عظاتعظات وتأملاتملفات دينية

اسمح الآن

الهدى 1240-1241                                                        فبراير ومارس 2022

يبدأ فصل معمودية السيد المسيح بمشهد كبير يتخلله مشهد أصغر حتى نأتي فيه إلى المشهد الثالث وهو قدس أقداس الفصل. فبحسب بشارة القديس متى نرى يوحنا المعمدان آتيًا في برية اليهودية يدعو إلى التوبة، ويكرز باقتراب ملكوت السموات.
يكتب «باركلي»: أن أحدهم وصف يوحنا بأنه «قد قفز إلى الحلبة قويًا، مسلحًا، وناضجًا لأنه لم يأت برسالة من عنده بل من عند الله» وكان ذلك خلال سنوات من الإعداد والتأهيل في البرية، حيث يظهر يوحنا في هذا المشهد بلباس مختلف، فنرى لباسه من وبر الإبل، ومنطقة من جلد تغطي حقويه، وأيضًا يؤكد الوحي على أنه حتى طعامه كان مختلفًا، حيث كان يأكل جرادًا وعسلًا بريًا. ويصور لنا المشهد كيف كان لرسالته تأثير حتى «خرج إليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالاردن واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم» (متى 3 : 5-6).
ويوضح «باركلي» أيضًا في هذا الجزء أن هذا الحدث يعتبر حدثًا تاريخيًا لم يحدث من قبل، لأن اليهود كانوا يعتقدون في ذلك الوقت أن المعمودية لا تنطبق عليهم لأنهم أبناء ابراهيم وليسوا خطاة، ولا يحتاجون إلى معمودية، بل أنها تنطبق على الدخلاء الذين يدخلون اليهودية من أديان أخرى. لذلك كان خروجهم بهذا الشكل كان غير طبيعي.
لكننا نرى أيضًا داخل هذا المشهد مشهدًا آخر ويبدأ بوصول يسوع إلى الأردن من الجليل طالبًا أن يعتمد من يوحنا. وينقل لنا متى بالروح القدس الحديث الذي دار بين يسوع ويوحنا المعمدان في هذا المشهد عند نهر الأردن على مرأى ومسمع جمع كبير من اليهود من فريسيين وصدوقيين وغيرهم ممن أتوا إلى معمودية يوحنا. وعندما نتأمل في هذا المشهد نجد ثلاثة أمور:
أولًا: طلبٌ غريب
حقًا ما أغرب هذا الطلب الذي طلبه يسوع من يوحنا! كيف يطلب أن يعتمد منه؟ ألم يكن يعلم أن هذه المعمودية التي كان ينادي بها يوحنا هى معمودية التوبة؟ أليس هو القدوس الكامل الذي بلا خطية وبلا شر؟ كيف؟ حتى أن يوحنا منعه قائلًا: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ!» نعم إنه طلب غريب لكننا نرى هنا إتضاع يسوع العالي «الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس»، وهو الذي قال أيضًا: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.» كما نرى أيضًا تضامنه مع الخطاة فنزل إلى مقامهم، ووقف في موقفهم، وانضم إلى صفوفهم طالبًا المعمودية مثلهم في حين أنه القدوس البار الذي «لم يعرف خطية.»
كما نرى أيضًا هنا كيف استقبل المعمدان هذا الطلب الغريب، فلم يخجل من عيون كل أورشليم واليهودية وقادتهم، والجمع العظيم الشاخصين إليه أن يعلن أمامهم أنه هو الذي يحتاج أن يعتمد من يسوع وليس العكس، وأنه أيضًا غير مستحق أن يحمل حذائه، أو أن يحل سيور حذائه. لكن العجيب أنه بعد إقراره بعدم إستحقاقه وتحت إلحاح السيد عليه أنه قبل المهمة باتضاع. وهكذا الأمر بالنسبة لنا كلما كنا أكثر قربًا من الله زاد احتياجنا إليه، وكلما تعلمنا منه. وأيضًا كلما كنا متضعين أمامه شهدنا له، وطلبنا مجده بجرأة بغض النظر عن كلام الناس ونظراتهم كما فعل المعمدان.
ثانيًا: قصدٌ عجيب
حيث أجاب يسوع يوحنا المعمدان قائلًا: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر.» وكأنه يوضح ليوحنا أنه ينبغي أن يتمم ناموس الله من خلال المعمودية، حيث أنه ولد تحت الناموس وكان لابد أن يكمله كإنسان ممثلًا لكل البشر. وأيضًا هناك خلفية تاريخية معروفة عند اليهود عن أمر الاغتسال بالماء، حيث كان يجب على الكهنة في بداية خدمتهم أن يتم غسلهم بالماء (خروج 29 : 4 – 7)، لذلك فكان يليق به كرئيس كهنة عظيم في بداية خدمته كإنسان في الجسد شابهنا في كل شيء أن يخضع لذلك الطقس بحسب الشريعة ليدخل خدمته من خلال المعمودية بالماء. وأيضًا ليمثل الخطاة الذين قد جاء خصيصًا لأجل خلاصهم، وليقدم نفسه كالقدوة والنموذج والمثال في التجاوب مع رسالة يوحنا ومعموديته.
لذلك فيجب على كل شخص مؤمن أن يتمثل بالمسيح في أن يُكمل كل برّ، وذلك من خلال إطاعة وصايا الله في حياته، وأيضًا أن يكون مستعدًا للتضحية وإنكار الذات، مقدمًا نفسه قدوة في كل شيء.
ثالثًا: مشهدٌ رهيب
وهنا نأتي إلى المشهد الثالث والذي يُعد بالفعل قدس أقداس هذا الجزء، حيث نجد أن المسيح فور نزوله إلى نهر الأردن ليعتمد، وعند صعوده من الماء أن «السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوت من السموات قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.»
وهنا كما نعلم نرى الثالوث الأقدس: الآب يعلن بنوة الابن الأزلية، والابن يعتمد من يوحنا ممثلًا للبشر في اتضاعه، والروح القدس نازلًا في هيئة حمامة (رمز السلام). ويوضح «باركلي» أيضًا أن الصوت الذي سمعه يسوع يتكون من اقتباسين من العهد القديم: الأول من (مزمور 22 : 7) «أنت ابني»، والاقتباس الثاني من (إشعياء 42 : 1) «الذي سرت به نفسي». وذلك فيه إعلانٌ قويٌ وواضحٌ أن يسوع هو الابن الحبيب الذي كان في حضن الآب منذ الأزل، وقد جاء لأجل الإنسان آخذًا صورة عبد، لكنه أشبع قلب الآب بحياة كاملة بلا خطية. وايضًا قد جاء هذا الإعلان مؤكدًا على شهادة يوحنا عنه أنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم، فلقد كان الحمل والتقدمة الكاملة التي لا يشوبها أي عيب.
وهكذا الأمر بالنسبة لنا أيها الأحباء فنحن أبناء الله بالتبني «لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع» (غلاطية 3 : 26). وأيضًا محبوبين منه «عالمين أيها الإخوة المحبوبون من الله اختياركم» (1تسالونيكي 1 : 4).
فهل نجتهد في أن نرضيه، وأن نشبع قلبه بحياتنا؟ هل نسعى أن نكمل كل برّ؟ فإذا اجتهدنا وسعينا أن نفعل ذلك فإن السموات ستنفتح لنا أيضًا لتعلن لنا مزيد من النور والحق الذي ينير كل جوانب حياتنا، وأيضًا سوف نسمع صوت الآب المحب فننعم بدفء محبته وأبوته، ونرى الابن في فدائه وخلاصه فنتحد به، وأيضًا الروح القدوس الذي يسكن في داخلنا لا يظل حزينًا بسبب خطايانا، فيقودنا، ويعزينا، ويرشدنا إلى جميع الحق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى