الاختيار … المعنى والأسس الكتابية
الهدى 1248 مارس وأبريل 2023
يشرح جون ماك آرثر في تفسيره معنى الاختيار كالتالي: «نعلم أن الإختيار هو الفعل الإلهي الذي به – قبل تأسيس العالم – اختار الله في المسيح أولئك الذين بنعمته يلدهم من جديد ويخلصهم ويقدسهم» ويؤكد المعنى بالشواهد الكتابية التالية:
«وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ. لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً.» (رو8: 28 -30).
«كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ،» (أفسس 1: 4-11)
«وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ الرَّبِّ، أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ. (2تسالونيكي 2: 31) .
وجدير بالذكر أن الاختيار الإلهي للمؤمنين مبني على قضاء الله الحكيم والذي يشمل كل انسان على وجه الأرض مؤمن أو غير مؤمن، ولهذا فالإختيار جزء من هذا القضاء الحكيم.
عقيدة الاختيار الإلهي عقيدة أساسية في الكتاب المقدس، وهي من تعاليم كالفن المصلح ومن قبله القديس أوغسطينوس. وقد أخذت هذه القضية مساحة واسعة من الجدل الفكري المضني لدى الفلاسفة واللاهوتيين في عصر الإصلاح وحتى اليوم .
الإختيار الإلهي لشعب أو أمة أو أفراد نراه واضحا ومستمرا من آدم وحتى مجيء المسيح بالجسد على الأرض وما عمله لأجلنا على الصليب وحتى مجيئه ثانية.
ويبدو هذا واضحًا من دعوة خاصة من الله لإبراهيم (تك12: 1-2) ويستمر هذا الإختيار من ابراهيم إلى اسحاق ثم يعقوب إذ قيل عنه: «أحببت يعقوب وأبغضت عيسو» (ملاخي1: 2-3)، ثم يستمر هذا الإختيار لشعب اسرائيل كأمة، يقول الوحي عن هذا الشعب: «لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ، لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ» (تث7: 6-7).
ومع ذلك يستمر هذا الإختيار العجيب من الله لهذا الشعب الذي كثيرا ما انحرف عن شريعة الله المقدسة، حتى يصفهم إشعياء النبي بأنهم شعب معاند وصلب الرقبة (إش65: 2، رو10: 1-2)، يستمرهذا الإختيار لشعب اسرائيل كأمة ليخرج من نسلها «المسيح» الذي فيه تتبارك جميع أمم الأرض (تك12:3، تك22: 18)، ويخلص في يهوه أي في المسيح كل من اختاره الله في المسيح سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد (أفسس1: 4-5).
أسس الإختيار الإلهي والتعيين المسبق
أولا- مؤسس على النعمة المخلصة :
1- لأناس غير مستحقين أبدا « بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم (أي الخلاص والإيمان) هو عطية الله ….» (أف2: 8 انظر أيضا أف1:4-11)
2- مجانًا بلا مقابل من قبل الإنسان: «…. ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد»(أفسس2: 9) «الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّة» (2تي: 9)، (انظرأيضا تيطس3: 7). فهى النعمة المخلصة التي لا تباع ولا تشترى لا من المختار نفسه ولا من غيره، لأن المسيح بنعمته قد اشترانا بدمه المسفوك على الصليب (1كو6: 20)
3- لكي لا يبقى للإنسان أي مجال للإفتخاربأي أعمال -في سبيل خلاص نفسه – يتفضل بها على الله ، أو يكسر بها عينه إن جاز التعبير. وجدير بالذكر أن الإختيار الإلهي(التعيين المسبق) يسبق الإيمان لأن الإيمان في ذاته عطية من الله(أف2: 8)، كذلك يسبق (الإختيار) الولادة الجديدة إذ هى عمل الروح القدس في الخاطىء (يوحنا 3: 6-7).
4- لعجز الإنسان عن خلاص نفسه في كل محاولات البشر الفاشلة عبر التاريخ البشري بسبب الفساد الكلي الذي يعمل في كل كيان الإنسان النفسي والروحي وحتى الجسدي، حتى صار الإنسان ميتا روحيا وأدبيا، يؤكد هذه الحقيقة اختبار كل إنسان في أي بيئة وفي أي عصر، ويؤكده أيضاً الوحي المقدس بالقول: «وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا ….. ونحن أموات بالخطايا أحيانا المسيح» (أفسس2: 1-5)
ثانياً- الإختيار الإلهي (التعيين المسبق) مؤسس على سلطان الله:
«وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا: «إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ». فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَلَعَلَّ عِنْدَ اللهِ ظُلْمًا؟ حَاشَا! لأَنَّهُ يَقُولُ لِمُوسَى: «إِنِّي أَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ، وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ» فَإِذًا لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ وَلاَ لِمَنْ يَسْعَى، بَلْ للهِ الَّذِي يَرْحَمُ. لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ: «إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُنَادَى بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ». فَإِذًا هُوَ يَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَسِّي مَنْ يَشَاءُ. فَسَتَقُولُ لِي: «لِمَاذَا يَلُومُ بَعْدُ؟ لأَنْ مَنْ يُقَاوِمُ مَشِيئَتَهُ؟» بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟» أَمْ لَيْسَ لِلْخَزَّافِ سُلْطَانٌ عَلَى الطِّينِ، أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ؟ فَمَاذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ وَيُبَيِّنَ قُوَّتَهُ، احْتَمَلَ بِأَنَاةٍ كَثِيرَةٍ آنِيَةَ غَضَبٍ مُهَيَّأَةً لِلْهَلاَكِ.
وَلِكَيْ يُبَيِّنَ غِنَى مَجْدِهِ عَلَى آنِيَةِ رَحْمَةٍ قَدْ سَبَقَ فَأَعَدَّهَا لِلْمَجد» (رومية9: 10-23) .
فهل يليق أن نفضل ونمجد سلطان الإنسان على حساب سلطان الله، وكأن الله متفرج فقط على تصرفات البشر، يقول الوحي: « ولكن الله هو القاضي، هذا يضعه وهذا يرفعه» (مزمور75: 7) .
ثالثاً- الإختيار مؤسس بحسب حكمته ومسرة مشيئته الصالحة :
يقول الرسول بولس: «….لأن من يقاوم مشيئته» (رو9: 19)، الله- في اختياره وقضائه- له مشيئة صالحة وحكمة مقتدرة لا ندرك مداها وعمقها وأسراها نحن البشر المحدودون في العلم والمعرفة، حتى قال الرسول بولس: «يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! «لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ؟ أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيرًا؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟». لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ.» (رو11: 33-36)
يقول الوحي في سفر أيوب: ««أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟
هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟ أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَةِ، فَمَاذَا تَدْرِي؟ أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ، وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ.
إِنْ بَطَشَ أَوْ أَغْلَقَ أَوْ جَمَّعَ، فَمَنْ يَرُدُّهُ؟» (أي11: 7-10)، ويقول المرنم في المزامير «ما أعظم أعمالك يارب وأعمق جداً أفكارك. الرجل البليد لايعرف والجاهل لا يفهم هذا» (مز92: 5-6).
يُتبع.