ميلاد المسيح تاريخيًا ونبويًا ولاهوتيًا
الهدى 1227 يناير 2021
يُعَدّ حدث ميلاد المسيح المعجزي أعظم حدث في تاريخ البشرية، ولا يُنافسه في تلك العظمة إلاَّ حدث قيامته المُعجزيَّة. الطَّريقة التي دخل بها عالمنا مُتجسِّداً، والطَّريقة التي خرج بها منه مُمَجَّداً، وذلك لإتمام الخلاص الثمين.
وبينما تهتمّ الأناجيل بقصة الميلاد وتفاصيل حياته على الأرض تهتم الرَّسائل وسفرا الأعمال والرؤيا بتفاصيل أكثر عن حدث موت المسيح وقيامته وفاعليتهما.
أولاً- ميلاد المسـيح تاريخيًا
متى وُلِدَ السيد المسيح له المجد؟ كثيرًا ما نواجه هذا السؤال، الحقيقة أن وقت ميلاده غير معروف بالضبط، لا اليوم، ولا الشهر، ولا الفصل، ولا السنة. فليست سنة واحد ميلادية هي سنة ميلاد المسيح.
وتوجد بحوث كثيرة كتابية وتاريخية تؤكد أن المسيح لم يولد في سنة واحد ميلادية، إذ وجد أن الراهب ديونيسيوس (532م) الذي بدأ بحساب هذا التاريخ قد أخطأ كثيرًا في حساباته بأربع سنوات على الأقل. لذلك فهناك رأي على أن المسيح ولد سنة 4ق.م تقريبًا.
وليكن معلومًا أنَّ الكنيسة الأولى لم تحتفل اطلاقًا بعيد الميلاد للسيد المسيح لسببين هما:
1) أن تاريخ ميلاد المسيح لم يكن معروفًا كما ذكرنا من قبل.
2) لأن المسيح ولد فقيرًا لأسرة فقيرة في قرية فقيرة، فلم يكن مولودًا في قصر من قصور الملوك كأمير حتى يحتفل بيوم ميلاده ويسجل اسمه وتاريخه في ذاكرة التاريخ.
وظلت الكنيسة الأولى هكذا لم تعرف أي احتفال بميلاد المسيح حتى القرن الرابع الميلادي. وعندما بدأت الكنيسة الإحتفال بعيد الميلاد بدأت به بعض الكنائس ثم انتشر تدريجيًا إلى الكنيسة العامة في كل أنحاء المسكونة حيث توجد كنائس.
وقد كان الشرق والغرب يعيدون معًا عيد الميلاد في ليلة الرابع والعشرين من ديسمبرمن كل عام حتى تغير التقويم اليولياني (نسبة إلى يوليوس قيصر) إلى التقويم الغريغوري (نسبة إلى البابا غريغوريوس) في 1582م بفرق 13 يومًا عن التقويم القبطي الذي يوافق 29 من شهر كيهك، والذى لا تزال تسير عليه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وبعض كنائس الشرق الأرثوذكسية.
ولكن ليس لهذا الإختلاف أي تأثير على الإيمان المسيحي المشترك، ولا حقيقة تاريخية شخص السيد المسيح.
• معنى ملء الزمان: إنها تعني مجيء المسيح في الوقت المعين من قبل الله، حيث أصبح العالم مهيئًا لمجيء المسيح وقبوله، يقول المسيح في انجيل مرقس: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس 1: 15). أصبح العالم مهيئًا لمجيء المسيح في عدة أمور:
1) عجز الناموس عن أن يخلص الإنسان من الخطية ودينونتها، وبالتالي الفشل الذريع من البشر أن يخلصوا من عذاب الضمير ومن الخطية وسلطانها ودينونتها، «لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ، فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ، دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ» (رومية 8: 3).
2) امتلاء كاس البشرية بالشر والفساد: «لأَنَّ غَضَبَ اللهِ مُعْلَنٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى جَمِيعِ فُجُورِ النَّاسِ وَإِثْمِهِمِ، الَّذِينَ يَحْجِزُونَ الْحَقَّ بِالإِثْمِ…َ.»(رومية 1: 18-32). وهنا نرى في كلام الوحي وصفًا مرعبًا عن شر الإنسان، فقد صار عند البشر جوع روحي يبحثون عن اشباع لهم.
3) قام الحكم الروماني بإصدار قوانين وشق طرق ممهدة لتنظيم الحياة بين البشر مما ساعد على انتشار الإنجيل، ووصوله إلى كل أنحاء العالم في ذلك الوقت.
4) كان لانتشار اللغة اليونانية كلغة عالمية رسمية في معظم بلدان البحر المتوسط، في سهولة انتشار وفهم رسالة الإنجيل.
هذا هو معنى ملء الزمان.
ثانيًا: ميلاد المسيح نبويًا
توجد نبوات كثيرة في العهد القديم عن المسيح، نذكر أهمها باختصار كالتالي:
• نسل المرأة: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ» (تكوين 3: 15) وهي نبوة عن المسيح وكنيسته.
• شيلون (مانح الراحة): «لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين 49: 10).
• النبي: «يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ»(تثنية 18: 15).
• كوكب يعقوب: «أَرَاهُ وَلكِنْ لَيْسَ الآنَ. أُبْصِرُهُ وَلكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا. يَبْرُزُ كَوْكَبٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَيَقُومُ قَضِيبٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ، فَيُحَطِّمُ طَرَفَيْ مُوآبَ، وَيُهْلِكُ كُلَّ بَنِي الْوَغَى» (عدد 24: 17). ملحوظة هامة: بلعام بن بعور نبي وثني يعمل بالعرافة ومع ذلك نطق بهذه النبوة رغمًا عن أنفه!!
• الغصن: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ»(إشعياء 11: 1-2)، (انظر أيضًا: ارميا 23: 5-6؛ 33: 15-16).
• ميلاده من عذراء: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (إشعياء 7: 14) (انظر متى 1: 21).
• هو الإله القدير الأبدي: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ. لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ. غَيْرَةُ رَبِّ الْجُنُودِ تَصْنَعُ هذَا.» (إشعياء 9: 6-7).
• مكان ميلاده: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا 5: 2)، (انظر أيضًا متى 2: 6).
ثالثًا: ميلاد المسـيح لاهوتيًا
أ) من جهة ناسوته: والمقصود بناسوت المسيح أي بشريته شاملة جسده المادي وروحه الإنسانية، وقد ولد المسيح من مريم العذراء- بدون زرع بشر- ومر بجميع مراحل النمو كإنسان محدود في الزمان والمكان، ويؤكد لنا الوحي المقدس حيقيقة بشريته كإنسان كان يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويتعب وينام، ويحزن يكتئب (متى 26: 37-38، مرقس 14: 33-34)، وتهلل بالروح فرحًا (لوقا 10: 21)……… الخ.
ولسنا في حاجة للإسترسال كثيرًا لإثبات بشرية المسيح كإنسان حقيقي عاش على الأرض عبر عنها الرسول يوحنا بقوله: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضًا شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1يوحنا 1: 1، 3).
فلم يكن المسيح مجرد شبح أو خيال كما تصورت بعض الهرطقات.
ب) من جهة لاهوته: هذا الجسد (الناسوت) الذي حبل به بالروح القدس بدون زرع بشر من السيدة العذراء مريم كما تنبأ إشعياء النبي حل فيه ملء اللاهوت جسديًا، يقول الرسول بولس: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كولوسي 2: 9).
إن حبل العذراء مريم بالمسيح بدون زرع بشر يثبت حقيقة لاهوت المسيح، فآدم خلق، ولكن ولادة المسيح هي الحدث الفريد والوحيد أن يولد من عذراء حسب النبوة، والكلمة العبرية في نبوة إشعياء (7: 14) يمكن أن تترجم «صبية» (الترجمة المبسطة)، وترجمها البعض بالعامية «فتاة على وش زواج» وترجمها علماء اليهود بالكلمة اليونانية «بارثينوس» في الترجمة السبعينية (250ق.م) والتي تعني عذراء.
فالمسيح هو الله المتجسد: «عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تيموثاوس 3: 16).
المسيح هو كلمة الله المتجسد الأزلي الأبدي: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ.»، «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.» (يوحنا 1: 1، 14).
المسيح هو تجسد ابن الله الوحيد القدوس الأقنوم الثاني في الذات الإلهية (الثالوث الأقدس). لم تكن بنوة المسيح لله الآب عند ولادته من السيدة العذراء لكن بنوته كانت لله الآب أزلية أبدية، فيدعوه إشعياء النبي في نبوته: «…. إلهًا قديرًا أبًا أبديًا…..» (إشعياء 9: 6)، ويقول الوحي المقدس: «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.» (مزمور 2: 7)، «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ»» (مزمور 110: 1)، وفي سفر الأمثال يقول»، «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ، مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ.» (أمثال 8: 22-23).
لقد أثبت المسيح بكل صدق –في حياته وأعماله وتعاليمه– أنه بحق هو ابن الله القدوس الآتي إلى العالم، وقبل المسيح الإيمان به بهذا المعنى، وقبل السجود له بهذا المفهوم، قال المسيح للأعمى الذي فتًح عينيه: «أتؤمن بابن الله؟……. فقال: أؤمن يا سيد وسجد له» (يوحنا 8: 35-38)، وقول الرسول في غلاطية آية تأملنا: «…أرسل الله ابنه..» (غلاطية 4: 4) فهو أزلي أبدي. فنحن لا نعبد إنسانًا ونؤلُهه، لكننا نعبد إلهًا تجسدفي يسوع المسيح ونسجد له.