الروحانيّة الإنجيليّة، المعنى، التطبيق والتحديات
الهدى 1256 – 1259 مايو – أغسطس 2024
واحد من أكثر الاتهامات التي تواجه الاتجاه الإنجيلي هو افتقاده لنظام روحاني متماسك يمكن التعرف بسهولة على ملامحه. فالاهتمام بموضوع الروحانية لم يأخذ حقه من البحث والتحليل والكتابة عنه إلّا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولا يعنى هذا أن الروحانية لم تكن موجودة لكن دراستها وتحليلها لم يبدآ إلا في وقت متأخر نسبيًا بالمقارنة بالكنائس الأخرى وخاصة الكنيسة الكاثوليكية التي أولت اهتمامًا كبيرًا لهذا الموضوع خاصة مع العصور الوسطى (وكذلك الكنيسة الأرثوذكسية) الكم الأكبر من الكتب والمقالات التي تتناول هذا الموضوع يأتي من الجانب الكاثوليكي أو الأرثوذكسي.
في مقالة عن التطور التاريخي لموضوع الروحانية يقول كاتبه: «لقد انتبهت إلى حقيقة أن الروحانية قد تم تجاهلها بصورة مؤسفة من قِبل الأوساط العلمية. لقد تم التعامل مع الاختبار المسيحي كبعد اختياري من أبعاد الحياة المسيحية، كنوع من مكسبات الطعم يأتي مكانه فقط في إطار العبادة الشخصية، ولكنه أمر هامشي لا يخضع لأية دراسة جادة» التوقف أمام الروحانية الإنجيلية أمر مهم بالنسبة للسياق المصري والعربي لأكثر من سبب، منها:
1) ثورات الربيع العربي التي أدت إلى رغبة ملحّة في إعادة تعريف كل المصطلحات بصورة واضحة بسبب الغموض الذي يلف كل شيء حولنا؛
2) الزخم الكنسي المليء بالأفكار والاتجاهات سواء على المستوى الطائفي (ما بين الطوائف الثلاث) أو المستوى المذهبي ما بين المذاهب الإنجيلية المختلفة؛
3) الاتجاهات الكثيرة التي دخلت إلى الكنيسة الإنجيلية على أساس أنها صور مختلفة من اتجاهات التشكيل الروحي، والتي ينادي كل واحد منها بأنّه الحل لإعادة صياغة حياة الأشخاص لتكون أكثر قربًا وتفاعلًا في العلاقة مع الله؛
4) الطابع المادي/ الاستهلاكي الذي أصبح هو الملمح الرئيس في حياة الشارع المصري بسبب الضغوط الاقتصادية من جهة ومن جهة أخرى الفرق الكبير بين طبقات المجتمع المصري، ما أدى إلى إهمال جميع الطبقات لهذا الموضوع؛
5) الانفلات الأخلاقي الذي أصبح سمة مخيفة من سمات الشخصية المصرية مؤخرًا. وللأسف، دخل هذا الانفلات إلى قلب المجتمع الكنسي؛
6) مفهوم الروحانية الحقيقية لم يعد موجودًا أو علته أتربة كثيرة، وقد أثر هذا كثيرًا على مستوى «مصداقية المسيحية» أو «مصداقية الكنيسة» في نظر قطاع كبير وخاصة قطاع الشباب.
يشرح الدكتور القس مكرم نجيب هذه القضية فيقول: «هذه الأتربة والندوب التي جعلت الشباب في معظم الأحيان لا يجد في روحانية الكنيسة الإجابات الفكرية لمشاكله وتحدياته، أو الجمال الذي يرجوه في الدين، فيرتمي إلى واحد من نقيضين، كلاهما مر، إما أن يهجر الكنيسة إلى خارج الدين كله (وهو الحادث الآن على مستوى واسع)، أو أن يرتبط بجماعات دينية خاصة تضمن له البقاء في حياته الروحية في غيبوبة عقلية شبه كاملة.» ويؤكد فرانسيس شيفر في كتيبه الصغير: «الروحانية السوبر الجديدة» نفس الفكرة فيلخص أسباب هجران الشباب للكنيسة منذ ستينيات القرن الماضي في الأسباب التالية:
1) لقد قيل لهم أن يؤمنوا، لكنهم لم يجدوا أية إجابات منطقية/عقلية شافية للأسئلة الصعبة التي يطرحونها؛
2) لم يجدوا أي جمال (المقصود هنا جمال الروح/الأخلاق) في حياة مرتادي الكنائس؛
3) تأثر الكنيسة الإنجيلية في جزء كبير منها بالفكر الأفلاطوني الجديد بما يمثله هذا الفكر من احتقار للمادة والفن والجسد في فهم مشوه للروحانية الكتابية الحقيقية. 4) نزوع الكنيسة الشديد نحو الجمود والحرفية. سوف نتناول في هذا المقال النقاط الرئيسة التالية:
* التعريفات المختلفة للروحانية؛
* التجليات المختلفة للروحانية (أشكال الروحانية الإنجيلية)؛
* الملامح الأساسية التي يجب توافرها في توجهات الروحانية الإنجيلية.
أولًا: التعريفات المختلفة للروحانية
تعددت التعريفات للروحانية الإنجيلية، وفيما يلي أورد البعض منها:
هنالك التعريف الكلاسيكي للروحانية الذي يقدمه أوغسطينوس وأيده جون كالفن وهو أن الروحانية الإنجيلية تتلخص في محبة الله ومحبة القريب. يلخص ريتشارد لافلاس هذا التعريف بقوله: «إن هدف الروحانية الأصيلة إنما هو حياة تهرب من دائرة تدليل الذات أو تطوير النفس إلى دائرة محبة الله والآخرين.» يشير هذا التعريف بصورة ضمنية إلى أن هنالك اتجاهات مختلفة لممارسة الروحانية تؤدي بالمرء إلى الانغلاق على ذاته، ولو روحيًا من خلال التركيز على الذات في ممارسة الروحانية.
كما يُقدِّم جوردون ويكفيلد تعريفًا آخر يحوي جانبًا آخر من جوانب الروحانية فيقول: «الروحانية هي توجهات ويقينيات وممارسات تملأ حياة الناس وتساعدهم على الوصول إلى حقائق أكثر سموًا» يشير هذا التعريف إلى الجانب العملي (الممارسات) في الروحانية وهو الجانب الذي يتناوله كثير من الكتاب ربما أشهرهم على الإطلاق ريتشارد فوستر الذي كتب كتابه الشهير «فرح الانضباط» والذي يتناول فيه كثير من ممارسات التشكيل الروحي مثل الصلاة والتأمل والصوم والدراسة والبساطة والعزلة والخضوع والخدمة والاعتراف، والعبادة، والإرشاد، والاحتفال. التخوف الذي يبديه كثيرون من نحو هذا التعريف للروحانية يتمثل في:
1) خلق نوع من النخبة الروحية وهي الجماعة التي تمارس مثل هذه النوعية من الروحانية؛
2) أن تتحول مثل هذه الممارسات إلى عبادة ناموسية طقسية تفقد روح التواصل والهدف الأسمى منها وهو العلاقة مع الله. يقول كريستوف بلومهارت عن مثل هذه النوعية من الروحانية: «ألا تعلم أنه من الممكن أن تقتل المسيح بمثل تلك المسيحية! على كل حال ما الأهم المسيح أم المسيحية؟ وسأقول ما هو أكثر من هذا يمكننا أن نقتل المسيح بالكتاب المقدس! أيهما أعظم الكتاب المقدس أم المسيح؟ نعم يمكننا أيضًا أن نقتل المسيح بصلواتنا التي تمتلىء بمحبة الذات والشعور بالشبع الذاتي. فعندما يكون هدف صلواتنا هو أن نجعل عالمنا أعظم، فهذا معناه أن صلواتنا بلا جدوى»
التعريف الثالث يقدمه وينرايت إذ يقول: «الروحانية هي صلاة وحياة في يسوع المسيح. إنها الروح الإنسانية وهي تُمسك وتتثبت وتتغير بواسطة الروح القدس» ويقدم كراوشر نفس الاتجاه في تعريفه للروحانية حيث يقول: «الروحانية هي كل ما يخص حياة روح الله فينا» هذا التعريف تتمثل أهميته في ربطه الروحانية بمصدرها الذي هو عمل الروح القدس في داخل النفس الإنسانية.
التعريف الأخير الذي نتوقف أمامه هو الذي يقدمه روبرت بانكس إذ يقول: «الروحانية هي شكل ونوعية حياتنا مع الله في وسط إخوتنا المؤمنين والعالم. وهذا أساسًا عمل الروح رغم أن روحنا البشرية تشترك فيه، وليس روحنا فقط، بل كذلك فكرنا وإرادتنا، وخيالنا، ومشاعرنا، وأجسادنا.» هذا التعريف يشير بصورة خاصة إلى جانب السلوك في روحانية الحياة، وهو جانب قد نغفل عنه في أحيان كثيرة لأننا نميل إلى الجانب التعبدي الفكري التأملي عندما نفكر في الروحانية ولا نفكر في الجانب السلوكي أنه قد يكون معبرًا عن الروحانية.
ثانيًا: التجليات المختلفة للروحانية
المقصود بهذه النقطة هو التيارات الأساسية التي توجد على الساحة اليوم والتي تمثل الروافد الأساسية للتوجهات الروحية في المجتمع الكنسي/المسيحي. في رأيي الشخصي أن هنالك بعض التوجهات المحددة التي تلون الروحانية الإنجيلية في خبرتنا المصرية:
- التوجه الحرفي الذي يميل إلى التطبيق الحرفي للممارسات الروحية التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس دون تمييز بين المبدأ الكتابي الثابت الجوهري المطلق وبين ما هو حادث ومتغير ونسبي. الصوم كمبدأ كتابي ثابت/طرائق تطبيقه. الصوم مثلما صام يسوع 40 يومًا وليلة. الخلوة (اللقاء اليومي بالله)/طريقة التطبيق بوضع نظام معروف وثابت للخاوة دون أي إمكانية للتغيير والمرونة. طرائق الصلاة الغريبة مثل الدوران حول مكان ما أو الصلاة أثناء المشي في الشوارع (مثلما حدث في أريحا في العهد القديم).
- توجه الأفلاطونية الحديثة التي فصلت بين الروحي والمادي واحتقرت كل ما هو مادي (الفكر الرهباني)، مما أدى بالتالي إلى فصل شديد بين الروحانية وكل ما هو مادي. وبالتالي أصبحت العلاقة مع الله منفصلة تمامًا عن كل ما يمس الحياة المادية وقد أدى هذا الأمر إلى الازدواجية الشديدة الحادثة في حياة الكثير من المؤمنين. التوجه الغريب الذي أدى بالبعض إلى اعتبار التماثيل (مثل التماثيل الفرعونية) مجلبة للفساد والحياة غير المقدسة في البيت الذي يمتلكها وبالتالي يجب التخلص منها. ميل البعض إلى عدم تقديم الإعلانات بعد العظة أو الحديث عن أية أمور غير روحية بعد العظة وإلا سوف يقل تأثير العظة وكأن العظة في واد وكل أشكال الحياة في واد آخر. البعد عن استخدام الوسائل المرئية والرموز المادية في العبادة بصورة عامة.
توجه الكاريزماتية الجديدة، وتختلف عن الكاريزماتية التقليدية في أن الكاريزماتية التقليدية كانت كتابية مع التركيز على عمل الروح القدس المعجزي، أما الكاريزماتية الجديدة فلا تعير اهتمامًا للمحتوى لكن للشكل وأصبح الشكل الخارجي للخبرة المسيحية هو الأساس الذي يُقاس به مستوى النضوج المسيحي. أصبح كم الممارسة أهم من محتوى الممارسة (الصلوات الطويلة/التسبيح الكثير). التركيز على الجانب الفوق طبيعي لعمل الروح القدس (خبرات الشفاء وطرد الأرواح وإقامة الأموات والرؤى الروحية) أكثر من عمل الروح القدس الأساسي. هنا لا يمكن إغفال العودة إلى العمل الكتابي الأساسي لعمل الروح القدس والذي يعرضه باقتدار واختصار الدكتور القس فهيم عزيز في كتابه القيم «الروح القدس» في الفصل الأخير عن عمل الروح القدس في حياة الفرد: تجديد المؤمن، الفهم الروحي، الإرشاد الروحي، القيام بالإرسالية، القيامة.
التوجه النسكيّ الزاهد الذي انتشر في السنوات القريبة من خلال التأثر ببعض الكتابات النسكية وخاصة كتابات الأب متى المسكين، وكذلك بعض الكتابات الغربية التي اتخذت هذا التوجه في مسار التشكيل الروحي للمؤمنين (مثل كتابات ريتشارد فوستر وغيره.)
ثالثًا: الملامح الأساسية التي يجب توافرها في توجهات الروحانية الإنجيلية
نحتاج في نهاية هذا المقال أن نتوقف أمام بعض الملامح التي أرى أنها واجبة التوفر في توجهات الروحانية الإنجيلية الفردية أو الجماعية:
مركزية المسيح، الروحانية الإنجيلية مركزها شخص وعمل الرب يسوع (الذي فيه يجمع الله…) قبول المسيح هو بداية الروحانية، قبل ذلك لا يوجد سوى الادعاء والتمثيل والطقسية. العهد الجديد يصف هذه الروحانية، وخاصة في رسائل بولس، بأنها حياة «في المسيح». مركزية المسيح بهذا الشكل تشير إلى واحدة من سمات الروحانية وهي النمو والنضوج (Transformation Process). ومركزية المسيح بهذا الشكل تشير إلى هدف الروحانية وهو أن يتصور المسيح في حياة المؤمن (Imago Dei)، فالروحانية ليست وسيلة للذة فكرية (مع أنها تحمل هذا الجانب) لكنها رحلة هدفها التشبه المسيح في نهاية المطاف. «19يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ.» (غل 4: 19). «18وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.» (2كو 3: 18)
التوازن، في مقالة سبق ذكرها لريتشارد لافلاس يقول إنه في مسيرتنا الروحانية علينا أن نستمع لأربعٍ، للآخرين، بمعنى أن تكون روحانيتنا قادرة على استيعاب الخبرات الروحية الأخرى المناسبة سواء من الطوائف الأخرى أو المذاهب الأخرى بشرط ألا نتماهى مع الآخر لدرجة الذوبان فيه. للتاريخ، بمعنى أن نستلهم من الخبرات السابقة لنا ما يدفعنا إلى روحانية أكثر نضوجًا وتفاعلًا. للكتاب المقدس، بحيث تكون روحانيتنا روحانية كتابية معتدلة. لواقعنا، وهنا يأتي تطبيق المبادئ الكتابية التي نستلهمها من الكتاب المقدس.
معنى آخر من معاني التوازن هو توازن الروحانية الداخلية (التقوى) مع روحانية الخارج (الخدمة العملية) وروحانية الفكر (العمق الفكري). كما أن هناك جانب آخر من جوانب التوازن وهو التوازن بين الروحانية الفردية والجماعية (العلاقة المهمة بين الفرد والجماعة/ الإنسان والكنيسة). هذا الأمر يحمي الكنيسة من التغول على الفرد، ويحمي الفرد من التمرد على الجماعة من خلال الانعزال عنها في مجموعات أو كنائس البيوت.