التجسد .. عقيدة وحياة
الهدى 1247 يناير وفبراير 2023
«أخلى نفسه».. كلمتان خالدتان نتذكرهما كلما تحدثنا عن «التجسد»، ويسمي الدارسون الجزء الذي كتبه الرسول بولس في رسالته إلى أهل فيلبي 2: 1- 11 «أنشودة الإخلاء»، وفي حقيقة الأمر لا يقصد الرسول بولس في هذا الجزء مجرد تقديم «عقيدة» فحسب، وإنما الحث أيضًا على «التطبيق»، بل أنه برهن في هذا الجزء الكتابي على «التطبيق» بـ»العقيدة»! كيف كان هذا؟!
يبدأ الرسول بولس في تقديم نصائح أبوية وذلك في (في2: 1- 4)، فيحث على أن نعظ (نشجع) بعضنا البعض، ونعزي بعضنا البعض، وأن تكون لنا أحشاء ورأفة، ونحقق الوحدة، ونقدم بعضنا البعض، ثم يمهد في عدد 5 لضرب المثل بتجسد المسيح كي نتجسد نحن لبعضنا البعض، فيقول في عدد 5: «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً»، ثم يقدم في الأعداد من 6- 11 النموذج الأعظم وللإخلاء والتجسد، وهو نموذج المسيح يسوع، وفي الأعداد من 6- 8 يتحدث عن سُلم الإخلاء والاتضاع، وفي الأعداد من 9- 11 عن سُلم المجد والارتفاع.
بولس نفسه الذي يتحدث عن «التجسد» كعقيدة وحياة، حقق «التجسد» من داخل السجن»! كيف؟ من المعروف أن بولس الرسول يحمل جنسيتين: يهودية، رومانية. وفي (أع16: 16- 40) كان بولس قد دخل السجن هو وسيلا، وكانت الجنسية الرومانية لبولس كارت رابح يمنع من دخوله السجن إذا رفعه في وجه مقاوميه، لكنه دخل السجن (تجسَّد إن جاز التعبير)، ومن خلال هذا التجسَّد المُصغر كانا بولس وسيلا سبب بركة لمن بداخل السجن، بل حتى للسجَّان الذي آمن واعتمد، يقول البشير لوقا: «وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ. فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ» (أع16: 32- 34). متى أخرج الرسول بولس كارت الجنسية الرومانية؟ بعد أن أنجز المهمة، فقال الرسول بولس للدفاع عن نفسه في ختام الأمر: «ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ وَأَلْقَوْنَا فِي السِّجْنِ – أَفَالآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا» (أع16: 37)، والنتيجة «أَخْبَرَ الْجَلاَّدُونَ الْوُلاَةَ بِهَذَا الْكَلاَمِ، فَاخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ. فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ الْمَدِينَةِ. فَخَرَجَا مِنَ السِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ فَأَبْصَرَا الإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا» (أع16: 38- 40).
وفي السطور القليلة القادمة سأتحدث عن التطبيق العملي للتجسد في النقاط التي ذكرها الرسول بولس (في2: 1- 4)، لأني أعلم جيدًا أنك –عزيزي القارئ- ستجد بهذا العدد مقالات من الأحباء ستغطي التجسد كعقيدة، ركز الرسول بولس على نقاط لأهل فيلبي، وهي:
1. الوعظ (التشجيع): «فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ» (في2: 1أ). كلمة «وعظ» المستخدمة هنا تعني «تشجيع» أو «نصح»، فعندما تكون شوكة باليد اليسرى، تكون اليد اليمنى هي المعينة في إخراج تلك الشوكة، والعكس صحيح، فحينما يتجسد الواحد للآخر يكون مشجعًا وداعمًا له، ناصحًا له بروح الحب، لذلك فهي دعوة ليست فقط بالانبهار بتجسد المسيح، لكن بممارسة هذا التجسد لبعضنا البعض في المسيح.
2. التسلية (التعزية): «إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ» (في2: 1ب). تتردد هذه الآية كثيرًا في الرحلات، أو الحفلات بالكنيسة، أو تجدها عنوانًا لكتاب مسابقات مسيحية! وفي الحقيقة ليس هذا هو المعنى المقصود من كلمة «تسلية»، فكلمة «تسلية» من الفعل «يسلو» أو «يسلا»، أي: ينسى، (مثل كلمات الترنيمة التي تقول: نفسي لا تسلاك يا سيدي «أي: لا تنساك»)، كذلك كما يقول الشاعر محمود سامي البارودي:
أين أيام لذتي وشبابي.. أتراها تعود بعد الغياب؟!
كل شيء يسلوه ذو اللب.. إلا ماضي اللهو في زمان الشباب.
إذا ماذا تعني هنا؟ تعني هنا: «تعزية» أو «راحة» أو «سلوان»، بمعنى: تجعله ينسى همه وأتعابه، لكن كثرة تداول كلمة «تسلية» بالمعنى المتعارف عليه -ذلك لأن اللغة كائن حي يتطور – رسَّخت في أذهاننا معنى اللهو أو قضاء وقت الفراغ، تمامًا مثل كلمة «دبابات» في الآية: «فَعَمِلَ اللهُ وُحُوشَ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا وَالْبَهَائِمَ كَأَجْنَاسِهَا وَجَمِيعَ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. وَرَأَى اللهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ» (تك 1: 25)، فما يأتي للذهن «الدبابات الحربية»، ولكن هنا تعني: «الحيوانات كبيرة الحجم» كالديناصور مثلاً.
آيات أخرى تبرهن على هذا: «وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيُكَلِّمُ النَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ» (1 كو 14: 3)، «… هَؤُلاَءِ هُمْ وَحْدَهُمُ الْعَامِلُونَ مَعِي لِمَلَكُوتِ اللهِ، الَّذِينَ صَارُوا لِي تَسْلِيَةً» (كو 4: 11).
3. الشركة (الوحدة): «إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ» (في2: 1ج)، وكل ما ذكره بولس في الأعداد 2- 4 هو شرح تفصيلي لتحقيق الوحدة، حيث يقول: «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْراً وَاحِداً وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئاً وَاحِداً، لاَ شَيْئاً بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضاً» (في2: 2- 4)، شبه لبيب مشرقي ذلك بمائدة فخمة بها أشهى المأكولات، ولكن كل واحد قدامه ملعقة طويلة جدًا، وبالتالي لن يستطع أحد أن يأكل، والحل الوحيد هو أن يُطْعِم كل واحدٌ -بملعقته الشخصية- أخوه الذي أمامه!
4. العواطف: «إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ» (في2: 1د)، والمقصود منها رحمة وتسامح وغفران تجاه بعضنا البعض، وهذه دعوة للخروج من الذات، كما أخلى هو نفسه لأجل الإنسان، فلن تسود روح الحب وسط أشخاص لسان الواحد فيهم كقايين الذي قال: «أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» (تك4: 9)، أو كعيسو الذي قال: «قَرُبَتْ أَيَّامُ مَنَاحَةِ أَبِي فَأَقْتُلُ يَعْقُوبَ أَخِي» (تك27: 41).
التشجيع، التعزية، الشركة (الوحدة)، العواطف (أحشاء الرأفة).. كل هذا يجعلنا نعيش السماء على الأرض، أحبائي.. إن «التجسُّدْ» عقيدة تقود لحياة، وكل تجسد نحققه كأفراد أو تحققه الكنيسة بالمجتمع هو مجرد تجسد باهت للنموذج الأكمل وهو «تَجَسُّدْ المسيح»، ما أحوج المجتمع إلينا ككنيسة متجسدة غير منغلقة، إنها دعوة للتجسد!