الإصلاح الديني والتعليم: عبوديَّة الإرادة ومَجد الله
الهدى 1260 – 1263 سبتمبر – ديسمبر 2024
أُثير الحوار اللَّاهوتي حول إرادة الإنسان ومدى إسهامها في خلاصه مرَّات عديدة عبر تاريخ الكنيسة. لعلَّ أحد أشهر وأقدم الخلافات حول هذا الأمر كان بين أغسطينوس وبيلاجيوس في القرن الخامس الميلادي. ومع أنَّ رأي بيلاجيوس قد أُدين بالهرطقة في مجمع قرطاج عام ٤١٨ م. إلَّا أنَّ الجدل حول دور إرادة الإنسان في قبول الخلاص ظلَّ دائرًا في الكنيسة. ثمَّ جاء وقت الإصلاح في القرن السَّادس عشر بجدل شهير آخَر حول القضيَّة نفسها بين مارتن لوثر وإيرازموس.
مقدِّمة تاريخيَّة
ولد لوثر عام ١٤٨٣م، وكتب أحد أهمّ كتبه بعنوان «عبوديَّة الإرادة» عام ١٥٢٥م، والذي كان ردًّا على كتاب قد كتبه إيرازموس عام ١٥٢٤م بعنوان «خطبة لاذعة حول حرِّيَّة الإرادة». حاجج إيرازموس أنَّ هذا الموضوع قد شغل بال الفلاسفة واللَّاهوتيُّون بشكل كبير، لكن من دون جدوى واضحة، أو بلا ثمر. لكن لوثر كان له رأي آخر. بالنِّسبة للوثر موضوع عبوديَّة الإرادة أو حرِّيَّة الإرادة وسلطان الله والعلاقة بينهم ليس أمرًا ثانويًّا أو نوعًا من الرَّفاهية يتحدَّث فيها العلماء أو اللَّاهوتيُّون فقط. على النَّقيض، رأى لوثر أنَّ هذا الأمر الخاصّ بعبودِّيَّة الإرادة مرتبط بقلب رسالة الإنجيل. لذلك اعتبر لوثر كتابه عن عبوديَّة الإرادة[1] بالإضافة لكتابه «التَّعليم المسيحي للأطفال» هما أهمّ ما كتب. رأى أنَّ عبوديَّة الإرادة أمر في غاية الأهمِّيَّة لأنَّه مرتبط بشكل مباشر بالخلاص، وبكلمة الله، ومجد المسيح ومجد الله نفسه. من وقت أغسطينوس والحوار محتدم حول هذا الأمر. وحتَّى يومنا هذا يظلّ السُّؤال حول عبوديَّة الإرادة وحرِّيَّة الإرادة سؤالًا محوريًّا ومثيرًا لكثير من الأسئلة والمناقشات.
ما معنى أن تكون بروتستانتيًّا؟
يسمِّي بعضٌ أنفسهم إنجيليِّين أو بروتستانت وهم يناقضون ما كانت تعنيه هذه الكلمة في القرن السَّادس عشر. كان موضوع عبوديَّة الإرادة إبَّان وقت لوثر أو وقت الإصلاح مرتبطًا بكيفيَّة الاعتقاد بطبيعة البشر بعد السُّقوط وما يسمَّى بالخطيَّة الأصليَّة. معنى أن تكون مُصلحًا في القرن ال١٦ هو أن تؤمن بما يسمَّى بالفساد الكلِّي. لكن قد ترى اليوم شخصًا يسمِّي نفسه بروتستانتيًّا وهو يرى أنَّ الأطفال يولدون أبرياء، وأنَّ بسبب البيئة المحيطة أو فساد المجتمع يصبح هذا الطِّفل خاطئًا. من ناحية أخرى يمكن أن يؤكِّد بعضٌ على فساد الإنسان وأنَّه مولود بالخطيَّة، ولكنَّهم يصفون هذا الفساد على أنَّه نوع من المرض وليس الموت الرُّوحي. وبحسب هذا الرَّأي فما يحتاجه الإنسان هو نوع من الاستنارة أو المعلومات، يحتاج هذا الإنسان الفاسد فقط لمن يشير إليه أو يرشده إلى الطَّريق، فما ينقص الإنسان هو المعلومات. وكأن ما يحتاج المرء إليه هو مَن يشير له على الخير الذي بداخله. المشكلة ليست فقط في هذه الأفكار ولكن في أن يُطلق معتنقيها على أنفسهم إنجيليِّين أو بروتستانت.
معظم ما يعتقد به الإنجيليُّون اليوم هو مشابه لما آمن به إيرازموس، وليس بما علَّم به مارتن لوثر. مع العلم أن إيرازموس كان كاثوليكيًّا. نعم رأى إيرازموس فسادًا في الكنيسة واعترض على تحكُّم الإكليروس، بل واهتمَّ بالكتاب المقدَّس جدًّا واستردَّ التَّرجمة اليونانيَّة للعهد الجديد التي اعتمد عليها لوثر نفسه في ترجمته للعهد الجديد إلى الألمانيَّة، لكن ظلَّ إيرازموس كاثوليكيًّا فيما يختصّ بالخلاص والنِّعمة وعمل الله.
المشكلة هي أنَّ الاختلاف بين لوثر وإيرازموس لم يكن فرعيًّا لكن جوهريًّا. نعم، قد يكون اختلف المصلحون فيما بينهم في بعض النِّقاط أو في تفسير بعض الآيات، لكن لم يكن ممكنًا أن يختلف مصلح أو بروتستانتي فيما يتعلق بعبوديَّة الإرادة أو سلطان نعمة الله. السُّؤال الذي أطرحه عليكم اليوم: هل يصحّ أن نطلق على أنفسنا إنجيليِّين؟
ما هي حرية الإرادة التي رفضها لوثر؟
ماذا كان يقصد لوثر عند استخدامه مصطلح «عبوديَّة الإرادة»؟ لم ينكر لوثر أنَّ البشر قادرون على اتِّخاذ قرارات حرَّة. بحسب لوثر، البشر ليسوا دُمًى. لكنَّه رفض أن تُنسَب أيَّة قدرة طبيعيَّة لدى البشر للقيام بأعمال بارَّة، أو لطاعة الله مِن القلب أو حتَّى لممارسة الإيمان، كردِّ فعل على الوعظ بالإنجيل. لذلك، فما رفضه المصلح الألماني ليس قدرة الإنسان على اتِّخاذ القرارات بشكل عامٍّ، وإنَّما أنكر وجود أيَّة قدرة طبيعيَّة لدى البشر ليؤمنوا إيمانًا خلاصيًّا، أو ليقوموا بأعمال صالحة من القلب. بالنِّسبة إلى الوثر، وحدها نعمة الله المجانيَّة كلِّيَّة القُدرة، الخاضِعة تمامًا لسُلطان الله، هي القادرة أن تنقذنا من عجزنا التَّامّ، وذلك بإعطائنا قلوبًا جديدة لَحمِيَّة تقدر أن تؤمن برسالة الإنجيل وتطيع وصايا الله من القلب.
لذلك، فمخاوف لوثر وغَيرته لم تتعلَّقا بطبيعة الإنسان فحسب، بل كانت سيادة الله وسلطان نعمته على المحكّ. رأى لوثر أنَّ إنكار عبوديَّة الإرادة هو إنكار سلطان نعمة الله وقدرته. والهجوم على عبوديَّة الإرادة هو هجوم على الإنجيل نفسه. فإنكار عبوديَّة الإرادة كما شرحها لوثر يحطّ من قوَّة الإنجيل، إذ صارت قدرة الإنجيل على تغيير القلب موضع تساؤل. كما تصير عقائد مثل عدم تغيُّر الله وكفاية المسيح على المحكّ، وبالتَّالي تصير عبادة الله وتمجيده على المحكِّ أيضًا. بالنِّسبة إلى لوثر، فإنَّ عبودية الإرادة وعدم قدرة الإنسان أن يصير مقدَّسًا هي القضيَّة الجذريَّة للإصلاح.
ما أهمِّيَّة هذا التَّعليم اليوم؟
ورغم أنَّ لوثر لم يقُم بوضع صياغة ما نعرفه اليوم باسم الخمسة سولاز (الكتاب المقدَّس وحده؛ بالنِّعمة وحدها؛ بالإيمان وحده؛ في المسيح وحده؛ ولمجد الله وحده)، إلَّا أنَّها كانت جزءًا من كتابه كما كانت محوريَّة في حُججه ضدَّ إيرازموس. والواقع أنَّ المشكلة لا تتعلَّق بالكلمات الخمس المميِّزة للخمسة سولاز (الكتاب المقدَّس؛ الإيمان؛ النِّعمة؛ المسيح؛ ومجد الله)، بل تكمن المشكلة في هذه الكلمة الصَّغيرة «وحده». وستوضِّح النِّقاط التَّالية أنَّ مصطلح «سولا» المترجَم «وحده» يشكِّل أهمِّيَّة بالغة في تعاليم لوثر حول عبوديَّة الإرادة، وينبغي أن يكون هذا المصطلح أيضًا بالغ الأهمِّيَّة في كرازتنا اليوم، لأنَّه يتعلَّق مباشرة بخلاصنا.
مركزيَّة كلمة الله (الكتاب المقدَّس وحده)
بشكلٍ عامٍّ، إذا قرأت كتاب لوثر سترى غناه بكلمة الله بعهدَيه. ويتجلَّى هذا في استخدامه عديدًا من الإشارات الكتابيَّة من العهدَين القديم والجديد. بحسب كلام لوثر في كتابه، الكتاب المقدَّس هو المعيار الذي تُقاس عليه الأمور (القسم ٢٣، ٣٥). في جداله مع إيرازموس، اتَّفق لوثر معه أنَّ أغلبيَّة التَّقليد يقف في صفِّ إيرازموس فيما يختصّ بحرِّيَّة الإرادة، مع بعض الاستثناءات البسيطة (القسم ٢٨)، لكن آمَن لوثر بأنَّنا يجب ألَّا نقبل ما يقوله التَّقليد أو ما يقوله الآباء بشكلٍ أعمى (القسم ٣٣)، ولكن يجب أن نمتحن كلامهم في ضوء معيار كلمة الله (القسم ٣٤). لقد رأى لوثر أنَّ امتحان أيَّة عقيدة أو فكر يجب أن يكون في ضوء كلمة الله.
اعترض إيرازموس على لوثر مدَّعيًا أنَّ كلمة الله ليست واضحة بشكل كافٍ فيما يتعلَّق بموضوع عبوديَّة الإرادة. كانت حجَّة إيرازموس هي: بما أنَّه حدث اختلاف في تاريخ الكنيسة حول هذا الأمر، فذلك دليل على أنَّه ليس واضحًا بما يكفي. وبناء عليه يجب علينا أن لا نهتمّ بتعليم هذه العقيدة (القسم ٣٤). ردَّ لوثر على هذا الاعتراض مؤكِّدًا على وضوح كلمة الله مستخدمًا عديدًا من الشَّواهد الكتابيَّة مثل «أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ» (مزمور ١٩: ٨)؛ «فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ، يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ» (مزمور ١١٩: ١٣٠)؛ «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مزمور ١١٩: ١٠٥). وعديد من الشَّواهد الأخرى في العهد الجديد والعهد القديم التي تؤكِّد على وضوح كلمة الله (الأقسام ٣٤-٣٦).
بالنِّسبة إلى لوثر، لو لم تكن كلمة الله واضحة، إذن فلماذا أرسلها الله من السَّماء إلينا؟ وكيف تكون كلمة الله غير واضحة وفي الوقت نفسه يقول الكتاب إنَّها نافعة للتَّعليم والتَّوبيخ والتَّقويم والتَّأديب الذي في البرّ (٢ تيموثاوس ٣: ١٦)؟ لم يتوقَّف لوثر عند حدِّ الدِّفاع عن وضوح كلمة الله، ولكنَّه هاجم إيرازموس أيضًا، الذي حاول اللُّجوء لأقوال الآباء كسندٍ لأفكاره. لأنَّه إن كان الكتاب المقدَّس، كلمة الله التي يقال عنها إنَّها النُّور والسِّراج غير واضحة، إذن، كيف يمكن أن تكون أقوال الآباء مفهومة؟ من يحاول أن يجعل كلمة الله غير واضحة يتركنا في ظلام دامس,
بالنِّسبة إلى لوثر السَّبب الذي يجعل بعضٌ لا يرون تعاليم النِّعمة هو العمى الطَّبيعي المرتبط بالخطيَّة وعبوديَّة الإرادة. لذلك أكَّد لوثر أنَّ فقط من خلال العمل المعجزي للرُّوح القدس يمكن لقلب الإنسان أن يرى ويقبل التَّعاليم الواضحة التي يعلِّمها الكتاب المقدَّس. وهذا يفسِّر ما نراه عبر تاريخ الكنيسة، حيث نجد أناسًا موهوبين ومَهَرة وأذكياء، لكنَّهم عميان لما يقوله الكتاب المقدَّس. يعرف لوثر أنَّ ما يقوله عن عبوديَّة الإرادة غير مقبول عند النَّاس الطَّبيعيِّين أو حتَّى عند كثيرين من معلِّمي الكنيسة. لقد فهم لوثر أنَّ السَّبب الذي يجعل كثيرون يقاوِمون التَّعليم الخاصّ بعبوديَّة الإرادة هو العقيدة نفسها التي يقاومونها.
بالنِّعمة وحدها، بالإيمان وحده
حاول إيرازموس تفادي تعليم ما يسمَّى بعبوديَّة الإرادة لأنَّها عقيدة صعبة. لكن كما رأينا، بالنِّسبة إلى لوثر، لو كان الكتاب المقدَّس يعلِّم ما يسمَّى بعبوديَّة الإرادة فهذا يعطينا سببًا كافيًا لكي نعلِّمها. لكن رأى المصلح الألماني أنَّ هناك سبب آخر يجعلنا نعلِّم تلك العقيدة وهي أنَّها تتحدَّى كبرياءنا وتعرِّفنا عظمة نعمة الله. في الحقيقة، إنَّ قلب الخلاف بين لوثر وإيرازموس هو دور النِّعمة وشكل علاقة نعمة الله بإرادتنا في خلاصنا. لمزيد من الفهم، إلى هذه اللَّحظة في التَّاريخ كانت هناك عدَّة نظرات فيما يتعلَّق بدور الإرادة في خلاصنا: البيلاجيَّة، والنِّصف بيلاجيَّة، والفكر الأغسطيني.
البيلاجيَّة: نحن بالطَّبيعة قادرون على طاعة ناموس الله. يمكن للنِّعمة أن تسهِّل طاعتنا، ولكنَّنا يمكن أن نطيع من دونها وذلك بحرِّيَّة إرادتنا.
الأغسطينيَّة: على النَّقيض يقول الفكر الأغسطيني إنَّنا لا يمكن أن نطيع الله ولا ناموسه من دون أن يتدخَّل الله. فنحن أموات بالذُّنوب والخطايا وليس لدينا لا القدرة ولا الإرادة لكي نطيع. من دون نعمة الله وحدها لا يوجد لدينا أمل.
النِّصف بيلاجيَّة: هي طريق وسط يرى أنَّ الإنسان ليس ميِّتًا تمامًا لكنَّه مجروح بشدَّة أو مريض. فمع أنَّ الإنسان مريض لا يستطيع مساعدة نفسه، لكنَّه يمكن أن يرغب في أن يساعده الله ويمكنه أن يتعاون مع نعمة الله من أجل خلاصه. بناءً على ذلك هناك نوع من التَّعاون بين نعمة الله وإرادة الإنسان حتَّى ما يحدث الخلاص.
بحسب لوثر، لم يكن إيرازموس واضحًا في تعريفه لشكل العلاقة بين حرِّيَّة الإرادة ونعمة الله. كيف يعملان معًا؟ يكتب لوثر أنَّ إيرازموس يدَّعي من ناحية أنَّه «أمرٌ منافٍ للتَّقوى وغريبٌ وغير ضروري أن نعرف ما إذا كانت إرادتنا تفعل أيّ شيء في تلك الأمور التي تتعلَّق بالخلاص الأبدي، أو ما إذا كانت سلبيَّة تمامًا تحت عمل النِّعمة» (القسم ٦). ومن ناحية أخرى يقول إنَّ الإنسان يجب أن يجاهد بكلِّ قوَّته حتَّى ينال الخلاص. لقد جادل إيرازموس بأنَّ من دون نعمة الله لا يمكن للإنسان أن يخلص، ولكنَّه قال أيضًا إنَّ العامل الفَيصل في خلاصنا هو حرِّيَّة إرادتنا. بحسب إيرازموس، فحرِّيَّة الإرادة هي «قدرة إرادة الإنسان التي من خلالها يفعل الإنسان في حياته الأمور التي تقود إلى الخلاص الأبدي أو تجعله يبتعد عنه.»[2] من الملاحظ أنَّ إيرازموس لم ينكِر ضرورة عمل النِّعمة في الخلاص، لكنَّه لم يوافق أن يضع بجانب كلمة النِّعمة «وحدها».
على النَّقيض، رفض لوثر أيَّ تلميح إلى إرادتنا في ذاتها كعامل في نيل الحياة الأبديَّة. لقد تمسَّك بنظرة أغسطينوس بأنَّه من دون تدخُّل نعمة الله وتمكين الرُّوح القدس لنا، فلن نفهم أو نتفاعل مع رسالة الإنجيل. فالإنسان الطَّبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنَّه عنده جهالة، ولا يقدر أن يعرفه (١كورنثوس ٢: ١٤). فالإنسان في طبيعته لن يرغب حتَّى في الأمور الرُّوحيَّة ولن يفهمها. فالخلاص لم يخطر على بال إنسان (١كورنثوس ٢: ٩) – قارن ٢كورنثوس ٤: ٣-٤. بحسب لوثر، الخلاص هو أمر لا يمكن للقدرة البشريَّة العاديَّة أن تتفاعل معه وتقبله من دون تدخُّل معجزي من الرُّوح القدس.
النَّاموس والإنجيل
كان لإيرازموس عدَّة اعتراضات على حجج لوثر في هذا الصَّدد. بادئ ذي بدء، اعترض إيرازموس على كلام لوثر بأنَّ الإنسان غير قادر على التَّفاعل مع أوامر الله بالطَّاعة والإيمان. وقد بنى اعتراضه على أساس كلّ الأوامر الموجودة في الكتاب المقدَّس قائلًا: كيف يمكن أن يأمرنا الله أن نفعل أمور يعرف تمامًا أنَّنا غير قادرين على فعلها؟ بالنِّسبة إلى إيرازموس لو تصرَّف الله بهذا الشَّكل يكون مثل الشَّخص الذي يسخر من أعمى طالبًا منه أن ينظر لكَنز لكي يأخذه. وبناءً عليه، يجب أن نفهم أنَّ كلَّ الأوامر التي يقولها الله في كلمته لنطيع ونؤمن، تفترض قدرة الإنسان على الاختيار بحرِّيَّة أن يطيع ويؤمن.
ردَّ لوثر على هذا الادِّعاء أنَّ هذا استنتاج وارد من وجود الأوامر المختلفة في الكتاب المقدَّس، لكنَّه ليس الاستنتاج الوحيد أو الضَّروري. فهناك احتمال آخَر وهو أنَّ الله يريد أن يبيِّن لنا عجزنا عن الطَّاعة، وبناءً عليه نصرخ إلى الله لكي ينقذنا. ولقد رجَّح لوثر الاحتمال الثَّاني وخاصَّة في ضوء كلّ الشَّواهد الكتابيَّة التي تؤكِّد على عجز الإنسان لكونه ميِّت بالذُّنوب والخطايا. بالنِّسبة إلى لوثر، يمكن لله أن يعطي النَّاموس والوصايا بصفته أب يريد أن يعلِّم أولاده، أو بصفته طبيب يريد أن يفهم مرضاه مرضهم، أو حتَّى لكي يبيِّن لأعدائه كبرياءهم. وبناءً عليه تكون الوصايا هي وسيلة الله التي يحقِّق بها غرضه أيًّا كان، سواء مع أحبائه أو أعدائه (القسم ٥٢).
ما هو دور الإيمان؟
قد يبدو الكلام عن النَّاموس أو طاعة الوصايا واضحًا، بمعنى أنَّ الجميع قد يتَّفق بسهولة أنَّ الإنسان بقدرته لا يستطيع طاعة النَّاموس. لكن يجادل إيرازموس أنَّه على الأقلّ يمكن للإنسان أن يمارس الإيمان أو يقبل رسالة الإنجيل، هنا يظهر دور الإرادة الحرَّة. يرى إيرازموس وكثيرون معه اليوم أنَّ الإيمان هو الإسهام البشري في عمليَّة الخلاص. وهذا ما يمكن أن يسمَّى بالسينرجيَّة synergism أي تآزر بين نعمة الله وقبول الإنسان. لم ينكر لوثر ضرورة الإيمان في التَّبرير. فالتَّبرير يحدث بالإيمان وحده، ولكنَّه أصرَّ على وضع الإيمان في مكانه الصَّحيح. فالإيمان وحده لا يمكن فصله عن النِّعمة وحدها.
هنا يجب أن نفكِّر في طبيعة فعل الإيمان؟ إنَّ فعل الإيمان هو فعل بارٌّ فيه نخضع ونصدِّق الإنجيل. فبالإيمان نعترف بعجزنا واحتياجنا لخلاص الله. كيف يمكن لشخص ميِّت روحيًّا أن يُنتج تصرُّفًا مثل هذا من دون روح الله. وبالتَّالي أكَّد لوثر أنَّ الإيمان هو عطيَّة مجانيَّة غالية من الله لنا. الإيمان هو الوسيلة التي يمنحها الله في نعمته لنا كي نقبل خلاص الله، وكلّ هذا بسبب نعمة الله فقط. بالنِّسبة إلى لوثر، فإيماننا وأعمالنا لا يُضافوا على عمل الله في الخلاص، لكنَّهم نتاج عمل الله في حياتنا. إنَّ الكلمة الصَّغيرة «وحده» هي كلمة ذات أهمِّيَّة قصوى بالنِّسبة إلى الفكر اللَّاهوتي عند لوثر، وينبغي أن تكون كذلك لنا نحن أيضًا.
على نقيض إيرازموس، تمسَّك لوثر بما يسمَّى بالأحاديَّة Monergism وهو المصطلح الذي يعني أنَّ الله وحده هو من يُفعِّل الخلاص في قلب الإنسان. رأى لوثر أنَّه بحسب الرَّسول بولس لا يوجد أيَّ فرق بين أيّ إنسان، لا توجد استثناءات فيما يتعلَّق بإمكانيَّة التَّجاوب مع دعوة الله. بأعمال النَّاموس كلُّ ذي جسد لا يتبرَّر أمامه (رومية ٣: ٢٠). لكن فقط من خلال نعمة الله ذات السُّلطان الكامل يمكن أن نخلص بالإيمان في المسيح وذلك من دون أيِّ تدخُّل أو تعاون من إرادتنا الطَّبيعيَّة.
حتَّى هذا الإيمان الذي به نتَّحد بالمسيح، هو عطيَّة الله والتي نمارسها بسبب المعجزة التي يُحدثها الله في قلوبنا بالرَّوح القدس.
يأتي إيرازموس باعتراضه الثَّاني على فكر لوثر اللاهوتي قائلًا بأنَّ إنكار الإرادة الحرَّة يقود بالضَّرورة إلى ما يُسمَّى بالقَدَريَّة. والصِّراع هنا صار حول سلطان الله وكونه كلِّي القدرة وكلِّي العِلم ولا يتغيَّر. بحسب إيرازموس، لو تمسَّكنا بما يسمَّى مبدأ النِّعمة وحدها فهذا سيجعل الله هو المسؤول عن خطايانا. يبني إيرازموس حجَّته بالشَّكل التَّالي: لو لم يكن لدى البشر إرادة حرَّة، فهذا يعني أنَّ كلَّ ما نفعله فهو سيحدث بشكل ضروري، أيّ أنَّه ضروري سيحدث[3].
هنا كان ردّ لوثر مبنيًّا على التَّفرقة بين الضَّرورة والإجبار. قال لوثر إنَّه لم يفعل أحد الشَّرَّ لأنَّه يوجد أحد قد أرغمه مُمسِكًا إيَّاه من رقبته لكي يفعل الشَّرَّ، وإنَّما يفعل الأشرار الشَّرَّ بشكل طبيعي وعَفوي وبرغبة طبيعيَّة، بشكل يجعل الأمر من المستحيل أن الشَّخص يتوقَّف عن فعل الشَّرّ بقوَّته. لكن في الوقت نفسه كلّ الشَّرّ الذي يفعله الأشرار هو جزء من عِلم الله السَّابق، وبالتَّالي هو جزء من مقاصده الأزليَّة. هكذا شرح لوثر الأمر:
إنَّ كلَّ ما نفعله، وإن بدا لنا أنَّه يتمّ بطريقة متغيِّرة ومعتمِدة على ظروف أخرى، بل وربَّما يتمّ القيام به بطريقة عرضيَّة من جانبنا، إلَّا أنَّه في الواقع يتمَّ بالضَّرورة وبشكل غير قابل للتَّغيير، فيما يتعلَّق بإرادة الله. لأنَّ إرادة الله فعَّالة ولا يمكن إعاقتها؛ لأنَّ قوَّة الله ذاتها طبيعيَّة بالنِّسبة له، وحكمته لا يمكن خِداعها[4].
يربط لوثر في هذا الاقتباس بين معرفة الله السَّابقة وبين قُدرته وعدم تغيُّره وسلطانه معًا. وقد استخدم مثلًا قصَّة يهوذا ليشرح فكرته.
إذا كان الله قد علِم مُسبقًا أنَّ يهوذا سيكون خائنًا، فقد أصبح يهوذا خائنًا بالضَّرورة؛ ولم يكُن في قدرة يهوذا ولا أيِّ مخلوق آخَر أن يغيِّرها، أو يغيِّر تلك الإرادة؛ مع أنَّه فعل ما فعله طوعًا وليس عن طريق الإكراه؛ لأنَّ إرادته كانت عمله الخاصّ؛ وهي الإرادة التي تحكَّم فيها الله كلِّي القدرة وحرَّكها لكي تعمل في اتِّجاهٍ ما كما يفعل كلّ شيء آخر. الله لا يكذب، ولا يُخدَع[5].
لم يتوقَّف لوثر عند هذا الحدِّ، ولكنَّه حاجَج أنَّ سلطان الله وعدم تغيُّره يجب أن يكون مصدر تعزية ويقين، وخاصَّة في أوقات الضَّعف والألم. هذه الصِّفات تعني أنَّ الله هو الله الذي لا يكذب عندما يعِد، وهو قادر أن يتمِّم وعوده لنا لأنَّه كلِّي القدرة وكلِّي العِلم ولا يتغيَّر. من دون هذا الاعتقاد، «يُدمَّر الإيمان المسيحي تماًما وتسقط وعود الله والإنجيل إلى الأرض، لأنَّ أعظم راحة بل والتَّعزية الوحيدة للمؤمنين وقت ضيقهم، هو كونهم يعرفون أنَّ الله لا يكذِب بل يفعل كلَّ الأمور ويقود كلَّ الأحداث من دون تغيير. فلا يمكن مقاومته أو تغييره أو مَنعه[6]».
كان آخر اعتراض لإيرازموس في هذا السِّياق هو أنَّ هذا التَّعليم يقود غير المؤمنين لليأس والكراهية والتَّجديف. فمَن يمكن أن يسمع هذا الكلام ويحاول أن يغيِّر حياته؟ مَن يمكن أن يصدِّق أنَّ الله يحبّه؟ ليردّ لوثر قائلًا: لا أحد يمكنه ولا أحد يقدر، إلَّا المختارين وذلك بعمل الرّوح القدس. فيردّ إيرازموس قائلًا: ما النَّفع إذن أو ضرورة هذا التَّعليم بشكل علني، عندما يبدو وأنَّ كثيرًا من الشُّرور سوف تنتج عنه؟[7]
اسمع ردّ لوثر والذي يؤكِّد على احترامه وتقديره لكلمة الله:
لقد أراد الله أن يتمّ إعلان هذه العقائد علانيَّة، ولكن لا ينبغي لنا أن نبحث في سبب الإرادة الإلهيَّة، بل ينبغي لنا ببساطة أن ننبهِر بها، وأن نعطي المجد لله: الذي بما أنَّه وحده العادل والحكيم، فلا يفعل الشَّرَّ لأحد، ولا يستطيع أن يفعل أيَّ شيء بتهوُّر أو بإهمال، حتَّى وإن بدا الأمر عكس ذلك تمامًا.[8]
يمكن تلخيص وجهتيّ نظر لوثر وإيرازموس كالتَّالي: أخذ إيرازموس موقف السينرجيزم في الخلاص حيث نتعاون مع الله في خلاصنا، بينما أخذ لوثر موقف المونرجيزم في الخلاص بحيث نستقبل عمل الله الكامل لنا بالإيمان. وحتَّى هذا الإيمان هو عطيَّة من الله. لقد أكَّد المصلح الألماني أنهَّ بحسب كلام الرَّسول بولس «بأعمال النَّاموس كلُّ ذي جسد لا يتبرَّر أمامه». فقط من خلال نعمة الله السِّياديَّة والتي لا تعتمد إطلاقًا على إرادتنا أو مشاركتنا، يمكن أن نخلُص بالإيمان في المسيح. بالنِّسبة إلى لوثر، كان هذا الأمر جوهريًّا للغاية، ليس فقط لأنَّه أكَّد على عجزنا الكامل، ولا فقط لأنَّه أظهر عظم وكمال عمل الله في خلاصنا، ولكن أيضًا لأنَّه يتعلَّق بمن هو الله وهذا يقودنا لآخر نقطة.
لمجد الله وحده
لم تكن هذه العقيدة ثانويَّة بالنِّسبة إلى لوثر، بل مسألة حياة أو موت، وذلك ليس لأنَّها تؤكِّد على عجزنا التَّام، ولا لأنَّها توضِّح عظمة عمل الله الكامل في خلاصنا، لكن لأنَّها تتعلَّق بشخصيَّة الله نفسه. كان الحوار بين لوثر وإيرازموس متعلِّقًا بطبيعتنا وطبيعة الله وقدراتنا وقدرة الله. أكَّد لوثر أنَّه ما لم ندرك مدى انحطاط حالتنا وانعدام وجود أيّ أمل فيها، فلن نفهم مدى روعة رسالة الإنجيل وقوَّتها ولن نفهم مدى عظمة خلاص الله. هذا، لأنَّ معرفتنا لعجزنا التَّام وعبوديَّتنا للخطيَّة من جهة، ومن جهة أخرى معرفتنا لقوَّة الله وسلطان نعمته لإنقاذنا من وضعنا الميؤوس تؤثِّر بشكل جذري في معرفتنا لشخصيَّة الله وفي الطَّريقة التي نعبده ونشكره بها. يقول لوثر في هذا الشَّأن:
«لذلك، فليس مِن غير الدِّيني أو الغريب أو الزَّائد عن الحدِّ، بل من الضَّروري والصَّحيح، أن يعرف الشَّخص المسيحي ما إذا كانت الإرادة تفعل أيّ شيء في تلك الأمور التي تتعلَّق بالخلاص أم لا. بل دعني أخبرك أنَّ هذا هو المحور الذي تدور حوله مناقشتنا. هذا هو قلب موضوعنا إذ إنَّ هدفنا هو هذا: الاستفسار عمَّا يمكن أن تفعله «الإرادة الحرَّة وما هي الأمور التي تكون فيها سلبيَّة وما علاقتها بنعمة الله … لأنَّه إذا لم أعرف مقدار ما أستطيع أن أفعله بنفسي، وإلى أيِّ مدًى تمتدّ قدراتي، وماذا يمكنني أن أفعل تجاه الله؛ سأكون على حدٍّ سواء غير متأكِّد وجاهِل بمقدار ما يجب أن يفعله الله، وإلى أيِّ مدًى تمتدّ قدرته، وماذا يجب أن يفعل تجاهي: بينما «الله هو الذي يعمل الكلَّ في الكلِّ» (1 كورنثوس 12: 6). ولكن، إذا لم أعرف الفرق بين عملنا وقوَّة الله، فأنا لا أعرف الله نفسه. وإذا لم أعرف الله، فلن أستطيع أن أعبده، أو أسبِّحه، أو أشكره، أو أخدمه؛ لأنَّني لن أعرف كم ينبغي لي أن أنسب لنفسي، وكم ينبغي لله. لذلك، من الضَّروري أن نميِّز بشكل مؤكَّد بين قوَّة الله وقوَّتنا، وعمل الله وعملنا، إذا أردنا أن نعيش في خوفه[9].
بالنِّسبة إلى لوثر، لم يأتِ المسيح ليجعل الخلاص متاحًا، ومن ثمَّ يجب على البشر أن يقرِّروا ما إذا كانوا سيستفيدون من عمله أم لا. بل كان لوثر يؤمن أنَّ المسيح جاء ليخلِّص شعبه من حالتهم الميؤوس منها والعاجزة تمامًا. لذلك، فهو يستحقّ كلَّ المجد والعبادة لما هو عليه وعلى ما فعله، وعلى ما يفعله، وعلى ما سيفعله في خلاصنا. إنَّ عبوديَّة الإرادة مرتبطة بشكل مباشر بأهمّ أمر يهمّ في حياتنا، ألا وهو مجد الله. فهو منه وبه وله كلّ الأشياء.
الحواشي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جميع الاقتباسات من كتاب لوثر «عبودية الإرادة» يمكن مراجعتها في المرجع التالي:
Martin Luther, The Bondage of the Will, trans. by Henry Cole (London: T. Bensley, 1823).
[2] Erasmus, Diatribe Concerning Free Will. Quoted in Luther, The Bondage of the Will, trans. by Henry Cole (London: T. Bensley, 1823), 108.
[3] Erasmus, Diatribe Concerning Free Will. Quoted in Luther, The Bondage of the Will, 59.
[4] Luther, The Bondage of the Will, 27.
[5] Luther, The Bondage of the Will,220–221..
[6] Luther, The Bondage of the Will, 32.
[7] Luther, The Bondage of the Will, 55 -56.
[8] Luther, The Bondage of the Will, 56.
[9] Luther, The Bondage of the Will, 23.