آراءرأي أخرمقالات

متهمون فوق كراسي القضاء

الهدى 1234                                                                                                             أغسطس 2021

ما أكثر المرات التي يتبوأ فيها المتهمون كراسي القضاء بينما مكانهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه هو قفص الاتهام، ولعل موقف الرجال اليهود – الأتقياء الأنقياء بحسب الظاهر- من المرأة التي أمسكت في ذات الفعل إنما يؤكد هذه الحقيقة المؤلمة، فلقد أتى الصديقيون والفريسيون بإمرأة أمسكت في ذات الفعل، وأعادوا على أسماع السيد المسيح القانون المذكور في سفر اللاويين أن موسى أمرهم بأن يرجموا مثل تلك المرأة، لقد كان هناك قانون اجتماعي ظالم كان سائدًا آنذاك وهو رجم المرأة الزانية حتى الموت وترك الرجل دون أية عقوبة، ولأن اليهود المتطرفين كانوا يعلمون نظرة المسيح للنساء وكيفية معاملته لهنّ أرادوا أن يعرفوا ما الذي سيفعله في موقف كهذا، فأحضر إليه عددٌ من الرجال اليهود امرأة تعيسة كانت تهمتها إنها كسرت العفاف الأنثوي وأمسِكت في فراش الزنى مع رجل، ولم يمنعهم الحياء من أن يجروها في عنف وقوة وهي عارية أمام الملا ليوقفوها أمام السيد المسيح في الوسط مطالبين برجمها لقد تجرد هؤلاء الرجال من كل المشاعر الإنسانية ونظروا إلى هذه المسكينة لا باعتبارها كائنًا بشريًا له أحاسيس ومشاعر ولكن باعتبارها مجرد حالة يجب أن تحاكم وقالوا له: يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني، وموسى أوصانا في الناموس أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت؟ وقد كانوا ينتظرون أن السيد المسيح يوافق على رجمها، ظانين أنهم وضعوه في مأزق لا مخرج منه، لأنه لو لم يوافق على رجمها يكون خائنًا للناموس ورافضًا للقانون، وإن وافق فتلك ضربة كبيرة للمسيح من نحو معاملته للنساء وتعاليمه عن الرحمة والمغفرة. نظر السيد المسيح بحزن وأسى وهو يبحث عن شريكها في الأثم؟ ولماذا لم يحضروه معها؟ أليس هو أيضا أرتكب خطيئة الزنى؟ لماذا لم يقبضوا عليه عندما ضبطوهما متلبسين بالجريمة؟ لقد أبغض السيد المسيح التقاليد الفاسدة والآداب الكاذبة في ذلك العصر تلك الآداب التي تلعن وتدمغ المرأة الساقطة بالعار بينما تسامح الرجل وتطلقه حرًا لا غبار عليه، مع أن الشريعة تنص على رجم الزاني والزانية (لاويين 20: 10)، وساد صمت مطبق قطعه السيد المسيح بأن انحنى وكان يكتب بإصبعه على الأرض، وأغلب الظن أنه كان يكتب أخطاء هؤلاء الرجال ويكشف لكل منهم نفاقه ورياءه وتدينه الشكلي، ومما لا شك فيه أن السيد المسيح كان يفكر متسائلًا في نفسه أيهما أشر وأضل سبيلًا، العمل المخجل الذي ارتكبته هذه المرأة، أم الموقف الخبيث الذي يقفه متهموها المتظاهرون بالتقوى والورع؟ لقد قالوا عنها إنها امرأة زانية ولكن هل كانوا هم أقل منها خطأ عندما سيروها عارية في الطرقات؟ هل ظنوا أنفسهم شرفاء؟! ثم كيف يختبئون وراء جلباب الدين ويتسترون خلف عباءة التدين ويتذرعون بناموس موسى ويبيحون رجمها وسفك دماءها؟! أمن المعقول أن نقابل الشر بشر أعظم ونقول هذه هي الشريعة؟! أنقاتل الفساد بفساد أعم ونهتف هذا هو الناموس؟! أنتصدى للجريمة بجريمة أكبر ونصرخ هذه هي العدالة؟! ثم من يكون هم هؤلاء الرجال اليهود، هل هم ملائكة نزلوا من السماء أم بشر أرضيون يغتصبون كل ما تصل إليه أيديهم؟! أأنبياء هبطوا من العلاء أم إنهم رجال عاديون ينهبون أموال الأرامل والأيتام؟! أنساك طاهرون أتوا من صوامعهم أم أناس ضعفاء يأتون المنكرات ويفعلون الرذائل مختبئين بستائر الظلام؟!! لقد كان ينبغي أن يتحول هؤلاء الرجال إلى أنفسهم ويقفون وقفة صدق مع أنفسهم، فربما كان عدم اهتمامهم بالفقير هو الذي مهد طريق السقوط تحت قدميها، وبينما كان السيد المسيح صامتًا غارقًا في تفكيره استمروا يسألونه ويلحون في سؤالهم: موسى أوصانا في الناموس أن مثل هذه ترجم فماذا تقول أنت؟ وهنا ألقي السيد المسيح سلاح الصمت جانبًا وصوب إليهم جوابًا قاطعًا شبيهًا بقذيفة، قال لهم: هل تريدون أن تنفذوا الحكم فيها؟ تقدموا!! أتريدون أن تجلسوا على كراسي القضاء؟ تعالوا!! هل تلتهب قلوبكم شوقًا لرؤية الدماء وهي تنفجر من جراحها؟ ارجموها!! ولكن، من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر، وهنا سقطت الحجارة من أيديهم لأن أيديهم كانت تقطر دمًا!! وزاغت نظراتهم لأن عيونهم كانت ممتلئة بالزنى، وتركوا أماكنهم لأن الخزي غطى وجوههم، فانسحبوا واحدًا تلوَ الآخر، فالتفت المسيح إلى المرأة التي كانت محطمة من كل وجه أدبيًا واجتماعيًا ونفسيًا، وحرص السيد المسيح ألا يزيدها تحطيمًا فقال لها: أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟ فأجابت لا، قال لها المسيح ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي ثانية. لقد كان المجتمع اليهودي يتعامل بالعنف والقسوة مع النساء فها هو يطلب رجم الزانية دون المساس بالرجل ولكن السيد المسيح نظر إلى المرأة من الداخل فرأى ندم إنسان وضعفه، رأى توبة صادقة وانكسار قلب، لذا فهو أرجع المشكلة للرجل الظالم وقال من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر، ولم يدن المرأة بل غفر لها خطاياها وحررها وأقامها روحًا وجسدًا، وأعطى لها مكانتها الضائعة في عيون الناس، لقد تعاطف السيد المسيح مع الزناة بينما وبخ وبقوة الكتبة والفريسيين المراءين المتغطرسين وقال لهم ويل لكم لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة من الخارج تظهر للناس جميلة بينما من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، إن المسيح لم يمقت خطية مثل مقته للكبرياء والبر الذاتي، فخطية الكبرياء لا تقل عن خطية الزنى، وخطية الكذب، وخطية حب الظهور، وخطية تشويه سمعة الآخرين، وحب السلطة خطية، كذلك التكويش على المناصب خطية، والفساد الإداري خطية لا تقل عن الفساد الأخلاقي، فلماذا نتسامح مع الكذبة والمتكبرين والمتسلطين ومروجي الشائعات والنمامين بينما نسعى جاهدين وبكل قوانا لرجم الزناة؟!!
إن موقف المسيح من المرأة الزانية وتسامحه معها وغفرانه لها إنما يدعونا لإعطاء الفرصة الثانية لمن ارتكبوا هذه الخطية ليتوبوا ويعيشوا حياة طاهرة نقية، فمسيحنا هو مسيح الفرصة الثانية، فهل نحن فاعلون؟ هل نحن حقًا مسيحيون؟!!

القس رفعت فكري

قس إنجيلي بالكنيسة الإنجيلية المشيخية رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونية بالكنيسة الإنجيلية بمصر الأمين العام المشارك بمجلس كنائس الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى