحبونك!»

القيامة عند أدباء العَربِ
أمّا الكتّاب المسلمين فقد عبروا في أعمالهم الأدبيّة عن القيامة بتعبير الرّفع. حيث كان الهم الأساسي عندهم الصّمت عن حدث الصليب فقد اكتفى الأديب الكبير محمد كامل حسن في روايته الفريدة «قرية ظالمة» بالإشارة إلى حدوث الظلام، وصمت عن واقعة الصّلب وإن كانت الرواية منذ عتبة عنوانها تشير إلى الظلم الواقع على المسيح.
وفي إطار الإشارة إلى الرفع وإنكار صلب المسيح وبالتّالي قيامته، وضع الأديب عبد الحميد جودة السّحار في روايته «المسيح عيسي بن مريم» الآية القرآنية التي تقول: «بل رفعه الله إليه» ليروي حدث القيامة بعدها، وهو أقرب إلى السرد الإنجيليّ في وصف لقاء المجدليّة بالمسيح، ولكنه يلتزم ككاتب مسلم بأن المصلوب هو يهوذا لا المسيح. فيقول: «نور الفجر لم يبدد بعد ظلام اللّيل، وبدأت زقزقة العصافير تعكر السّكون المسيطر على حديقة يوسف الرّامي، التي قبر فيها يهوذا، وأخذ شبح يدنو في الظّلام مطرق الرأس، كانت مريم المجدليّة متشحة بالسواد قادمة في البكرة، تذرف على القبر الدموع، تقدمت في خطوات ثقيلة، حتى إذا بلغت القبر ألفت الحجر مرفوعًا عنه، فخفق قلبها، وانتابتها رهبة، وراحت تركض تنقب عن الحواريين، الذين هاموا على وجوههم حذر الموت.»
وعادت وفي رفقتها سمعان بطرس ويوحنّا، وقالت لهما: «أخذوا السّيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه؟» كانت تحسب أن المصلوب هو المسيح، فلما سُرقت الجثة انتابها هم ثقيل، وجرت دموعها غيظًا، ونظر يوحنّا إلى القبر فوجده خاليًا، ودخل باندفاعه المعهود، فلم يجد الجثّة فاضطرب، ودخل يوحنّا، فلما لم يجد شيئًا فاض قلبه حزنًا وبقيا صامتين لحظات، ثم خرجا مطرقين، وانصرفا وقد خلّفا المجدليّة تذرف الدّمع.»
ويرى الكاتب أن المسيح فر ووقع يهوذا في الدّين، فلما صلب عاد المسيح إلى قبر يهوذا، وهكذا برّر الكاتب لقاء المسيح بالمجدليّة. ولكنه لم يبرر صمت يهوذا الذي صلب ظلمًا ولم يصرخ ويقول أنا لست المسيح، رغم أنّه لم يعلن أن الله أصاب يهوذا بالخرس؟! ورغم الحوار بين المسيح والمجدليّة الذي سجله السّحار. لم يعلن المسيح لمريم أنه لم يصلب. فلماذا سكت المسيح عن هذه الخدعة؟ لماذا لم يخبر مريم المجدليّة وقبل ذلك؟ لماذا لم يخبر أمه التي جاز في نفسها السّيف، حتي تجفف دموعها؟ كذلك عندما يسرد السّحار ظهور المسيح لتلاميذه، لم يذكر أن المسيح أعلن لتلاميذه أنّه لم يصلب وأن يهوذا هو المصلوب فيقول السّحار: «أرخى الليل سدوله فاجتمع الحواريون يتهامسون في دار بعيدة عن عيون اليهود. كانوا يذكرون أن مريم رأت المسيح وأنه أخبرها أنه صاعدٌ إلى ربه وصدّق بعضهم ذلك القول، ورفض بعضهم الآخر أن يصدقه. حسبوا أن أوهام مريم صوّرت لها ذلك. فقد كانوا جميعا يحسبون أن عيسى صُلب وقبر، ولو دار بخلدهم أنّه فر من الجنود الرومانيين، وأن غيره صُلب عنه، لكان تصديقها يسيرًا. وفيما هُم في حوارهم دخل رجل قام في وسطهم فنظروا إليه فخفقت قلوبهم رعبًا. كان عيسى بقامته الطويلة وعينيه السوداوين منتصبًا وأراد أن يعيد إليهم طمأنينتهم فقال لهم في صوت هادئ: ’سلام لكم‘.» فهل صمت المسيح عن هذه الخدعة الإلهيّة الغريبة حتي تعلن بعد أكثر من ستّة قرون لقوم آخرين وبلغة أخرى؟! ويختتم السّحار روايته قائلًا: «وبلغ عيسى ظلام الليل الثقيل ليرفعه الله إلى العزة والمجد والخلود.»

روبير الفارس

* كاتب صحفي وروائي.
* صدر له أكثر من أربعين كتابًا بعضها في اللغة الإنجليزيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى