الإنسان بين الحياة والموت
الهدى 1232 يونيو 2021
إرادة الله الحياة وليس الموت! وحينما اختار الإنسان الموت بسقوطه في الخطية، رده الله من جديد لحياة باقية، إذ «طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ الْحَيَاةِ وَيَدْخُلُوا مِنَ الأَبْوَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ» (رؤيا 22: 14)، وللأسف الشديد يمجد الإنسان الموت أكثر من الحياة، والدليل على ذلك تعليق صور الموتى أكثر من الأحياء! وبسبب وصف الكتاب المقدس «للحياة» أنها قصيرة، حقَّرَ العديد من شأن «الحياة»، ومن هذه الأوصاف: قليلة ورديَّة (تكوين 47: 9)، ظل (أيوب 8: 9)، أشبار (مزمور 39: 5)، قصة (مزمور90: 9)، أفخرها تعب (مزمور90: 10)، مثل العشب وزهر الحقل (مزمور 103: 15)، الكل باطل) جامعة 1: 2)، بخار (يعقوب 4: 14)، وغيرها.
لهذا ثار د. زكريا إبراهيم في كتابه مشكلة الحياة صفحة 298، قائلاً: «ولسنا نجد في المسيحية اعترافًا صريحًا بقيمة الحياة بوصفها الأساس البيولوجي للوجود البشري… ولكن الظاهر أن كلمة الحياة في المسيحية قد انصرفت عادةً إلى المعنى الروحي، بينما بقيت كلمة العالم مرتبطة بالمعنى الحسي.» وردًا على ذلك.. فكل هذه الآيات الكتابية تتحدث عن «الحياة» في مجملها، وليست في جوهرها، فبالحقيقة أقول: لا أعرف أعجل من الأيام، كما لا أعرف أمهل منها! فحينما ننظر للماضي –مهما كان سحيقًا- بكل ما فيه من ذكريات يبدو وكأنه بالأمس القريب، وعندما ننتظر وبشغف أمرًا ما –حتى وإن كان في الغد- يأبى الوقت أن يمر! لحظات الفرح تمر سريعًا، وساعات الحزن تأبى المرور! ولكن إن كانت «الحياة» قصيرة في مجملها، إلا انها ثمينة جدًا في جوهرها وتستحق من الإنسان أن يحياها! يقول فايز فارس في كتابه حول أزمة الدين والأخلاق في المجتمع المعاصر: «لأن الإنسان مخلوق زمني، ومُعرَّض للتغيير والزوال –وهي صفات كل ما هو زمني- وسيواجه الموت، لكنه يستطيع أن يثري وجوده الزمني بما هو أوسع من الزمن.»
لقد فقدنا –على المستوى الكنسي- كثيرين من الأحباء خلال الشهور القليلة الماضية، منهم من كانت وفاتهم طبيعية، ومنهم من كانت وفاتهم بسبب ڤيروس كورونا، وقد رأيت مظاهرات الحب على الصفحة الزرقاء (الفيسبوك) عرفانًا بجميلهم، وحزنًا على رحيلهم، وهنا تذكرت ما جاء في الكتاب المقدس عن الملك آسا بعد رحيله: «ثُمَّ اضْطَجَعَ آسَا مَعَ آبَائِهِ وَمَاتَ فِي السَّنَةِ الْحَادِيَةِ وَالأَرْبَعِينَ لِمُلْكِهِ فَدَفَنُوهُ فِي قُبُورِهِ الَّتِي حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ وَأَضْجَعُوهُ فِي سَرِيرٍ كَانَ مَمْلُوّاً أَطْيَاباً وَأَصْنَافاً عَطِرَةً حَسَبَ صِنَاعَةِ الْعِطَارَةِ. وَأَحْرَقُوا لَهُ حَرِيقَةً عَظِيمَةً جِدّاً» (2 أخبار 16: 13-14).
لقد أكرم الناس الملك آسا عند موته. لماذا؟ لأنه أكرم هو الله في الناس أثناء حياته! فالبشر من جهة الحياة والموت، يتنوعون بين:
1. الأحياء الأحياء: هؤلاء أحياء بأجسادهم، وأحياء –أيضًا- بتأثيرهم. تجدهم فرحًا مع الفرحين، وبكاءً مع الباكين، هم كطوق نجاة للغريق في دوامات الحياة، وكشجرة وارفة الظلال في يومٍ شمسه حارقة، وثمارهم من أفعال وأقوال شفاء للعليل، مبادرون في فعل الخير، كما جاء عن يسوع: «الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً» (أعمال 10: 38).
أولئك يستحقون منَّا التقدير أثناء حياتهم، وليس حينما يرحلون فحسب، وكما يقول جبران خليل جبران: «وردة واحدة لإنسان أثناء حياته، أفضل من باقة ورود كاملة على قبره!».
2. الأحياء الأموات: هؤلاء أحياء بأجسادهم، لكن ليس لهم أي تأثير إيجابي في الحياة. كما جاء عن ملاك كنيسة ساردس: «أَنَّ لَكَ اسْماً أَنَّكَ حَيٌّ وَأَنْتَ مَيِّتٌ» (رؤيا 3: 1). هؤلاء يأكلون ويشربون وغدًا سيرحلون! هم كشجرة التين التي حكى عنها الرب يسوع، وجاء عنها: «لِمَاذَا تُبَطِّلُ الأَرْضَ أَيْضاً؟» (لوقا 13: 7)، يتسمون بالسلبية والنفعية، يقفون مكتوفي الأيادي تجاه عمل الخير، ينطبق عليهم قول الرسول يعقوب: «فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذَلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يعقوب 4: 17)، وحتى قانون العقوبات المصري نفسه جرَّم السلبية، ويوجد به مصطلح يُسمى بـ «الجريمة السلبية»، ومفادها أن كل من كان قادرًا على منع جريمة، أو إنقاذ شخصًا من الموت ولم يفعل ذلك؛ توقَّع عليه العقوبة المناسبة، حتى وإن لم يكن هو الجاني طالما كان قادرًا على ذلك.
3. الأموات الأموات: رحلوا عنَّا بأجسادهم، ولا يُذكر لهم أي تأثير، بل الأكثر من ذلك قد يتركوا من وراءهم دمارًا وخرابًا، فلا تطيق الأذن سماع سيرتهم، إنهم مثل يهورام، الذي قال الكتاب عنه: «ذَهَبَ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْهِ» (2 أخبار 21: 20)، ينطبق عليه وكذلك من على شاكلته، القول: «كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (متى 26: 24).
الكل سيموت لكن سيبقى التأثير، وكما يقول صلاح جاهين: «ضريح رخام فيه السعيد اندفن، وحفرة فيها الشريد من غير كفن، مريت عليهم.. قُلت: ياللعجب! الاتنين ريحتهم ليها نفس العفن!»، وكما يقول جبران خليل جبران: «تتساوى الألوان عند الظلال!» لكن سيبقى التأثير.
4. الأموات الأحياء: رحلوا عنَّا بأجسادهم، لكن تبقى سيرتهم العطرة، وقدوتهم الصالحة، وأفكارهم النيرة، وأفعالهم الخيِّرَة. هم مثل آسا الذي حزن عليه شعبه بعد موته، ومثل طابيثا التي عند موتها طلبوا من بطرس أن يأتي «فَلَمَّا وَصَلَ (بطرس) صَعِدُوا بِهِ إِلَى الْعِلِّيَّةِ فَوَقَفَتْ لَدَيْهِ جَمِيعُ الأَرَامِلِ يَبْكِينَ وَيُرِينَ أَقْمِصَةً وَثِيَاباً مِمَّا كَانَتْ تَعْمَلُ غَزَالَةُ وَهِيَ مَعَهُنَّ» (أعمال 9: 39).
فالأحياء الأحياء بعد رحيلهم هم أموات أحياء، فالمرء يُعرف عند جنازته، والأحياء الأموات بعد رحيلهم هم أموات أموات! مثل متوشالح الذي بالرغم من طول عمره، لا يذكر الكتاب عنه سوى أنه أنجب ومات، فكان حيًا ميتًا، ولذلك بعد موته صار ميتًا ميتًا! إن الفرق بين حياة متوشالح الذي عاش طويلاً، وحياة يوشيا أو يوحنا المعمدان اللذان عاشا قصيرًا، كالفرق بين كتاب كبير يسلب وقتك، وكتيب صغير يحتوي نفسك! فالكتاب ليس بحجمه وإنما بمحتواه، كذلك الأمر فالحياة ليست بطولها وإنما بعمقها، وكما قال أحدهم: «ليس المهم إضافة سنوات إلى حياتنا، وإنما إضافة حياة لسنواتنا!»
يقول مايكل جرين –في كتابه اختيارات مصيرية وصعبة صفحتي 25 و26- كلمات أكثر من رائعة عن نفسه: «ولذا فأنا لستُ مجرد مجموعة من المواد الكيمائية في محلول، ولا أنا عنقود من الجينات الناضجة. إني ابن لله. إني أستطيع أن أرفع رأسي عاليًا. فأنا لستُ شيئًا تافهًا، يمكن الاستغناء عنه، لست شيئًا بلا معنى. كلا، إني ابن أو بنت للقدير. إن لي بصمات أصابع مختلفة عن أي شخص آخر في العالم كله وكذلك حامض الـ D. N. A. الذي يختلف عن كل ما عداي. إن لي قيمة عند مصدر كل حياة. إن لي قيمة جعلت الله يهتم ويخلقني ويعولني لحظة بلحظة. إن ذلك يولد فيَّ مزيجًا من الرهبة والثقة.»
أتذكر أن وفاة الأم تريزا تزامنت مع وفاة الأميرة ديانا، وبالرغم من بساطة الأولى وبريق الثانية، إلا أن العالم بآسره التفت لرحيل الأولى، بينما التفت القليلون لرحيل الثانية!
في الختام أقول.. فقدنا أحباء كثيرين، لكنهم أحياء بيننا بسيرتهم العطرة، وتأثيرهم الفعَّال، هم وإن صاروا أمواتًا لكنهم –في الحقيقة- أحياء.