عيد الحب أم حب العيد
الهدى فبراير 2010
القس أمير إسحق
(كولوسي 3: 12-15- 1كورنثوس 13)
لا نعرف الأسباب التي جَعَلَت التاريخ يُكرِّس القديس الإيطالي فالنتاين كواحد مِن أبرز أنصار الحُبّ وشُهدائه. تقول أسطورته إنَّه كان داعية مِن دُعاة الحُبّ في روما القديمة في القرن الثاني، وأنَّ دفاعه عن الحُبّ الطاهِر، والإعلاء مِن شأنه كقيمة اجتماعية وإنسانية، ينبغي ألا نخجل مِنها، هو الذي أدَّى به إلى السَّجْن على يَد سُلطات روما. فأُلقي القبض عليه، وحُكم عليه بقطع رأسه ليكون عبرة لمَن اتَّبع سبيله. وفي أثناء مكوثه خلف القضبان، وقع في حُبّ ابنة سَجَّانه، وكان يرسِل لها الخطابات سرَّاً. وفي الرابع عشر من فبراير (شباط) تمَّ إعدامه، والتمثيل بجثَّته أمام الملأ، ليتحوَّل بذلك إلى أسطورة يتداولها الناس، ثم إلى تاريخ يحتفلون فيه بعيد الحب.
وتقول رواية أُخرى إنَّه عاش في القرون الوسطى، وعاصَر فترة الحروب الصليبية التي قادتها الكنيسة باعتبارها حَرْباً دينية لتحرير أورشليم، مهد المسيح. وقد أرجأت الكنيسة آنذاك عَقد قران مِئات مِن الشباب حتى يُشاركوا في تلك الحَرب. لكن القديس فالنتاين كان يقوم سِرَّاً بتزويجهم. وعندما اكتُشِف أمره أعدمَته السلطات الكنسية. وعاماً بعد عام ظلَّ الإيطاليون يحتفلون بذكرى إعدام فالنتاين، نصير العُشَّاق، في الرابع عشر من شباط مِن كلّ عام. ثم طارت الفِكرة إلى أميركا، فأخذت طابع احتفالي وتجاري صاخب. ومنها شيئاً فشيئاً إلى شتَّى أنحاء العالم.
وهكذا أصبح ذلك اليوم مناسبة كلام وأشعار واحمرار، فقط مرَّة واحدة في العام. فلم يَعُد مناسبة لتجديد الحُبّ وتوطيد أركانه وتعميقه، بل من مُنطلق حُبّ الأعياد والمناسبات وتبادُل الهدايا. وهكذا أصبح عيد الحب حُب العيد. وهي مناسبة لنتعلَّم شيئاً عن أهمّ وأروع واسمى قيمة إنسانية ومسيحية، قيمة الحُبّ.
الحُبّ، الحاجة الإنسانية الأساسية:
للإنسان جسداً وروحاً ونفساً، وكلاً مِنها يُمكن أنْ يكون صحيحاً سليماً، أو مريضاً سقيماً. ولكلٍّ مِنها حاجات ضرورية، تشتاق إليها ولا تجِد راحتها إلا في وجودها ونَيْلها. فللجسد حاجاته المُتنوِّعة، كالطعام والشراب والنوم والكساء. وللروح أيضاً حاجاتها، إلى الإيمان النَّقي والعقيدة الصحيحة. كذلك النَّفْس، لها حاجات، لكنَّها مُرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً وثيقاً. فإشباع حاجة يؤثِّر في الحاجات الأخرى. أمَّا إشباع الحاجات النفسية، فإنَّه يكوِّن جوَّاً مُناسباً تنضُج فيه الشخصية، ويطمئن القلب. أمَّا نَقْص إشباع إحداها فإنَّه يُعكِّر هذا الجَوّ، ويُسبِّب الاضطراب.
أمَّا نَفْس الإنسان ففي حاجة إلى: الأمان، التقدير، المحبة، الحرية، الانتماء، ووجود سُلطة ضابِطة… الخ. وقد أكَّد عُلماء النَّفْس والاجتماع والحياة، أنَّ الحاجة الأساسية التي تؤثِّر بشكل فعَّال في الحاجات الأخرى، هي حاجة الإنسان إلى الحُبّ، أنْ يكون محبوباً ومُحِباً. لأنَّ عامل الخِصْب النَّفسي هو الحُبّ، ومنه تنبع سائر العواطف الجميلة الأخرى، التي تجعل الحياة جميلة وتستحقّ أنْ تُعاش، وتُصبِح شجرة مُثمرة ومورِقة. لذلك فإنَّ بولس بعد أن تحدث عن بعض القيم الأساسية في حياة المؤمنين، قال: “وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال” لأن المحبة هي الحاجة الأساسية التي تؤثِّر كثيراً في بقية الحاجات النفسية.
فكيف يمكن أن تكون الحياة لو لم نجد فيها قلباً مُحِباً يحنو علينا، وصدراً حنوناً نُحدِّثه بمتاعبنا ومشاغلنا ومشاكلنا؟ سوف يُصبح المجتمع صحراء موحشة. كذلك الأمر لو لم أجد شخصاً أتَّجه إليه بمشاعري ومحبتي واهتمامي وإصغائي ورعايتي له. والحياة المسيحية الحقيقية هي التي تُشبع هذه الحاجة، وكافة الحاجات النفسية الأخرى. لأنها تعلِّم المحبة عن أعظم أستاذ في المحبة، المسيح. فالمسيحية تؤكِّد لكَ أنَّكَ موضوع محبة الله الفائقة. يقول يوحنا: “هكذا أحبَّ الله العالم” (يو16:3)، ويقول بولس: “الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي” (غل20:2). إنه يُحبّ العالم كلّه، وأنا واحد من ملايين الناس الذين يحبّهم، لكنه يحبني كفرد محبة شخصية. وهكذا ينعكس هذا الحُبّ لله وللآخرين.
ألوان الحُبّ:
هناك عدَّة ألوان وصور للحب، ليست هي الحبّ، ولا تحلّ محلّه، لكنها أشباه للحُبّ. نذكر منها ثلاثة:
(1) التقدير:
عندما تسمع من أحدٍ كلمة ثناء وتقدير لعمل قُمت به، فإنك تشعر بالراحة والرِّضا عن نفسك. بينما إذا قُمت بعمل بذلت فيه مجهوداً، ولم تجد مَن يُقدِّرك التقدير المناسب، فإنَّك تشعر بالسخط والضيق. إن كلمة تقدير وإنْ بَدَت أمراً بسيطاً، لها مفعول ساحر في نفوس الذين نُقدِّرهم. وكلّ إنسان يحتاج إلى التقدير، حتى لو كان العمل الذي يقوم به عملاً بسيطاً. فكلّ إنسان يشعر بالسعادة عندما ينال التقدير، ويشعر بالمرارة عندما يجد النَّقد.
إنَّ الحياة المسيحية تجعل للإنسان شخصية مُمتلئة بالتقدير لمجهودات الآخرين. حين يتمثَّل بالمسيح الذي قيل عنه “قصبة مرضوضة لم يقصِف، وفتيلة مُدخِّنة لا يُطفئ” (مت20:12). أي أنه كان يشجِّع ويقدِّر أقلّ المجهودات وأبسط الأمور. ويقول الحكيم: “الغَمّ في قلب الرجل يحنيه، والكلمة الطيِّبة تفرِّحه” (أم25:12). وحتى لو لم يحصل الإنسان على التقدير المناسب من الناس،فإنَّ كلمة الله ترفع أنظارنا إلى تقدير أهمّ من تقدير الناس، هو تقدير الله لما نعمله. فيقول المسيح: “مَن سقى أحد هؤلاء الأصاغر كأس ماء بارد فقط… لا يضيع أجره” (مت42:10).
(2) الشَّفَقَة:
بينما التقدير يكون للشخص في ظروف نجاحه وإنجازه، فإنَّ الشفقة تكون في ظروف ألمه وحُزنه. يقول بولس: “فالبسوا كمختاري الله القدِّيسين المحبوبين أحشاء رأفات (شَّفقة)” (كو12:3). ويعتبر البعض (الشَّفقة) لون مِن ألوان المحبة، على اعتبار أنَّ الحُبّ الحقيقي لا ينشأ إلا في جوٍّ مِن الألم. إلا أنَّنا لا نستطيع أنْ نخلط بين المحبة والشَّفقة. ولا نستطيع أن نُنكِر أنَّنا ندرك بطريقة مُباشِرة وبدون كلامٍ، سرور إنسان في ابتسامته، أو حُزنه في دموعه، أو خجله في احمرار وجهه، أو حُبَّه في نظرته الرقيقة، أو غضبه في إصرار أسنانه، كلّ ذلك نستطيع أن نعرفه عن الآخرين من دون أنْ يتكلَّموا. ولكن مِن شأن الألم أنْ يُقرِّبنا لهم ويُقرِّبهم مِنَّا، لأنَّ الألم يضطرّني أنْ أخرج مِن ذاتي وأُعبِّر عن نفسي وأتخلَّى عن أساليب التمنُّع أو التصنُّع أو الافتعال. إنَّنا نجد أنفسنا مدفوعين إلى مُشاركة الآخرين آلامهم، مُشاركة إيجابية فعَّالة في كثير من الحالات. بينما سعادتهم رُبما تولِّد فينا الحِقد والحَسَد والغَيْرة الشديدة، فلا نشاركهم سعادتهم. ذلك لأنَّ الألم وحده هو الذي يستطيع أنْ ينتزعنا مِن أنانيتنا. الأمر الذي جعل الفيلسوف (جان بول) يقول: “إذا كان في استطاعة البشر أنْ يشاركوا الآخرين آلامهم، فإنَّ الملائكة وحدَهم هم الذين يستطيعون أنْ يشاركوا الناس أفراحهم”.
إنَّ قلوبنا تنفتَّح عندما نرى الآخرين يتألَّمون. فتزول الحواجز التي بيننا، إذْ نشعُر أنَّ آلامهم آلامنا، وشقاءَهم شقاؤنا. فالأنانية تنتهي عندما تبدأ الشَّفقة عملها في القلب. لأنَّ مُشاركتي لآلام الآخرين تَسُدّ كلّ هُوَّة تفصلني عنهم، وتُسْقِط كلّ حاجز يتوسَّط بيننا. وكثيراً ما يكون تأثُّرنا بآلام الآخرين سبباً في إقبالنا عليهم، وتجاوبنا معهم، وعنايتنا بهم، وإحساننا إليهم.
وعلى الرّغم مِن أنَّ الشَّفقة لون مِن ألوان الحُبّ، إلا أنَّها قد تحمل معاني الاستعلاء، حينما نَجرح كرامة المُتألِّم الذي نُشفِق عليه. فلا يمكن أن تكون الشَّفقة هنا وليدة المحبة، بل الأنانية. أو حينما يكون إشفاقي على مُتألِّم هو مُجرَّد صَدًى لإشفاقي على نفسي. أو عندما أشارك الآخرين آلامهم ولسان حالي يقول في نفسي: “أنا سعيدٌ بألا تكون هذه الآلام قد حَلَّت بي”.
وهكذا يتبيَّن لنا أنَّ المحبة والشَّفقة لا تسيران دائماً جنباً إلى جنب، فقد تتعارضا أحياناً. قد تكون الشَّفقة من قوي لضعيف، أو من كبير لصغير، أو مِن أعلى لأدنى، بينما المحبة تكون بين النِّدّ والنِّدّ. وكما أنَّ الأمّ تُحبّ طفلها، لأنَّها تشعر أنَّه في حاجة إلى رعايتها، ولأنَّها تجِد لذَّة في أنْ تُحيطه بعنايتها ومحبتها، كذلك يجد المُحِبّ الحقيقي لَذَّة كبرى في أنْ يشفِق على محبوبه، ويحنو عليه، ويشمله برعايته.
(3) التعاطُف:
إذا كان التقدير للغير يكون وقت نجاحه وإنجازه، والشفقة تكون وقت حُزنه وألمه، فإنَّ التعاطُف يكون في كافة الحالات. إنه ليس الحبّ، ولا يمكن أن يكون بديلاً عنه، بل هو مجرَّد لون من ألوان الحُبّ. وإذا كانت (الشَّفقة) تُحطِّم حدودي الفردية وتنقلني إلى (الآخر) الذي يتألَّم، فإنَّ (التعاطُف) يُشعِرني بأنَّ هذا (الآخر) له قيمة مُماثِلة لتلك التي أملكها. فليس التعاطُف مُجرَّد مُشاركة وجدانية في آلام وسرور الآخر فحسب، بل هو أيضاً وظيفة حيوية هامَّة تُشعِرني بأنَّه مُساوٍ لي في القيمة.
وعندما تكون لدينا القُدرة النَّفسية على التجاوب مع حالات الآخرين الوجدانية، بحيث نستشعِر سرورهم، دون أنْ نُصبح نحن مسرورين، ونستشعِر ألمهم، دون أنْ نكون نحن مُتألِّمين، فإنَّنا بذلك نتعاطَف معهم. ربما تبدو في أسباب سرورهم أو ألمهم نظرنا تافهة لا تستحق الفرح أو الألم، إلا أنَّ التعاطُف يجعلني أحترم تلك الأسباب، ولو لم أختبرها كما اختبرها هو. أما عندما تُحْدِث حالاتهم الوجدانية فينا حالات وجدانية مُماثِلة، فذلك ليس تعاطُفاً، بل هو مُجرَّد انتشار وجداني عن طريق العَدوى. لأنَّه ليس مِن شأن التعاطُف أنْ يُصْهِرنا معاً في بوتَقة واحدة، أو أنْ يُذيب الفوارق الفردية القائمة بين الشخصيات، بل لا بُدّ أنْ نفهم أنَّ التعاطُف مُشارَكة وجدانية تفترِض أنَّ كلَّ شخص مُتميِّز عن الآخر، وتظلّ مُحتفِظَة بتلك الأبعاد التي تُميِّز بين الشخصيات. وبذلك يكون التعاطُف الحقيقي أبعد ما يكون عن العدوى الوجدانية.
الحُبّ هو الحلّ:
الحُبّ هو الحلّ، لكن البشر هم الذين جعلوا مِنه مُشكلة، لأنَّهم لم يستطيعوا أنْ ينظِّموا حياتهم وفقاً لشريعة الحُبّ، فلا يعيشون إلا على العدوان والكراهية، ومبدأهم: حُبّ القوَّة، وليس قوَّة الحُبّ.
إنَّها مُناسَبة مُناسِبة حتى نُعمِّق علاقاتنا بالتقدير والشَّفقة والتعاطُف لبعضنا البعض. وبينما يحتفل العالم بعيد الحُبّ لأنه يُحِب الأعياد، ليتنا نُعيِّد في كلّ يوم، بل في كلّ اليوم، بمحبة تزداد يوماً فيوماً عُمقاً وتشبُّهاً بمحبة الفادي، الذي أحبَّنا إلى المنتهى، فأسلم نفسه لأجلنا.
مسابقة أفضل قلب:
وقف شاب فى وسط القرية ليعلن أنَّ قلبه هو أجمل قلب فى كلّ الوادى. تجمع الناس حوله، وجميعهم أعجبوا بقلبه لأنَّه كان صحيحاً، لم يكن به أي علامات أو شروخ. إنه فعلاً أجمل قلب رأوه. أحسَّ الشاب بالفخر وأخذ يردِّد بصوت عالٍ أنه صاحب أجمل قلب. فجأة ظهر شيخ مُتقدم فى الأيام أمام الجمهور وقال لذاك: أيُّها الشاب، إنَّ قلبك ليس له جمال يقارب جمال قلبى. نظر الشاب، وكذلك الجمهور، إلى قلب الرجل الشيخ. كان ينبض بقوِّة، لكنه مُمتلئ بالندبات، وفيه أجزاء قد أزيلت ووُضِعَت بدلاً منها أجزاء أخرى غير مناسبة. وفيه بعض الحواف الخشنة. وفجوات لأجزاء ناقصةً منه.
حملق جمهور الناس وتساءلوا مندهشين: كيف يمكن لمثل هذا القلب المشوَّه أن يكون هو الأجمل؟ نظر الشاب إلى قلب الرجل الشيخ وراح يضحك، وقال له: هل أنت تهزي! إنَّ قلبي كامل بينما قلبك عبارة عن فوضى من الندبات والجروح والفجوات. فردّ الشيخ: إنَّ قلبك تام فى منظره، وأنا لن أنافسك فى هذا. وأنت ترى قلبي، كلّ ندبة به تمثل شخصاً وهبته حبي، فنزعت جزءاًً من قلبي وأعطيته له، وغالباً ما كانوا يعطونني هم أيضاً أجزاء من قلوبهم لتحلّ في قلبي مكان الجزء الذي قدمته لهم. لكن لأن الأجزاء لا تتطابق تماماً، فقد أصبحت هناك حفر خشنة في قلبي، وهذه أنا أعتز بها كثيراً، لأنها تذكِّرني بالحب المتبادل بيننا. وأحياناً أعطي جزءاً من قلبي لشخص لا يعطيني جزءاً من قلبه، هذه فجوات قلبي الفارغة.
وقف الشاب صامتاً بينما الدموع تنهمر على وجنتيه. ثم سار حتى وصل للرجل الشيخ وأمسك بقلبه القوي التام الجميل الشكل، ونزع جزءاً منه وقدمه للشيخ. قَبِل الشيخ منه هذه العطية الثمينة ووضعها في قلبه، ثم أخذ جزءاً من قلبه المُمتلئ بالندبات وأعطاه للشاب. نظر الشاب فى قلبه الذي لم يصبح تاماً بعد ذلك، لكنه أصبح أكثر جمالاً من أي وقت مضى، حينما فاض الحب من قلب الرجل الشيخ إلى قلبه.. وهكذا تعانقا ومشيا جنباً إلى جنب.