الميلادقضايا وملفاتملفات دينية

الملك الذي اتضع

الهدى 1205-1206                                                                                                              يناير وفبراير 2019

في ذكرى عيد الميلاد قرر الملك أن يتفقد أحوال الرعية بنفسه؛ فخلع تاجه الذهبي وثوبه الأرجواني وارتدى ثوب رث وإزار كالح اللون، ثم لاس عمامة على رأسه وأخذ في يده عصا خشبية بدلا من عصاه الثمينة الموشاة بالذهب، وخرج ليطوف في شوارع المدينة. غير أنه لم يجد ما يسر قلبه.
لقد أضحى العيد عند الشعب ليس إلا أنوار وزينة وثوب قشيب وزق خمر عتيقة ومائدة طعام شهية، ولا مكان للمولود – المسيح الرب – بين كل هذ الأشياء. فتحسر الملك على ما آلت إليه الرعية، وسار مقطب الجبين، فقادته قدماه إلى كوخ صغير لرجل صياد كان بداخله يصلي.
وقف الملك خارج الكوخ إلى أن فرغ من الصلاة، ولما أحس الصياد بحركة أقدام خارج الكوخ، دعا من بالخارج إلى الدخول. فدلف الملك إلى الكوخ، غير أن الصياد لم يدرك أن الذي معه الآن هو ملك البلاد، لا لأن الملك في ثياب تنكرية، بل لأنه لم يرِ الملك من قبل. مرت لحظات فجلس الملك القرفصاء قبالة الصياد ثم تحدث بصوت وئيد وهادئ وقال: أليس من الغريب والعجيب أيضا أن ترتفع صلوات الشكر من الأكواخ لا من القصور؟! فضحك الصياد ضحكة قصيرة ثم قال: هو كذلك حقا، لكن لو عرف السبب لبطل العجب. ثم أشار بإصبعه إلى حيث قصور المدينة وقال: إن أرباب القصور الذين يرفلون في ثياب التنعم يظنون أنهم قد استغنوا وليس لهم حاجة إلى شيء! على عكس ساكني الأكواخ، لذا فإن الله على مر العصور يختار الجهال ليخزي الحكماء، والضعفاء ليخزي الأقوياء.
ألم يختر الرب يسوع بيت لحم من دون سائر المدن ليولد فيها. صمت الصياد برهة ثم أردف يقول: ولكي يتم الكتاب « وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل»، كان لابد أن يصدر أوغسطس قيصر أمره بالاكتتاب؛ لتعود طيور بيت لحم المهاجرة، وليمتلئ الخان بالوافدين، ويعود يوسف النجار ومعه العذراء مريم، ولا يجدا موضع في المنزل، فيولد يسوع في المذود في بيت لحم، ولا عجب فقلوب الملوك جداول مياه في يد الرب.
كان الملك يستمع إلى حديث الصياد العذب، وقد أشرق وجهه بابتسامة عذبة، ولما اظهر الملك رغبة في سماع المزيد أردف الصياد يقول: لقد اتضع العلي ليرفع المتضعين، والحق يقال لو ولد يسوع في قصر من قصور الملوك لحسب له تواضع، لكن ميلاده في المزود هو عمق التواضع. وحين صمت الصياد ليستنشق النسيم البديع حثه الملك على استكمال الحديث. فضحك الصياد ضحكته ثم قال: لقد ولد يسوع في المذود الحيواني النجس ليعلن استعداده أن يولد في أنجس القلوب، تلك التي شوهتها الخطية، ليس هذا فقط بل ليبدأ كالحمل فيكون بالحق حمل الله الذي يرفع خطية العالم. كانت كلمات الصياد تنساب كالسلسال عذوبة ففكر الملك من أين لهذا كل هذه؟! وأدرك الصياد ما يدور بخلد ضيفه من نظرات عينيه. فضحك الصياد ضحكته القصيرة كالمعتاد ثم قال في ود: ألم يختر الله الرعاة المتبدين الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم ليعلن لهم عن نبأ ميلاد يسوع في بيت لحم، بل من سواهم سمع الملائكة وهم يسبحون الله بصوت رخيم «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة».
وبينما الصياد يتحدث بتلك الكلمات تدانى إلى مسامع الملك وقع أقدام، فتوكأ على عصاه ثم وقف وهو يقول: الرب ينزل الأعزاء عن الكراسي ويرفع المتضعين.
ولما خرج الملك من الكوخ، رأى قائد الحرس الذي كان يتتبع خطواته قد أتى ومعه فرقة من الحرس الملكي، وقتئذ ارتفع صوت قرقعة أقدام الحرس وهم يؤدون له التحية. مرت لحظات فأدرك الصياد أن الذي كان معه هو ملك البلاد، فأطرق برأسه وحدث نفسه: «الملك ملك ولو ارتدي ثياب العبيد». وما هي إلا هنيئة حتى رفع الصياد رأسه لينظر إلى الملك الذي رأى فيه وميضًا من ذلك الذي لقب بـ « ملك الملوك». حينئذ ودع الملك الصياد على وعد باللقاء، ثم سار في موكب الحرس في طريقه إلى القصر الملكي. فدلف الصياد إلى الكوخ الذي بات – في نظره – أفضل من كل قصور المدينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى