رئيس التحريركلمات وكلمات

كلمات وكلمات يونيو 2019

الهدى 1210                                                                                                                               يونيو 2019

خلق الله الإنسان لكي يعمل «بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا.» )تكوين 3 : 19). من هنا بدأ الإنسان يسعى في الأرض متحملًا مسؤولية جسده من أكل وشرب وصحة وراحة … إلخ ومسؤولية زوجة وأولاد حتى يبلغون ويعملون ويستقلون، لكن مع الزمن انقسم البشر إلى قسمين، قسم يعمل بهدف كسب الرزق وسد الجوع وآخر يحول عمله إلى متعة شخصية، فيستمتع وهو يعمل، وهذا النوع الأخير يبحث عن العمل الذى يتجاوب مع مواهبه الشخصية، لذلك يتفوق على أقرانه الذين يقومون بنفس العمل، فنحن نرى بين الأطباء من يحول مهنة الطب إلى متعة شخصية له، فيتقنها ويدرس ليس فقط مجال الطب، لكن مجالات أخرى تتعلق بالطب، والمكان الذي يمارس منه عمله، وإسلوب عمله. أحيانًا أدخل إلى عيادة طبيب أرى الناس مرصوصة كقوالب الطوب، يبدو الزهق على وجوههم، ومساعد الطبيب عابسًا، والطبيب كذلك. وأحيانًا أدخل إلى عيادة، فاستمع إلى صوت الموسيقى الهادئة الرائعة المنتقاه بعناية، وأرى لوحات لفنانين تشكيليين عالميين، منهم الكلاسيكى مثل مايكل أنجلو وليوناردو دافنشى، ومنهم السوريالى مثل سلفادور دالى وبيكاسو …. إلخ. ومن يضع تمثالًا صغيرًا من صنع محمد مختار، ولوحات لبيكار وصلاح جاهين … إلخ، ثم تدخل إلى حجرة الطبيب يستقبلك بإبتسامة عريضة، يتحدث عن ما يهمك، فهو كتب سيرتك الذاتية عنده، وعملك، وأشياء كثيرة إنسانية غير المرض، فتشعر بأنك تلاقى صديقًا تتمنى أن تراه كثيرًا، ونفس الأمر في جميع المهن. ما يهمنا هنا هو مهنة القسيس الراعى، هل هى مهنة أم خدمة؟ والحقيقة هما الاثنان معًا، والراعي الذي يستمتع بخدمته لابد أن يكون مهنيًا من الدرجة الأولى، أي يتقن ويتمكن من كل أدواته، مثل إتقان الوعظ، والرعاية، والتفسير، والتعامل مع الناس، ويجد في ذلك متعة ليست بقليلة، وعندما يراه الناس مستمتعًا بخدمتهم يستمتعون هم معه أيضًا بخدمته.
في هذا العام يحتفل العالم بمرور خمسمائة عام على وفاة فنان إيطالى، تحبس رسوماته الأنفاس بوضوحها وجلائها، وقد أخضع ذلك الفنان المبدع كل شئ للإختبار بدقة شديدة، كانت كل لوحة لها ملف دراسي شامل يدون فيه الملاحظات والتي توضح نهمه في طلب العلم، وشملت قائمة مهامه: صنع نظارات لرؤية القمر بصورة أكبر، وفي ملاحظة أخرى البحث عن وصف سبب الضحك، ثم عدد من الأسئلة الغريبة: ما المسافة التى تفصل الحاجب عن ملتقى الشفتين والذقن؟ لماذا النجوم مرئية بالليل فقط؟ ما العلاقة بين فروع الشجرة وسمك جزعها؟ ما الذي يفصل الماء عن الهواء؟ أين تكمن الروح؟ ما هو العطاس؟ والتثاؤب؟ والجوع والعطش؟ والشهوة؟
ولد ليوناردو دافنشي في بلدة تدعى «دافنش». من هنا جاء اسمه كما نقول نحن: «المنفلوطي، والأسيوطي، والبحيري، … إلخ « وقد ولد من رجل وامرأة غير متزوجين، وبسبب هذا لم يستطع أن يسلك في عمل أبيه المحترم، سير بييرو دافنشى، الذي كان كاتب عدل أي محامي.
لكنَّ والده انتبه لموهبته، فقدَّم لوحاته لأحد الفنانين المعروفين في عصره، فوافق على قبوله متدربًا بورشته في فلورنسا.
تفوق ليوناردو على أقرانه، ثم ما لبث أن تفوق على أستاذه. كان معروف عنه أنه أعسر، ووسيم، كان رهيف الحس، فكان يشترى الطيور بأقفاصها، ثم يطلقها حرة لتطير، كان منبسطًا، ولطيفًا، لم يكن متجهمًا أبدًا، بل كان سمحًا، واجتماعيًا، بإمتياز، كان مفتونًا بالهندسة، فرسم خططًا لبناء الجسور، والمباني، وكان يحلم بالطيران، ويعتقد جيدًا أن الإنسان سيصل في وقت ما لصنع آلة تطير به في الفضاء. درس اللاتينية، وجمع قصائد الشعر، وقرأ إقليدس، وأرشميدس. صمم آلات طائرة . كان ينتقل بسلاسة من عالم الفن إلى عالم العلم، والعكس، ولم يكتفي ليوناردو بذلك، بل كان موسيقارًا موهوبًا، وارتجل عزف الألحان على آلة وترية، وقد إرتجل ليوناردو عزف الألحان على آلة تُدعى، « لي الذراع « وهي آلة وترية من عصر النهضة. كانت هناك ثلاث لوحات لا يفارقانه في أي مكان ينتقل إليه: لوحة يوحنا المعمدان، والعذراء والطفل مع القديسة حنة، و«الموناليزا». مؤخرا عُرضت لوحة «المسيح المخلص» في مزاد، وبيعت بنصف مليار دولار، واشتراها ولى عهد السعودية محمد بن سلمان، وقد اختفت اللوحة بعد ذلك.
يقول كيمب وهو الذي درَّس العبقرى ليوناردو وكتب عنه على مدى خمسة عقود: «كلما ظننت أني قد أنتهيت من ليوناردو، أجده يعود إلى الظهور من جديد».
قدمت لك – عزيزي القارئ – نموذجًا لإنسان، اكتشف ذاته وأحب عمله فأتقنه، وصار من أعظم فناني العالم على مدى التاريخ، وهذا النموذج ينطبق على راعي الكنيسة، وعلى شيوخ الكنيسة، وعلى كل من يتفرغ لخدمة السيد، نستطيع هنا أن نقول، إن كنا قد اخترنا الخدمة التي نحبها فعلًا، وكرسنا حياتنا لها، واستطعنا أن نقرأ الكثير عنها، مع خبراتنا الشخصية اليومية، سوف نتفرد، ويكون كل راع عبقري في خدمته، سواء في الوعظ، أو الرعاية، أو المشورة … إلخ وكذلك كل خادم متفرغ، وكل شيخ. إلى أي مدى نحن نستطيع أن نفعل ذلك؟
خبرة رعوية
كانت كنيسة الراعي مع كنيسة تقليدية وأخرى غير مشيخية في شارع واحد، يمتد بطول الحى، أو عرضه، بحسب الرسم الهندسي الذى يعتمده القارئ، أو مهندس المساحة، كان الراعي يلاحظ أن شبابًا كثيرًا من الكنيسة التقليدية يحضر الأحد ليستمع لعظاته، ويلتقي بالراعي لأجل أسئلة غامضة في الكتاب المقدس، أو مشاكل أسرية، أما الكنيسة الإنجيلية الأخرى، فكان العدد الذى يأتي منها أقل نسبيًا؛ وحينما يأتون فلكى يُعلمونا الفهم الصحيح للكتاب المقدس، من وجهة نظرهم، وكان الراعي يستقبلهم ويناقشهم بهدوء، وابتسامة، وأحيانًا بسخرية، وأحيانًا بمنتهى الحيادية، ورغم اقتناعهم برأي الراعي، إلا أنهم لا يصرحون بذلك لأنهم على مستوى الأرضية الشعبية يحوزون على جماهيرية، يخسرونها في حالة تصريحهم بما اقتنعوا به. المهم فوجئ الراعى بأن أحد كبار الكنيسة غير المشيخية يحضر الأحد صباحًا. فرحب به، لكنه فوجئ أنه كرر الزيارة أكثر من مرة، هنا اختلى به الراعي يوم أحد بعد الخدمة، وسأله: هل هناك مشكلة تجعلك تمارس العبادة معنا، بالطبع بعد الترحيب الشديد به على أساس أنه قائد كبير، فإذا بالرجل يخلع عمامته فجأة ويقول: راعينا يقول لنا اخلعوا أي لباس للرأس، وأنتم تتقدمون للمائدة، لأن الكتاب يقول: إن الرجال لا يغطون شعورهم في حضرة الرب خاصة أثناء المائدة، حيث أن الرجل رأس المرأة والمسيح رأس الرجل، لكن أنا أعلم أن هذا كلامًا رمزيًا، والطلب من بولس ليس حرفيًا، وخاصة لو أن شكل رأسي هكذا وأشار إلى رأسه والتي بها بعض التشوهات، ثم أردف أن الراعي وهو يوزع المائدة، لاحظ أني لم أخلع العمامة، فمد يده على رأسي، وأمسك العمامة وخلعها من على رأسي، وألقاها على الأرض. فهل هذا يليق؟ وهل هو بهذا يحقق وصية بولس الرسول. قام الراعي بجبر خاطره، وبعد تركه اتصل بالقسيس الذي يتبعه، وحكى له القصة ووعد القس بحل المشكلة، ولم يحضر الشيخ العبادة في كنيستنا ثانية.
حكاية لاهوتية
كانت المحاضرة عن علم تفسير الكتاب المقدس. وكان السؤال: هل التفسير يقتصر فقط على الخلفية التاريخية؛ ومعاني الكلمات الأصلية في لغاتها؛ والتطبيق المعاصر؛ أم أن هناك بعدًا رابعًا لهذه المنظومة؟ قال الأستاذ أقص عليكم قصة تاريخية وعليكم أن تدركوا البعد الرابع في التفسير:
دخلت كتيبة من جيش مدجج بالسلاح بعد إحتلاله للعاصمة إلى قرية تابعة، وإستدعى قائدها عمدة القرية قائلًا له: نحن متأكدون أنك أخفيت المجاهد الخائن لنا في قريتك. إما أن تخرجه وتسلمه لنا وإما سوف نُبيد القرية بمن عليها ومن فيها بلارحمة!
أخذ العمدة يتحاور مع الكبراء في القرية، طوال المدة المحددة من قائد الكتيبة، بشأن الرجل الذي يخفونه، وكان هذا الرجل يتمتع بالطيبة، والنقاء، والطهارة، وكل أهل القرية يحبونه. لكن ما الذي يمكن للعمدة أن يفعل؟ كل الناس مهددون بالقتل، أيام طويلة ناقش فيها الجميع الموقف، ولم يصلوا إلى نتيجة، وإنقسمت القرية بين مؤيد، ومعارض، لكن المعارضين لتسليمه كانوا أكثرية، حينئذ ذهب العمدة إلى كاهن القرية. وهكذا قضى العمدة والكاهن الليل بطوله يتحاوران، ويبحثان في الكتاب المقدس عن مخرج لهذه الورطة، وأخيرًا وصلوا إلى حل. لقد وجدوا نصًا في الكتاب المقدس يقول: «أنه من الخير أن يموت إنسان واحد حتى تخلص الأمة «، عندئذ قام العمدة بتسليم الرجل التقى إلى قوات الاحتلال، وقد تأسف للرجل التقي بشدة وهو يسلمه. لكن الرجل أجاب لا داعي إطلاقًا للأسف، لأني لا أريد أن أضع القرية جميعها في حرج وخطر. أُخذ الرجل، وأعدم وكان صراخه يُسمع في كل القرية وأخيرًا صمت. مات .
بعد مرور عشرين عامًا مرّ بذات القرية نبي، واتجه مباشرة إلى العمدة قائلًا:
الله أرسلني لأسألك ماذا فعلت بالرجل؟ إن الرجل الذي سلمته لجنود الاحتلال لقتله، كان قد تعين من عندي مخلصًا لقريتكم. وأنت سلمته ليُقتل، بكى العمدة قائلًا: «أنا والكاهن تصفحنا الكتاب المقدس كله جيدًا، وتحركنا بعد ما وجدنا آية تقول: «خير أن يموت إنسان لأجل الأمة « نحن كتابيون!! قال النبي: لقد كان هذا خطأكم، إنكما نظرتما للمكتوب، في الوقت الذي فيه كان يجب أن تنظرا بعمق وفراسة إلى عينيه، لتدركا التفسير والمعنى الحقيقي لهذه الكلمات وهل تنطبق على من سلمتماه وإن كانت تنطبق كيف تطبقان؟! هتف التلاميذ: لم نفهم ياسيدي. أجاب الأستاذ ليست مسؤوليتي .. أنتهى الدرس.
مختارات
«مجد الله هو الإنسان وحياة الإنسان معاينة الله»
القديس إيريناوس.
أسقف ليون ١٤٠-٢٠٢م
«لا يوجد أي ألم بدون معنى.فالألم هو دائمًا مبني على حكمة الله.»
القديس توما الأكويني ١٢٢٥-١٢٧٤م.

د. القس إكرام لمعي

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
رئيس مجلس الإعلام والنشر
كاتب ومفكر وله العديد من المؤلفات والكتابات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى