القس سليمان صادقمشاركات

ملف خاص القس سليمان صادق

الهدى 1260 – 1263                                                                                                    سبتمبر – ديسمبر 2024

القس سليمان صادق

القس سليمان صادق سيرة ذاتية

مواليد النِّخيلة – أسيوط، 1934م.
تخرَّج فى كليَّة اللَّاهوت الإنجيليَّة – العباسيَّة 1957م.
خدم كمبشِّر فى دوينه – البربا – أسيوط؛ أمشول ودشلوط وصنبو – ملوى 1957 – 1959م.
رُسِم و نُصِّب راعيًا للكنيسة الإنجيليَّة في نزلة رومان – المنيا 1959م.
عمل متفرِّغًا لخدمة مدارس الأحد مع مجلس كنائس الشَّرق الأوسط.
درس لمدَّة عام استعدادًا للدِّراسات العليا في كليَّة اللَّاهوت الإنجيليَّة – بيروت لبنان 1969م.
عُيِّن قسًّا مساعدًا للشَّباب في الكنيسة الإنجيليَّة – الفجَّالة 1971م.
نُصِّب راعيًا للكنيسة الإنجيليَّة في الفجَّالة 1974م.
انتُخب رئيسًا لمجلس التَّهذيب المسيحي في سنودس النيل (مجلس التَّربية المسيحيَّة حاليًّا)، لمدَّتَين متتاليتَين 1980 – 1988م. كما انتُخب رئيسًا للمجلس المالى و الممتلكات في السّنودس لمدَّتين متتاليتين 1996 – 2003م.
انتُخب رئيسًا لهيئة الأوقاف والممتلكات في السّنودس 2003 – 2007م.
انتُخب رئيسًا لمجمع القاهرة الإنجيلى 2007.
انتُخب رئيسًا لسنودس النِّيل الإنجيلى لمرَّتين 1988، 1998 م.
مَثَّل السّنودس في عديد من المحافل والمجالس الدَّوليَّة.
رئيس مجلس إدارة الجمعيَّة الإنجيليَّة للخدمات الاجتماعيَّة.
حصل على جائزة “صموئيل حبيب” للعمل الاجتماعى التَّطوُّعي من الهيئة القبطيَّة الإنجيليَّة للخدمات الاجتماعيَّة 2019م.
راعيًا إكراميًّا للكنيسة الإنجيليَّة في الفجَّالة 2019م.
زوج السَّيِّدة عايدة موسى مقار. وله ابنان وبنتان: إلهامي ورفيق، ومها وعبير؛ وتسعة أحفاد.
له كتاب واحد بعنوان “عظتي حياتي” صدر عام 2004م.

القسُّ سُلَيمَان صَادِق

بقلم د. القس أندريه زكي

رئيس الطائفة الإنجيلية – مصر

يُسعِدُنِي أنْ أَتَذَكَّرَ عَملَ اللهِ في أَعوَامٍ طَويلَةٍ خَدَمَ فِيها القسُّ سُلَيمَان صَادق الرَّبَّ بكلِّ أمانةٍ، وهنا أضعُ حجَرَ معونَةٍ، مُرَدِّدًا الكَلماتِ الَّتِي قَالَهَا صَمُوئيلُ النَّبِيُّ: “إِلَى هُنَا أَعَانَنَا الرَّبّ” (1صم 7: 12)؛ فَفِي تلك الأعوَامِ الماضيةِ رأيْنَا يَدَ اللهِ تَعمَلُ، مُستَخدِمَةً الوالِدَ القسَّ سُلَيمَان صادق، ومُشدِّدَةً يَديْهِ لِيخدُمَ في حَقلِ الرَّبِّ أَكثَر، لِيَصنَع ثمرًا أَعظَمَ، بنعمَةِ اللهِ وعِنَايتِهِ، كَمَا إنَّنِي أَتَطلَّعُ إلى أَعوَامٍ جَدِيدةٍ يَستَكمِلُ فِيها القسُّ سُلَيمَان صَادق رسَالَتَهُ.

بِدايةُ خِدمَتِهِ

مُنذُ أنْ تَخرَّجَ فِي كُليَّةِ اللَّاهُوتِ عَامَ 1957، وبعدَهَا سِيمَ قسًّا وَرَاعيًا للكَنيسةِ الإنجِيليَّةِ في نزلةِ رُومان عَام 1959، وحَتَّى تَولَّى رِعايَةَ الكَنيسَةِ الإنجِيلِيَّةِ في الفَجَّالَةِ عَام 1974، رأينَاهُ يَلْعَبُ دَورًا بَارِزًا في تَطوِيرِ الأنْشِطَةِ الرَّعَويَّةِ، ولَا سيَّمَا مع الشَّبَابِ، الَّذِينَ كَانَ يَراَهُمُ دَائِمًا الدُّعَامَةَ الأَسَاسيَّةَ لأيِّ عَملٍ نَاجِحٍ. لِذَا، اهتَمَّ بالشَبَابِ، ولا يُمكِنُنَا أنْ نَغفَلَ أنَّ الوالِدَ القِسَّ سُلَيمَان صَادِق أَنشَأَ في الكنِيسَةِ أوَّلَ اجتمَاعٍ مِصرِيٍّ مُختَلَطٍ لِلشَبَابِ مِنَ الجِنسَيْن فِي كلِّ القُطْرِ المِصرِي وذَلكَ كانَ عَام ١٩٦٢.

اهتمامُهُ بالشَّبَابِ

يَأتِي اهتمامُهُ بالشَبابِ دَائمًا على رأسِ أولويَّاتِهِ. وإيمانُهُ الرَّاسِخُ هَذا أنَّ شَبَابَ اليَومِ هم قادةُ الغَدِ، جَعَلَ الكَنيسَةَ مَصنَعًا لِلقَادَةِ لَيسَ دَاخِلَ كَنيسَةِ الفجَّالةِ فَقَط، بَل وَفِي كَنائسَ مِصرَ والمَهجَرِ. ويُمكِنُنَا أنْ نَرَى مِثَالًا عَلَى ذَلكَ، بعضَ حَضَراتِ القُسوسِ الَّذِينَ نَشَأُوا فِي كَنيسَةِ الفجَّالَةِ وتَتلمَذُوا عَلى يديِّ القِسِّ سُلَيمَان صَادِق، وأَذكُرُ مِنهُم: القسّ يُوسُف سَمِير، والقسّ أَمِير ثَروَت، القسّ إسحَق ذِكري والقِسّ سَامِح أَلفِي، والقِس جَان إِمِيل. وغيرُهُم مِنَ القَادَةِ المُؤثِّرِين فِي مِصرَ وفِي كَنائسَ المِهجَرِ المُختَلِفَةِ. هَذا بِخلَاف العَدَدِ الكثير مِنَ القُسُوسِ المِصرِيّين والعربِ الَّذِينَ بَدَأُوا خِدمتَهم بَينَ جُدرَانِ كَنيسَةِ الفجَّالَةِ، فَتشبَّعُوا مِن رُوحِ الخِدمَةِ المُتَّقِدِ فِي القسِّ سُلَيمَان صَادِق.

دَورُهُ فِي العَمَلِ الاجتِمَاعِي

لَم يَتَوقّفْ شَغفُ القسِّ سُلَيمَان صَادِق عِندَ الخِدمةِ الرُّوحِيَّةِ، بَل رَأَى أنَّ العَمَلَ الاجتمَاعِيَّ هُوَ الجَانِبُ الآخرُ المُكَمِّلُ لِتقدِيمِ مَحبةِ اللهِ لِلجَميعِ، من دُونِ أيَّةِ تَفرِقَةٍ مِن أيِّ نَوعِ. فأسَّسَ عددًا مِنَ المُؤسَّسَاتِ الِإنسَانيَّةِ، عَلَى رأسِهَا مَلجأُ فَولَر لِخدْمَةِ الأيتَامِ. وأَسَّسَ الجَمعيَّةَ الإنجِيليَّةَ لتَنمِيَةِ الخِدمَةِ الاجتماعيَّةِ بِالفجَّالَةِ، وهوَ رئيسُ مَجلِسِ إدَارَتِهَا مُنذَ عِامِ 1984. تَهدُفُ هَذِهِ الجمعيَّةُ إلَى خِدمَةِ المُجتَمَعِ المَحلِّيِّ ورِعَايَةِ الطُّفُولَةِ والأُمُومَةِ، وتَقْدِيمِ المُسَاعَدَاتِ الاجتماعيَّةِ، هَذا بِالإضِافَةِ إِلى الأنْشِطةِ الصِّحيَّةِ. كمَا أسَّسَ دَارَ إيوَاءٍ، تَرعَى 80 فَتَاةً، وأسسَّ دَارَ العِلَاجِ الإنْجِيليّ.
ولِهَذَا فَفِي عَامِ 2019 مَنَحَتْهُ الهيْئَةُ القِبطيَّةُ الإنْجِيليَّةُ لِلخَدَمَاتِ الاجتمَاعيَّةِ جَائِزةَ صَمُوئِيلَ حَبيبٍ لِلتَميُّزِ فِي العَمَلِ الاجتمَاعِي التَّطَوعِّي، وَهي جَائِزَةٌ تُمْنَحُ لِقيَادَةٍ دِينيِّةٍ مَسِيحيَّةٍ تُقدِّمُ عَمَلًا اجتِمَاعِيًّا مُتَمَيِّزًا يَخدُمُ أَفرَادَ المُجتَمَعِ جَمِيعًا، إِلَى جَانِبِ خِدمتِهَا الدِّينيَّةِ، وَهوَ مَا نَادَى بِهِ الرَّاحِلُ الدُّكتُورُ القِسُّ صَمُوئيلْ حَبيبْ مُؤسِّسُ الهيئَةِ مُؤكِّدًا عَلَى أهميَّةِ دَوْرِ الكَنِيسَةِ فِي خِدمَةِ المُجتَمَعِ.

أدْوَارُهُ المَحليَّةُ والإِقلِيميَّةُ

لِلفاضِلِ القسِّ سُلَيمَان أدوَارٌ مُهِمَّةٌ خَارِجَ أَسوَارِ كَنِيسَةِ الفَجَّالَةِ ونَشَاطَاتِهَا، فَقَد انتُخِب رَئِيسًا لمجْمَعِ القَاهِرَةِ، عَام 2007. ورئيسًا لسُنُودِس النِّيلِ الإِنجِيليَ مَرَّتَين، عام 1988، وعام 1998. هَذا بِجانِبِ انتخَابِه رَئيسًا لمَجْلِسِ التَّهذِيبِ المَسِيحيّ في سُنُودِس النِّيلِ الإِنجِيلي (مَجلِسِ التَّربِيَةِ المَسِيحيَّةِ) مُدَّتَينِ مُتَتَالِيَتَيْنِ فِي عَامِ 1980، وعَامِ 1988. وانتُخبَ أَيضًا رَئِيسًا لِلمَجلِسِ المَالِيِّ والمُمْتَلَكَاتِ في سُنُودِس النِّيلِ الإِنجِيليَ مُدَّتَينِ مُتَتَالِيَتَيْنِ فِي عَامِ 1996، وعَامِ 2003. وانتُخبَ رَئِيسًا لِلَجنَةِ الأَوقَافِ الإِنجِيلِيَّةِ في سُنُودِس النِّيلِ الإِنجِيليَ عَامَ 2003، و2007.
وَلَم يَقفِ الحدُّ عِندَ الحُدُودِ المِصريَّةِ، فَقَد مَثَّلَ الكَنِيسَةِ الإِنجِيليَّةِ، فِي عَدِيدٍ مِنَ المَحَافِلِ والمَجَالِسِ الدَّولِيَّةِ. إِذْ مَثَّلَ سُنُودِسَ النِّيلِ الإِنجِيليَّ فِي مَجلِسِ كَنَائسِ الشَّرقِ الأَوسَطِ لِعدَّةِ سَنَوَاتٍ. كَمَا شَغَلَ مَنصِبَ رَئيسِ رَابِطَةِ الإِنجِيلِييِّنَ في الشَّرْقِ الأَوسَطِ (ميرف) لِسَنَوَاتٍ عَدِيدَةٍ.
إلَّا أنَّ أَكثرَ مَا تَميَّزَ بِهِ الفَاضِلُ القسُّ سُلَيمَانُ صَادِقُ، هُوَ كونه صَاحِبُ رُؤيَةٍ فِي رِسَامَةِ قُسُوسٍ عَرَبٍ، وإرسَالِهِم لِبُلدَانِهِم مَرَّةً أُخرَى، لِذَا نَجِدُهُ تَبَنَّى عَدِيدًا مِن الشَّبَابِ العَرَبِ مِن سُوريَّا والعِرَاقِ، دَاخِلَ كَنِيسَةِ الفجَّالَةِ، فَدَرَسُوا فِي كُليَّةِ اللَّاهُوتِ الإنجِيليَّةِ في القَاهِرَةِ بوصفهم أَعضَاءً فِي كَنِيسةِ الفَجَّالَةِ، ثُمَّ بَعدَ التَّخَرُّجِ سامهم قُسُوسًا كَارِزِين لِبُلدَانِهِم.

رَجُلُ الصَّلَاةِ

يَتَميَّز القّسُّ سُلَيمَانُ صَادقُ بِقَلبِ رَاعٍ، فَهوَ لَا يَترُكُ خَادِمًا من دُونَ أَنْ يُقدِّمَ لَهُ المَحبَّةَ، والدَّعْمَ الرَعَويَّ والتَّشجِيعَ، فَلَدَيه قَلبٌ مُتَسَامِحٌ، وَصَبرٌ، وتَفهُّمٌ لِلآخَرِ، كَمَا أنَّهُ رَجُلُ صَلَاةٍ. هَذَا بِجَانِبِ اتِّصَالَاتِهِ التِّلِيفُونيَّةِ المُستَمِرَّةِ مَعَ عَشَرَاتِ الخدَّامِ، والصَّلَاةِ عَبرَ التِّلِيفُونِ مِمَّا يَترُكُ أَثَرًا نَفسِيًّا كَبِيرًا فِي حَيَاةِ الخُدَّامِ الَّذِين يُقدِّم لَهُم المُسَانَدَةَ والدَّعْمَ الرُّوحِيَّ.

الختام

فِي كُلِّ مَا سَبَق، رَأيْنَا كَيفَ أنَّ اللهَ استَخدَمَ القِسَّ سُلَيمَان صَادِق، لِذا لا يَسعْنِي سِوَى أَنْ أَشهَدَ بِمَجدِ اللهِ، مُستَخدِمًا وَاحِدَةً مِن أَسَاسيَّاتِ إِيمَانِنَا المُصلَحِ الخَمسِ: “المَجدُ للهِ فَقَط Soli Deo Gloria”.
وأَودُّ أنْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّهُ مُنذُ وَقتٍ طَويلٍ وتَربِطُنِي بِالوَالِدِ القِسِّ سُلَيمَانَ صَادِق عَلَاقةٌ طَيِّبَةٌ؛ فَهوَ يُقدِّمُ لِي دَائِمًا المَحبَّةَ والِاتِّصَالَ المُستَمِرَّ، وَالاطمِئنَانَ عَلَى أَحوَالِ زَوجَتِي وَأوْلَادِي بِشَكلٍ دَائِمٍ. أَيضًا فِي كُلِّ مَرةٍ يُحَدِّثُنِي فِيهَا تِلِيفُونيًّا يُصلِّي مَعِي، وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَتركُ صَلَاتُهُ فيَّ أَثرًا إيجَابيًّا عَمِيقًا.
لِلقِسِّ سُلَيمَان مَكَانَةً خَاصَّةً فِي قَلِبِي، وَأكِنُّ لَهُ كُلَّ التَّقدِيرِ والاِحتِرَامِ، فَهوَ رَمزٌ مُشَرِّفٌ مِن رُمُوزِ كَنِيسَتِنَا الإنجِيليَّةِ، وَهذِهِ الرُّمُوزُ هِيَ الَّتِي صَنَعَتْ حَاضِرَ الكَنِيسَةِ، وتَسْتَمِرُّ فِي دَعْمِ سَلَامِهَا وتَأثِيرِها.

رحل عنَّا رجل الصَّلاة؛ رجل الهدوء؛ رجل المحبَّة

الدكتور القس صفوت البيَّاضي
الرَّئيس الفخري للطَّائفة الإنجيليَّة في مصر

عرفت القس سليمان منذ بداية خدمتي، تميَّز بدقَّة كلماته المشجِّعة؛ صديق لجميع الخدَّام الذين في مراحل مختلفة من الشَّباب إلى الشُّيوخ؛ ينتقي الإيجابيَّات ويشجِّعها؛ لم نسمعه يشير نقدًا لآخرين شبابًا كانوا أم شيوخًا ممن حوله.. عرفته محبًّا من قلبه مشجِّعًا لا ناقدًا.
كان رجل السَّلام القس سليمان حاضرًا في مختلف المواقف مُشجِّعًا للزُّملاء والشَّباب في خدمتهم. لم أسمعه مُنتقدًا لصغيرنا أو كبيرنا، أحبَّ جميع عارفيه من خدَّام ومخدومين. انطلق لراحة الأتقياء، لكن سيرته ومحبَّته لن تنتهي، فهي في عقولنا وقلوبنا كان خادمًا مُباركًا. انتقاله يُحزننا ويطعننا في قلوبنا وعقولنا، لكن ما يعزِّينا أنَّه كان مثالًا تحفيزيًّا وخادما مباركًا. انتهت حياته الأرضيَّة، وانتقل إلى موضع راحة يليق برجال الله الأتقياء.

القس سليمان صادق .. المثل والنَّموذج

د. القِسُّ كمال يوسف

لم يكن القس سليمان صادق صغيرًا في العمر، بل أعطاه الرَّبَّ من السِّنين أكثر من تسعين سنة ورقد في شيبة صالحة وشبعان أيَّامًا. لكن اللَّافت للنَّظر أنَّ حفل وداعه لم يكن حفلًا عاديًّا، أو حفلًا لشخص شبع من الأيَّام، كما يحدث كثيرًا، لكن حفل وداعه كان ممتلئًا بالعواطف والمشاعر التِّلقائيَّة والحقيقيَّة. كثيرون بكوه بدموع وألم وكأنَّه في ريعان الشَّباب. وربَّما نتساءل لماذا هذه المشاعر والأحاسيس؟ أهي المحبَّة؟ أم بسبب تواضعه؟ أم بسبب انشغاله واهتمامه بالخدَّام كبارًا وشبابًا؟ أم بسبب خدمته المباركة والنَّاجحة والنَّاجزة؟ هل بسبب محبَّته للكنيسة المحليَّة والعامَّة؟ أم بسبب علاقاته الأخويَّة والأبويَّة للكبير والصَّغير في مصر وخارج مصر؟ أم أنَّ هذه المشاعر وتلك الدُّموع التي ذُرفت في يوم وداعه بسبب هذا كلِّه، وأكثر منه؟
امتلأت الكنيسة قبل موعد الوداع بكثيرٍ، وكان عدد الذين خارج جدران الكنيسة يقترب من عدد الذين في داخلها. وربَّما من المرَّات القليلة التي حضرها عدد كبير من القسوس، يصل إلى قرابة المئة قس.. لماذا كلّ هذا الاحتفال والاحتفاء والحبّ المتدفِّق؟
الجواب: لأنَّه أحبَّ الجميع فأحبَّه الجميع. لم يكن وداعًا رسميًّا فحسب، أو كواجب يؤدَّى، بل ودَّعته القلوب التي لمستها محبَّته وخدمته وصلاته للجميع. وكان مع الجميع مدرسة في الرِّعاية والوعظ والافتقاد والسُّؤال والعطاء والإدارة النَّاجحة ومشروعات متعدِّدة ومنتجة.
لم تكن الخدمة بالنِّسبة له ثقلًا ولا عبئًا بقدر ما كانت حبًّا وعطاءً وزادًا وماءً. كانت الخدمة هي حياته، وكان محصورًا في دائرة الخدمة وأكرَم سيِّده فأكرمه سيِّده في كنيسته؛ في أسرته؛ في مجمعه؛ وفي السّنودس في الدَّاخل وفي الخارج أيضًا. عاش كتابًا جميلًا قصَّة رائعة صنعتها يد القدير.
وهو نموذج للخادم الأمين الذى تاجر بوزناته وربح كثيرًا. وأنا إذْ أودِّعه كصديقٍ عشنا معًا وكنَّا كالتَّوأم نتواجد معًا، وقد نغيب معًا من دون ترتيب أو تدبير. خدمنا معًا وزُرنا كنائس متعدِّدة معًا في بلادنا وخارجها. وقلت عنه وأقول:
محبٌ ولا كلِّ الأحباء
صديقٌ ولا كلِّ الأصدقاء
وفيٌّ ولا كلِّ الأوفياء
وأعترف إنِّي تعلَّمت منه كثيرًا، وأتمنَّى أن يكون نموذجًا، لا لكي نتكلَّم عنه بقدر ما نتعلَّم منه «انظروا إلى نهاية سيرتهم وتمثَّلوا بإيمانهم».
أصلِّى أن يملأ الرَّبَّ ذلك الفراغ الذي تركه في الأسرة والكنيسة ومع الأحبَّاء والأصدقاء، ونعلم أنَّ «يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد.» هنيئًا له أكاليله، وهنيئًا لكلِّ من يعمل في ملكوت الله بقلب طاهر وضمير صالح ولإلهنا كلّ المجد.

القس سليمان صادق .. شيخ العرب

د. القِسُّ يوسف بطرس

«شيخ العرب» تسمية أُطلِقت عليه ولصقَت به وصارت بحقٍّ متماشية تمامًا مع شخصيَّته، بحسب مواقفه الخاصَّة مع الآخرين، بصرف النَّظر عن العرق أو الجنس أو العقيدة أو حتَّى الدِّين.. لأنَّ الكلّ عنده سيان. يعتقد بعضٌ أنَّ هذه التَّسمية جاءت متأخِّرة وخلال سنوات عمره الأخيرة، لكنَّها أصيلة ومتأصِّلة فيه منذ الصِّغر. وأنا متأكِّد من هذه الحقيقة، حيث يعود الأمر إلى عام 1956م. عندما التحقتُ بكليَّة اللَّاهوت الإنجيليَّة، وكان هو في السَّنة النِّهائيَّة وأنا مُستَجَدٌّ في السَّنة الأولى، ورغم كلّ الفوارق إلَّا أنَّني ارتبطت به ارتباطًا خاصًّا منذ الشَّهر الأوَّل من الدِّراسة، وما لفت انتباهي هو لهجته ولكنَته الصَّعيديَّة الأسيوطيَّة النِّخيليَّة، وأنا المنياوي بلغة ولهجة مختلفة. إلى جانب صوته الجهوري ومعاملاته الخاصَّة مع زملائه الخرِّيجين أو معنا نحن المستجَدِّين؟
بدأت ألاحظ ملامح مشيخة العرب تظهر على هذا الإنسان، من خلال تدخُّله الودِّي الحبِّي المباشِر بين اثنَين من الطَّلبة ظهرت عليهم بوادر نزاع، أو حتَّى حسد وغَيرة، إن كانوا من أبناء صفِّه أو من السَّنوات الأخرى. وفي أكثر الظُّروف كان تدخُّله يأتي بفوائد ومصالحات بعد فضِّ المنازعات، كل ذلك بحياديَّة تامَّة وجدِّيَّة حقيقيَّة من دون انتظار لأيِّ ردّةِ فعل من أيِّ طرف.
وبعد تخرُّجه وسيامته راعيًا لكنيسة نزلة رومان -مركز أبو قرقاص- المنيا، وجدنا راعيًا صغير السِّنّ وسط شعب مُخضرم وعضويَّة كبيرة، وفي الوقت نفسه بين شعب كثير لكنيسة الإخوة حيث كانتا الكنيستان الوحيدتان في تلك القرية.
عرف كيف يكسب قلوب الكلّ، مشيخيِّين وإخوة، وكأنَّه الرَّاعي لكلِّ القرية من دون استثناء. واختبرت هذا معه طيلة العشر سنوات التي أمضاها راعيًا لقرية نزلة رومان، وكنت أنا راعيًا لكنيسة الفِكريَّة. وما من مرَّة أتواجد معه، للزِّيارة العاديَّة أو في مناسبات خاصَّة، أفراح أو أحزان، إلَّا وكنَّا نزور معًا بيوت الإخوة قبل بيوت المشيخيِّين. بهذا زرع الحبَّ والودَّ، وتُركِت العقيدة داخل الكنيسة. أمَّا خارجها فالكلّ معًا إخوة مُتحابين مترابطين. بهذه الحكمة وهذا الأسلوب تعامل القس سليمان مع شعب كلّ القرية، وغالبًا باقي القرى المجاورة.
ولظروف خاصَّة في تاريخٍ أخصٍّ، تبرَّع أحد شيوخ الكنيسة بقطعة أرض لتُبنى عليها كنيسة أرثوذكسيَّة ولأوَّل مرَّة، حيث توقَّع بعضٌ أنَّ القس سليمان سيقف ضدَّ هذا الأمر ويحاول منع دخول مذهب ثالث إلى القرية. لكن حدث العكس تمامًا، حيث دخل شيخ العرب مع المجموعة الأرثوذكسيَّة بكلِّ ثقله وبمحبَّته للجميع، وكان مشجِّعًا وفعَّالًا في إنشاء وبناء تلك الكنيسة، وتعاون جدًّا مع القس المعيَّن من المطران للبدء بإقامة قدَّاسات في البيوت إلى أن تُبنى الكنيسة.
ولقد كان… بُنيت الكنيسة وافتُتحت وسيم فيها قسًّا تبنَّاه القس سليمان كابن له وشريك خدمة. وجمَّع الكنائس الثَّلاثة معًا في وحدة روحيَّة مباركة أثمرت وحدة اجتماعية تُضرَب بها الأمثال.
أمَّا في المجمع والسّنودس فكان يقوم بالدَّور نفسه، وكان مبدأه الفعَّال في حلِّ المشاكل المجمعيَّة أو السّنودسية هو العلاج الودِّي أوَّلًا، وإذا لم يأتي نتائجه المرجوَّة، فعلينا بتشكيل لجنة عاديَّة أو مفوَّضة. هكذا سار بذلك المبدأ طيلة حياته. هنا تحضرني ذاكرتي بما قام به مع كنيستَين في مجمع القاهرة، كانت لهما مشاكل مع الرُّعاة وفي أمور يجب ألَّا تصِل إلى المجمع وتلوكها الألسنة، الأمر الذي سيترك خسائر جسيمة مع الرُّعاة أو في الكنائس. وكعادته، أشركني معه في كلّ اللِّقاءات مع كلِّ طرف على حدة، مستمعًا صبورًا ومصليًّا منتظرًا حلّ المشاكل بصورة وديَّة وبكل هدوء وسرِّيَّة. وكنَّا نلتقي مع الأطراف مرَّات ومرَّات على مدار الأسبوع حتَّى يتمَّ التَّراضي بأن يحصل القسيس على مستحقَّاته بلا ظلم، ويعطينا طلب فكّ الرَّوابط الرَّعوية بينه وبين الكنيسة. ويوافق المجمع من دون فتح أيِّ مجال لكلام لا يبني.
والمبدأ نفسه نفَّذه ولمدَّة ثماني سنوات عندما ترأَّس مجلس التَّربية المسيحيَّة، ورافقته كسكرتير للمجلس واختبرت كيف يتعامل شيخ العرب مع عشرات القطاعات لهذا المجلس: مدارس الأحد؛ شباب إعدادي؛ ثانوي؛ جامعة؛ خرِّيجين؛ أسرة حديثة؛ وأسرة قديمة؛ مراكز تدريب؛ مناهج؛ بيت مؤتمرات؛ بيوت طلبة وطالبات؛ وعلاقات مسكونيَّة… إلخ. كان يتعامل مع الجميع بكلِّ لطف وحبّ وحكمة وصلاة من دون منازعات أو انقسامات، بل بنموّ وتقدُّم ونجاح راضيًا الجميع موحِّدًا الأفكار والكلمات. وهكذا سار بهذا الأسلوب في واحدٍ من مجالس السّنودس المهمَّة والكبيرة.
يعوزني الوقت والمساحة في هذا المقال إن أردت الاسترسال في تقديم نماذج كثيرة نفَّذها شيخ العرب في مجتمعات عديدة طلبوا منه التَّدخُّل وحلّ المشكلات وديًّا من دون ترك آثار جانبيَّة أو تكهُّنات وتساؤلات عفويَّة، يستحق الأمر كتابًا كاملًا يُكتَب عنه فقط كشيخ عرب من دون المساس بالجوانب الأخرى لحياة زميل العمر والأخ العزيز الذي ترك أثرًا في قلبي وحياتي.
وأقول له: نعم.. عشت أيُّها المحبوب حياة طويلة وأيضًا عريضة. فبالطول والعرض قمت وأتممت مسؤوليَّاتك متمسِّكًا بمبادئك، ولم تبخل مطلقًا على كلِّ من لاذ بك، حتَّى بعد تقاعُدك استخدمت التِّليفون مصحوبًا بصلواتك مع الآخرين ولأجلهم وقدَّمت عطاياك ومساعداتك الشَّهريَّة والطَّارئة لمن رأيت أنَّهم يستحقُّون.
لا أقول لك يا شيخ العرب وداعًا بل إلى لقاءٍ.

القس سليمان صادق، وصناعة السَّلام

د. القِسُّ أمير ثروت

عرفت الوالد القس سليمان صادق مُنذ طفولتي. فهو الذي عمَّدني في كنيستي الإنجيليَّة في الفجَّالة عام ١٩٨٦م، الكنيسة التي نشأتُ وتربَّيتُ وعرفتُ المسيح فيها. وهو الذي ضمَّني إلى عضويَّة الكنيسة وأنا شاب عام ١٩٩٨م. وهو أيضًا الذي قاد صلاة سيامتي قسًّا مساعدًا للشَّباب في الكنيسة عام ٢٠٠٨م. وهو كذلك الذي رفع صلاة تنصيبي راعيًا شريكًا في الكنيسة في عام ٢٠١٢م. لهذا، فيمكنني أن أكتب عنه الكثير والكثير. لكنَّني أرغب في تسليط الضَّوء على جانب خاصٍّ في شخصيَّته كراعٍ، وفي مدرسته الرَّعويَّة بصورة أكثر تحديدًا.
اهتمَّ القس سليمان عبر أعوام خدمته الممتدَّة (١٩٥٩-٢٠١٩ م) بصناعة السَّلام بين الأفراد والجماعات، سواء في الكنيسة في الفجالة أو في المجمع أو في السّنودس أو في المجتمع ككل.
في الكنيسة، كان القس سليمان يحرص دائمًا على السَّلام من خلال مراعاة الجميع، فيصلح ما بين الأزواج، وما بين الأبناء والوالدين، وما بين أعضاء وخدَّام الكنيسة. وتقوم صناعة السَّلام عنده على احترام وتقدير الكلّ، والتَّحدُّث مع كلِّ طرف بكلمات إيجابيَّة عن الطَّرف الآخر للتَّمهيد للمُقابلة بينهما، والتي كانت دائمًا ما تنتهي بصلاة خاصَّة منه، والتي من خلالها يستخدمه الله لصناعة السَّلام بين المتخاصمين.
أمَّا في المجمع الذي تتبعه الكنيسة (مجمع مشيخة كنائس القاهرة الإنجيلي) فقد كان دائمًا صمام الأمان لأيِّ نزاع يحدث بين القسوس أو الشُّيوخ في كلّ كنائس المجمع. لهذا، فقد ترأَّس عدد كبير من مجالس كنائس المجمع في أوقات مختلفة (منها كنائس: الطَّالبيَّة؛ الشَّرابيَّة؛ المعادي؛ العبور؛ العمرانيَّة؛ وشبرا الخيمة وغيرها). أدّى بتلك المهمَّة بحسٍّ رعويّ فريد حتَّى استخدمه الله في قيادة تلك الكنائس إلى تحقيق السَّلام.
وفي السّنودس -المجمع الأعلى للكنيسة الإنجيليَّة المشيخيَّة في مصر- لُقِّب بــ «شيخ العرب»، لما كان له من باعٍ طويل وعريض في صناعة السَّلام في مجالس السّنودس ولجانه المختلفة. كما كان له الدَّور الأكبر في استمرار العلاقة بين سنودس النّيل الإنجيلي والهيئة القبطيَّة الإنجيليَّة للخدمات الاجتماعيَّة. وكذلك في مُصالحات كثيرة بين الكنيسة الإنجيليَّة المشيخيَّة وكنائس من المذاهب الإنجيليَّة الأخرى في مصر.
لقد كان شعاره الرَّعوي كما يقول الكتاب المقدَّس «اتَّبعوا السَّلام مع الجميع» (عبرانيين ١٢ : ١٤). وإن كان معنى اسم «سليمان» هو سلام أو مُسالِم، فإنَّ الوالد القس سليمان صادق كان سليمانًا بحقٍّ.

ما تعلَّمته مِن أبي

د. القِسُّ يوسف سمير

نشأتُ والقس سليمان جزء من حياتنا اليوميَّة كأسرة. فهو الذي عمَّدني؛ وهو الذي شجَّعني على الالتحاق بكليَّة اللَّاهوت والتَّفرُّغ للخدمة؛ وهو الذي قاد احتفال زواجي؛ وقطع عليَّ العهود في زواجي وفي معموديَّة ابني وابنتي؛ وهو الذي أفسَح لي الفرصة لأخدم كراعٍ مساعد ثمَّ كراعٍ أصيل بجانبه في كنيسة الفجَّالة. لكلِّ هذا، كان القس سليمان وسيظلّ من دون شكٍّ جزءًا أصيلًا لا يتجزَّأ من تاريخي. ولكلِّ ذلك أيضًا، شعرت، بل أدركت بانتقاله أنَّ جزءًا مهمًّا منِّي قد ضاع. وهكذا هو الحال عندما يذهب عنَّا من كانوا بركة ودَعمًا لنا في حياتنا، فإنَّهم، سواء دَروا أم لم يدروا، قد حفروا لهم مكانًا خاصًّا في القلب، يظلُّ ينزف طويلًا عندما يفارقوننا بالجسد.
وبشهادة جيله والأجيال التَّالية، فإنَّ القسيس سليمان مدرسة في حقل الرِّعاية. والحديث يطول عمَّا قدَّمه للكنيسة المحليَّة والعامَّة في هذا المجال، بالإضافة إلى مجالات كثيرة أخرى. ولأنَّ المجال لا يسمح بالإسهاب كثيرًا، رغم كثرة ما يمكن أن يُقال في حقِّ هذا الخادم الأمين، فإنَّني أكتفي فيما يلي بذكر بعض النِّقاط العمليَّة التي تعلَّمتها من خلال تعامُلي مع هذا العملاق:
تعلَّمت أوَّلًا الاهتمام بمن هُم أصغر منِّي في السِّنِّ والخبرة. فقد رأيت القس سليمان وهو يفتح المجال لثلاثة من شباب الفجَّالة ليكونوا خدَّامًا متفرِّغين، وأصبح اثنان منهم رعاة معه، ودفع الثَّالث منهم بقلب أبٍ محبٍّ إلى مجالات خدمة مختلفة. ولا يفعل ذلك الأمر إلَّا الخادم الحقيقي الذي ملأت محبَّة المسيح قلبه، فأضحى يشعر بالأمان الدَّاخلي الذي يمنعه من التَّنافس والغَيرة والرَّغبة المحمومة في الاستئثار بالمكان والخدمة والمكانة، وحجبها عن الآخرين. تعلَّمت من القس سليمان كيف أشجِّع الجيل الأصغر وأوفِّر له، قدر إمكاني، كلّ نصيحة وتشجيع ودعم وأدوات وإمكانيَّات مُمكنة. فمغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ كما علَّمنا السَّيِّد.
وتعلَّمت من القس سليمان كيف تكون الرِّعاية الحقَّة التي تهتمّ اهتمامًا مُخلصًا بالآخرين. فأنا لم أرَ شخصًا يمرُّ بمحنةِ فَقدٍ أو مرضٍ أو احتياجٍ ماديٍّ أو أزمة أسريَّة، إلَّا وكان أبونا سليمان بجانبه من خلال صلاته ومساعدته بصورة عمليَّة لتخفيف حدَّة معاناته. مثال متكرِّر على ذلك هو وقوفه بجانب أيَّة أسرة في انتقال أيِّ فرد فيها. فقد كان هو أوَّل من يصِل إلى البيت ويدبِّر كلَّ الأمور اللَّازمة، مثل شراء الصَّندوق وكتابة النَّعي وفتح المدفن وترتيب تفاصيل خدمة الجنازة والتَّعزية. جميعها أمور قد تبدو عاديَّة، لكنَّها ليست أبدًا كذلك لمن يعاني من لوعة الفقدان والحزن لفراق الأحباء. كانت بصمة الرَّاعي تترك على النُّفوس المتألِّمة مسحة من الهدوء والرَّاحة والإحساس بالرِّفقة في وسط العاصفة المزعجة. عرف القسيس سليمان كيف يعيش وصيَّة يوحنَّا «بألَّا نحبّ بالكلام واللِّسان، بل بالعمل والحقّ» بصورة جديَّة وعمليَّة.
أخيرًا، تعلَّمت من أبي كيف تكون للأسرة الصَّغيرة الأولويَّة في الحياة. أنظُر إلى أسرته الصَّغيرة: ابنَيه وبنتَيه وأرى في كلِّ تصرُّفاتهم عِرفانًا حقيقيًّا بالجميل لهذا الأب الجليل الذي لم يبخَل عليهم بوقت أو بحُبّ أو بمشورة أو باهتمام. أرى اهتمامهم وعنايتهم به في سنيّ حياته الأخيرة صدًى لما قدَّمه لهم طيلة أيَّام حياته من رعاية ودَعم. أتذكَّر استقباله الحارّ لأسرته أبناءً وبناتًا وأزواج بنات وزوجات أبناء وأحفادًا وحفيدات عند باب الكنيسة وابتسامته التي كانت تملأ وجهه عندما يراهم. كما لا يسعني إلَّا أن أتذكَّر شريكة الحياة طنط عايدة: أسرة نموذجيَّة مُتحابَّة متماسكة مترابطة. أتذكَّر أمامها كلمات الرَّسول إذ يقول لتلميذه: «فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ… يُدَبِّرُ بَيْتَهُ حَسَنًا، لَهُ أَوْلاَدٌ فِي الْخُضُوعِ بِكُلِّ وَقَارٍ. وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْرِفُ أَنْ يُدَبِّرَ بَيْتَهُ، فَكَيْفَ يَعْتَنِي بِكَنِيسَةِ اللهِ؟»
هكذا كان أبي.. وهذا ما تعلَّمته منه.

الأب والرَّاعي -أبونا سليمان- كما أناديه دائمًا

القِسُّ نادي لبيب

هو راع للقسوس والشّيوخ، في كلّ مرَّة أتكلَّم معه أشعر بهيبه وقوَّة في شخصه وإيمانه. اعتدتُ أن ألجأ إليه عندما أكون في ضيقة نفسيَّة، فيجلس معي مُشجِّعًا، وتتحوَّل الضِّيقة إلى تحدٍّ جديد في الخدمة.
شجَّعني جدًّا وأنا أبدأ خدمتي، ولا أنسى يوم زواجي كيف استقبل أسرتي بالكامل، و أضافهم بكرمٍ اعتدناه من «أبونا سليمان». هو بركة لكلِّ من تعامل معه، يهتمّ بأدقّ التَّفاصيل ويحفظ أسماء أولادنا ويسألنا عنهم بالاسم. سنظلّ نحبّه ونتعلَّم من سيرته. كان قريبًا منَّا، يصلِّي معنا ولأجلنا، عندما نتحدَّث عن القسوس ويُذكر اسم «أبونا سليمان» يتكلَّم الجميع عن نموذج للتَّقوى الشَّخصيَّة التي يجب أن تكون لدى الرُّعاة، ونتوق إلى جلسته الحلوة المشجِّعة.
شكرًا «أبونا سليمان» لأجل مساندتك ووقوفك بجانبي وبجانب زملائي.. شكرًا لأنَّك في وقت الشِّدَّة كنَّا نجدك الأب والأخ والصَّديق.. شكرًا على كلِّ مرَّة نصحتني فيها نصيحة غالية أثَّرت في خدمتي. سأظلُّ مَدينًا لك أنا وبيتي وخدمتي طيلة حياتي، لأنَّك شجَّعتني وكنت لي نعم الأب والزَّميل.

محطات في حياتي مع القس سليمان صادق

د. الشيخ يسري وهبه

ولد القس سليمان صادق في عام 1934 وعاش حياته كلها مكرسًا للرب. خدم القس سليمان في الكنيسة الانجيلية بالفجالة لأكثر من خمسين عاما. خلال سنوات خدمته كان راعيًا أمينًا ومحبًا للصغير والكبير. وكانت لصلاته المستمرة أثرًا كبيرًا لشعب كنيسته بل ولكل اصدقائه ومعارفه. بدأت معرفتي بالقس سليمان عام 1970 واستمرت خدمتي معه حتى سبتمبر 2024. خلال هذا المقال سوف أستعرض بعض المحطات المهمة التي جمعتني بالقس سليمان عبر سنوات الخدمة. . .
أول لقاء جمعني بالقس سليمان كان عام 1970. في ذلك الوقت كان القس سليمان سكرتير عام مدارس الأحد بسنودس النيل الإنجيلي، وقد حضر الى الكنيسة أثناء مدرسة الكتاب المقدس الصيفية وتقابلت معه بصفتي المسؤول عن مدارس الأحد. مررت مع القس سليمان على الفصول والصلاة مع المدرسين والأطفال. بعدها زرت القس سليمان في منزله ومن هنا بدأت علاقتي معه ومع أسرته. منذ عرفت القس سليمان أصبحت الطبيب المعالج للأسرة كلها.
أنا وأسرتي نعتبر القس سليمان صديق وأخ كبير لنا وليس فقط راعيًا. فقد شارك معنا في أفراحنا وأحزاننا وصلى لكل واحد منا شخصيًا في مراحل حياته وقراراته المختلفة.
من المواقف التي لا أنساها حين طلب مني القس سليمان قيادة ميكروباص الكنيسة. وكانت هذه أول رحلة لبنات فاولر إلى الأسكندرية لإقامة أول مصيف. قضينا أسبوعًا مبهجًا في بيت كنيسة سيدي بشر وأصبح المصيف رحلة سنوية للبنات.
اشتركت مع القس سليمان في لجان مختلفة في كنائس القاهرة لحل مشاكلها. وقد تعلمت من حكمته وادارته الكثير في حل المشكلات. وشاركت حكمته وأذنيه المصغيتين دائمًا لحل مشاكل أسرية كثيرة في الكنيسة وخارجها.
في فبراير 1998، انتخب شيوخ جدد لمجلس الكنيسة. و منذ انتخابي شيخًا للكنيسة، شاهدت بل وتعلمت من حكمة القس سليمان في إدارة جميع جلسات المجلس بهدوء وبمحبة. وبعد انتقال طيب الذكر الفاضل الشيخ فاروق فاضل (يوليو 2003) رتب الرب بتعضيد القس سليمان أن أكون سكرتيرًا لمجلس الكنيسة وأشكر ألهي لأجل خدمتى سكرتيرًا بجوار القس سليمان صادق الذي دعمني وعلمني الكثير. وكان للقس سليمان فضلًا كبيرًا في دعمي ودعم الشيوخ والشمامسة وشعب الكنيسة بصلاته المستمرة لنا ولأسرنا ولخدمتنا.
يبقى عمل القس سليمان حيًا فيَّ وفي كل شخص تعامل معه.
أصلي أن يستخدم الله خدمته وخدمتنا لمجد اسمه وامتداد ملكوته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى