يوحنا المعمدان
الهدى 1222 يوليو وأغسطس 2020
انتهيتُ من قراءة كتاب John the Baptist لجول ماركوس Joel Marcus ، والصادر في سنة 2018 عن دار نشر The University of South Carolina Press. ماركوس هو أستاذ العهد الجديد في جامعة ديوك بأمريكا، وله عدة دراسات مهمة، أهمها تفسيره الرائع والضخم لإنجيل مرقس ضمن سلسلة The Anchor Yale Bible..
من أهم مميزات هذا الكتاب، برأيي، موسوعيته، فهو يعرض أهمية يوحنا المعمدان في كتابات المؤرخ اليهودي الشهير يوسيفوس (37–100م)، وفي العهد الجديد (الأناجيل وأعمال الرسل)، وفي الإسلام (يحيى بن زكريا)، وعند الصابئة [في كتابه «إبراهيم أبو الأنبياء،» كتب عنهم عباس العقاد فصلًا وأوضح أنّه يسمى عندهم «يحيى المغتسل»]. يثيرُ كتاب ماركوس عن المعمدان الكثير من الموضوعات المهمة، أحاول التركيز هنا على بعضها.
ينطلق هذا الكتاب من احتمالية أنَّ يوحنا المعمدان كان عضوًا في جماعة قمران/الأسينيين. التشابهات بينه وبينها كثيرة: بحسب لوقا 1–2، هو من أسرة كهنوتية وجماعة قمران كان يقودها كهنة، خدمته كانت قرب مكان عيشهم في وادي قمران ببرية يهوذا [عبارة «كان في البراري،» في لوقا 1: 80 مهمة هنا]، والغسلات الطقسية/المعمودية كانت ضرورة لازمة عند كليهما، محورية نص إشعياء 40: 3 «صوت صارخ في البرية،» ونص إشعياء 59 : 5 «فقسوا بيض أفعى،» لم يرد في الكتابات اليهودية إلا في مخطوطات البحر الميت كما يرد على فم المعمدان «يا أولاد الأفاعي» في Q (متى 3: 7؛ لوقا 3: 7). بالطبع هناك اختلافات بين المعمدان وجماعة قمران، معموديته كانت مرة واحدة وحاسمة وهو الذي يُعمِّدُ الناس، بينما كانت الغسلات في قمران متكررة وذاتية. ملابسه الخشنة، «وبر الإبل،» تختلف عن ممارسات جماعة قمران التي كانت ترى أنها ملابس غير شرعية، لأن «الجمل،» من الحيوانات النجسة بحسب الشريعة (لاويين 11: 4). الاختلافات مع قمران لا تعني أنه لم يكن عضوًا بها، بل تشير إلى أنه كان عضوًا سابقًا لكنه تبنى توجهات مختلفة عنهم. ترك المعمدان هذه الجماعة، شديدة التطرف وبالغة التشدد، لأنه تبنى موقفًا أكثر انفتاحًا تجاه بقية اليهود بل وتجاه الأمم. وهو ما يمكن استنباطه من كلامه عن قدرة الله أن يُخرج من الحجارة «أولادًا إبراهيم،» في Q (متى 3: 9؛ لوقا 3 : 8). لا يستبعد ماركوس أن يكون المعمدان تاريخيًا قد رأى في نفسه القائم بدور إيليا الذي تنبأ ملاخي عن عودته قبل مجيء الرب (ملاخي 3: 1؛ 4: 5). ملابسه شبيهة بملابس إيليا (مرقس 1: 6، و2ملوك 1: 8)، مواجهته لزواج الملك هيرودس بهيروديا يشبه مواجهة إيليا لآخاب وزواجه من إيزابل الوثنية. يستنتج ماركوس من كلِّ هذا أنَّ المعمدان ترك جماعة قمران بعد صدام مع «معلم البر،» قائد الجماعة، لأنه آمن أنه إيليا الثاني أو معلم البر.
بعد أن نظر ماركوس للخلف، علاقة المعمدان بقمران وبإيليا، وعرض نظرياتٍ كثيرة عن معموديته ومعناها، ينظر للأمام، لعلاقة المعمدان بيسوع، وهو فصل شائك. وجهة نظر ماركوس أنَّ الفهم المسيحي حصر أهمية المعمدان لا في ذاته، بل في علاقته بيسوع. تدل على هذا لوحةُ إيسنهايم الضخمة بفرنسا Isenheim Altarpiece، جزء منها على غلاف الكتاب، حيث يُرسم يوحنا واقفًا أمام الصليب ويشير بإصبعٍ، مرسومة عن قصدٍ بضخامة غير عادية، ليسوع. يؤكد ماركوس في نهاية تحليله أنَّ وجهة نظر المعمدان عن يسوع قد تطورت من النظر له على أنه تلميذ وهو ما تعبر عنه العبارة اليونانية «يأتي بعدي/ورائي ὀπίσω μου)) من هو أقوى مني» (مر 1: 7) التي تشيرُ إلى ما هو أبعد من مجرد تتابع زمني، تشيرُ لتبعية التلميذ لمعلمه (مر 1: 17؛ 8: 33) وتعبر عنه معمودية يسوع على يديه. ثم توقع المعمدان أن يكون يسوع على مثال أليشع، تلميذ إيليا الذي أخذ نصيب اثنين من روحه وصنع ضعف معجزاته (2ملوك 2 : 9).
يرى ماركوس أنَّ هذه الحقيقة لا تقلل من يسوع بل تؤكد وتبرهن على صدق حقيقة الإيمان أنَّ يسوع، كان إنسانًا كاملًا، كما كان إلهًا كاملًا [مثلما نؤمن أنّه ابن الله، لكنه أيضًا ابن مريم الذي كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة]. ثم لاحقًا، رأى المعمدان احتمالية أن يكون يسوع هو المسيا الذي كان يشهد عنه، حين أرسل من سجنه يسأل يسوع إذا كان هو الآتي أم لا (متى 11 : 3؛ لوقا 7: 19).
الحديث عن سجن المعمدان يأتي بنا لعلاقته بالحاكم، هيرودس أنتيباس. على مثال ناثان النبي الذي واجه داود حين زنا مع بثشبع، وعلى مثال إيليا النبي ونقده لآخاب الملك وزوجته الوثنية، نقد يوحنا المعمدان الملك هيرودس أنتيباس وزواجه غير الشرعي بهيروديا، زوجة أخيه. كان هيرودس متزوجًا بابنة ملك العرب الأنباط، أريتاس الرابع، وهربت الأميرة إلى أبيها في البتراء سنة 27 م حين عرفت نية هيرودس أن يطلقها ليتزوج هيروديا. في هذه الأثناء ظهر صوتُ يوحنا الجريء والمدوي ومثال ونموذج قول الحق دون خوفٍ من سلطة ولا من موتٍ، «لا يَحِلُّ أنْ تكون لك» (متى 14: 4). كانت نتيجة هذا الزواج هزيمة هيرودس على يد أريتاس في حربٍ شنها عليه ثأرًا لابنته في سنة 36 م، الهزيمة التي اعتبرها يوسيفوس ردًا وانتقامًا إلهيًا على قتل هيرودس ليوحنا المعمدان (الآثار اليهودية 18: 116).
في نهاية عرض الكتاب، أذكر شهادة المسيح نفسه عن المعمدان، «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبةَ تحركها الريح؟ بل ماذا خرجتم لتنظروا؟ أإنسانًا لابسًا ثبابًا ناعمة؟ بل ماذا خرجتم لتنظروا أنبيًا؟ نعم، وأفضل من نبي» (لوقا 7 : 24–26).