دراساتدراسات كتابية

المحبة في المسيحية (2)

الهدى 1225                                                                                                                                  نوفمبر 2020

المحبة المسيحية هي بحق ناموس ودستور الحياة المسيحية بلا لوائح وبلا قوانين التي يمكن أن يتهرب منها الإنسان أو يتحايل عليها، لهذا يقول الرسول بولس: «لِتَصِرْ كُلُّ أُمُورِكُمْ فِي مَحَبَّةٍ.»(1كورنثوس 16: 14) .

المحبة هي صفة وطبيعة في الله «الله محبة»، وهي التي تميز المسيحية عن غيرها، بل وتميز حياة المؤمنين الحقيقيين في الكنيسة عن غيرهم.
لكن لماذا هي وصية جديدة مع أن هذه الوصية وردت في العهد القديم «تحب قريبك كنفسك»(لاويين 19: 18) ؟؟

أولاً- جديدة في قياسها :-
قياسها في العهد القديم قبل مجىء المسيح هو: «تحب قريبك كنفسك»
1) هو قياس منخفض: لأنه على مقياس بشري « كنفسك فقط». وفسَّر اليهودي «قريبه» بأنه من جنسه اليهودي فقط، وحق له أن يبغض عدوه، كما قال المسيح عنهم: «سمعتم أنه قيل للقدماء تحب قريبك وتبغض عدوك»(متى 5: 43)، وكما هو واضح من سؤال الناموسي للمسيح قائلاً: «ومن هو قريبي؟» (انظر مثل السامري الصالح في (لوقا 10: 29). ولا يزال البشر يسيرون على هذا المقياس المنخفض عملاً بالمثل القائل: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب» أو المثل القائل «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» !!!
هذا المقياس المتدني للمحبة (بحسب مقياس ومفهوم البشر للمحبة ومفهومهم للقريب) سيطر على حياة كثيرين من البشر ونزع من قلوبهم كل القيم الإنسانية الراقية الرقيقة التي أودعها الله في الإنسانية جمعاء. امتلأت قلوب كثيرين بالبغضة والكراهية والتعصب ضد الآخر، وانتشر التمييز العنصري البغيض ضد الآخر المختلف معه في العرق أو في الدين أو في الجنس أو في الجنسية……..الخ.
2) قياس أعمق وأعظم للمحبة: لقد رسم السيد المسيح بعدًا أعمق وقياسًا أكبر ومثالاً أعظم للمحبة هو على قياس ومثال محبة المسيح لنا، إذ يقول: «كما أحببتكم أنا»، ففي محبة المسيح نرى أعماقها وقوتها فيما يلي:
• حب لمن لا يحب (للخطاة أجمعين): «وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.»(رومية 5: 8)
• حب للأعداء: «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (متى 5: 44)، «فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34)
• محبة الإخوة المؤمنين بعضهم لبعض أساس شركتهم ورباط الكمال في حياتهم: وهو ما شدد عليه المسيح بقوله: «أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا تحبون بعضكم بعضَا» (يوحنا 13: 34).
• محبة مجردة من الأنانية وحب الذات على حساب الآخرين: يقول الرسول بولس: «لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.» «لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا.» (فيلبي 2: 3-4).
• محبة فيها احترام كرامة كل للآخر ومودة بالمحبة كل للآخر: «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ.»(رومية 12: 10).
• محبة صادقة بلا رياء: «اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ.»(رومية 12: 9)» 22 طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ.»(1بطرس 1: 22).
• «لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.» (فيلبي 2: 3).
• المحبة تتأنى وترفق…المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ…ولا تظن السوء… (1كورنثوس 13: 4-8)

ثانيًا: المحبة وصية جديدة في مصدرها
نحن في ذواتنا وفي طبيعتنا البشرية لا يمكن أن نختبر ونمارس هذه المحبة بالمفهوم المسيحي ما لم نعط قوة من فوق من الروح القدس، لهذا وعد المسيح أن يمنحنا هذه القوة العظيمة بعطية الروح القدس المنسكب في قلوبنا، وهذا ما عبر عنه الرسول بولس بقوله:
«وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا» (رومية 5: 5) فبدون الروح القدس لا يمكننا أن نحب أحدًا لا قريب ولا بعيد ولا نقدر أن نمارس صفحًا وغفرانًا لمن يخطيء أو يسيء إلينا.
فشكرًا لله الذي يمنحنا قوة ومعونة بالروح القدس لنعيش هذه المحبة المسيحية السامية.

ثالثًا: المحبة جديدة في باعثها ودوافعها
لماذا أحبنا الله؟؟ لا يوجد سبب فينا على الإطلاق ولا في أي إنسان على وجه الأرض يجلب حب الله لنا إذ يقول الوحي: «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.»(رومية 3: 12). إذًا ليس عند الله سبب يدفعه لمحبة البشر وخلاصهم إلا المحبة فقط. يقول الرسول يوحنا:» 16 لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.»(يوحنا 3: 16).
ويقول الرسول بولس: «وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.» (رومية 5: 8).
فبأي باعث ودافع تحب أخاك وتحب الاخرين؟ هل لتبادل المصالح والمنافع كأهل العالم؟؟
طبيعة المحبة التي يعلمنا إياها المسيح: هي الحب للحب وليس سواه، والمحبة غذاؤها حب!
المحبة الحقيقية الطاهرة الصادقة للإخوة هي لأشخاصهم وليس لأجل تبادل منافع أو مصالح أو لأي شيء آخر.

رابعًا: المحبة جديدة لأنها متجددة على الدوام
يقول السيد المسيح:»….تحبون أنتم أيضًا بعضكم بعضًا» والفعل هنا في صيغة الإستمرار، فيجب أن تستمر محبة الإخوة بعضهم لبعض مهما كانت سقطات بعضهم أو ضعفات بعضهم أو عثرات بعضهم ، فليست تلك الأمور مبررًا لأن تفتر محبة الإخوة بعضهم لبعض، أو انتهازها فرصة لإدانة الضعفاء، بل بالعكس يجب أن نمكن لهم المحبة وأن تزداد لنقيم العاثر من عثرته ولنقوي الضعيف من ضعفه، ونقوم المخطيء بمحبة من خطأه. ما أروع قول الرسول بولس في هذا الصدد:» فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا.» (رومية 15: 1). المحبة لكي تستمر متجددة على الدوام يجب أن يكون غذاؤها حب وتنمو بممارسة المحبة بكل الوسائل: من مشاعر ومشاركات وجدانية في السراء والضراء….الخ يقول الرسول بولس: «وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ.»(رومية 12: 10).

خامسًا: المحبة مجددة للخطاة
يقول القديس أوغسطينوس: «المحبة تجدد الخطاة»، لا شك أنَّ المحبة المسيحية الصادقة الطاهرة بين الإخوة سيكون لها التأثير العظيم في الخطاة كما يقول المسيح: «بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 35).
المحبة المسيحية هي النور الساطع القوي في وسط الأشرار وفي وسط عالم الظلمة، حقًا قال المسيح:» فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.»(متى 5: 16).

القس رأفت مهني

الراعي السابق للكنيسة الإنجيلية في إدفو، واستمر في الخدمة لمدة أكثر من أربعين عامًا منها ثمتنية وثلاثون عامًا في إدفو. وهو الآن متقاعد ويخدم في بعض المناطق الجديدة في القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى