دراساتدراسات كتابية

الحياة في نور الأبدية

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

لعل أبرز ما ينطق به الإنسان على الإطلاق هو ما يصدر عنه في نهاية الحياة أو أثناء احتضاره! قد نجد أحدهم يُوصي أبناءه أن يُحب أحدُهم الآخر طالما كانوا على قيد الحياة، وقد نرى غنيًا يأمر بتقسيم تركته بشكل مُعيَّن، وقد تطلب زوجة من رجلها الاهتمام بأبنائها بشكلٍ ترضاه لهم … إلخ. إنّ الحياة في نور الأبديّة تُغيِّر الأهداف والأولويات، وغالبًا ما تُجبر الإنسان على ترتيب الأمور بشكل مختلف؛ الأكثر أهميّة فالمهم فالأقل أهميّة.

ولا يشذ رجالُ الكتاب المقدّس عن هذه القاعدة؛ فعبر صفحات الكتاب نرى اهتمام إبراهيم بمسألة زواج ابنه المفضَّل ووارث العهد؛ إسحاق، ونلاحظ اهتمام مُوسى بتحفيظ شعب إسرائيل أنشودة غرضها أن يحفظ إسرائيل وحدانية الله من بعد رحيله، كما يُدهِشنا اهتمام يشوع بمحاولة وضع إسرائيل على طريق طاعة وصايا الرب وحفظ الشـريعة التي أُعطيت عن يد مُوسى النّبي، ونلتقي مع داود وهو يُوصي ابنه سليمان أن يستمر في عبادة الرب بكل قلبه «وَأَنْتَ يَا سُلَيْمَانُ ابْنِي اعْرِفْ إِلَهَ أَبِيكَ وَاعْبُدْهُ بِقَلْبٍ كَامِلٍ وَنَفْسٍ رَاغِبَة» (أخبار الأيام الأوّل ٢٨: ٩)، وأن يبذل قصارى جهده من أجل بناء الهيكل ليكون بيتًا للرب الإله. وفي العهد الجديد نلتقي مع الرسول بولس الذي يكتب إلى تلميذه تيموثاوس محرضًا إياه على حفظ رسالة الإنجيل نقيّة بلا أيّة شوائب أو رتوش، حاثًا إياه أن يحمل هذه البشارة للجميع بلا خجل أو حساب للعواقب. وفوق الكل وقبل الكل، نقرأ في البشائر الأربع حديث الرحيل والصلاة الكهنوتية التي رفعها الرب يسوع من أجل تلاميذه قُبيل صلبه وقيامته (يوحنا ١٣-١٧)، كما نقرأ الكلمات السّبع للمسيح على الصليب، وأخيرً الدعوة للإرسالية العُظمى قُبيل صعود الابن المبارك إلى الآب (متّى ٢٨: ١٨-٢٠).

ولقد اعتاد المسيحيون الكتابيّون أن يردِّدوا هذا القول المشهور «يُولد كل إنسان لكي يعيش، أما المسيح وحده فهو الذي وُلد لكي يموت»، في دلالة توضّح التفرُّد والفارق الكامل بين المسيح من جهة وسائر البشر من جهة ثانية. فهل هذا هو الفارق الوحيد الذي يُميّز المسيح عنّا؟ الحقيقة أن بشارة يوحنا تكشف لنا أن يسوع المسيح عاش حياته كلها في نورِ الأبديّة، إذ ألقت إرساليته من قبِل الآب بظلالها على رؤيته السّامية لأهدافه المقدسة ولحياته المعصومة ولموته الكفاري والنّيابيّ. سأركّز هنا على بشارة يوحنا وبالذات الفصول ١٣-١٧ التي تكشف لنا الكثير في هذا الصّدد، وفي هذا المقال القصير سوف أضع أمام القارئ العزيز بعضًا من الفوارق الضخمة التي تميَّز بها المسيح عن سائر البشـر. هذه الفوارق التي كان سبب وجودها هو الحياة في نور الأبديّة.

  1. الوجود السّابق للمسيح The Pre-existence of Christ

لم يأتِ المسيح إلى الوجود عند ولادته؛ إذ هو الأقنوم الثاني في اللاهوت الإلهي. إنه أزلي (موجود أزلاً قبل كل الأزمنة). ويتحدّث الرسول يوحنا بإسهاب عن ليلة عيد الفصح الأخير الذي حضـره المسيح المتجسِّد مع تلاميذه حيث تناول معهم العشاء الأخير. كانت هذه هي الليلة العصيبة التي قضاها المسيح مع التلاميذ قبيل صلبه مباشرة. في هذه اللّيلة كشف المسيح عن مكنونات قلبه لتلاميذه. كلَّمهم عن محبة الآب السماوي، وعن مؤازرة الروح القدس، وعن ضرورة توقع الاضطهاد من العالم، وعن أهمية ممارسة المحبة والاتضاع وتقديم بعضهم بعضًا في الكرامة… إلخ.

ويكتب لنا يوحنّا عن وجود المسيح أزلاً قائلاً: «يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي، قام عن العشاء» (يوحنا ١٣: ٣، ٤أ). إن البشير لا يُكلّمنا هنا عن الله الآب باعتباره مانح الحياة ليسوع كما منحها -ويمنحها- لكل المولودين من البشـر، بل يُكلمنا عن يسوع باعتباره كان موجودًا مع الآب قبل تجسُّده، واستمر الابن واحدًا مع الآب حتى في وقت تجسُده «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاء» (يوحنا ٣: ١٣)، وسينتهي به الأمر إلى رجوعه إلى الآب بعد إتمامه مهمة خلاصنا بعد صلبه وقيامته «وَإِلَى اللَّهِ يَمْضـِي» (يوحنا ١٣: ٣).

أليس هذا من قاله يوحنا في افتتاحيّة بشارته عن الوجود السّابق للمسيح؟ «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَان» (يوحنا ١: ١-٣). لقد عرف المسيح يقينًا حقيقة كونه واحدًا مع الآب في الجوهر فكلّمهم عن مكنونات قلب الآب المحب، وقدّم لهم الوعود باسم أبيه القدوس الصالح. كان يسوع قد عرف رسالته التي جاء من أجل تتميمها على أرضنا وقد علّم تلاميذه الكثير عن هذه الرسالة، وأخيرًا صلّى شفيعًا عند الآب من أجل تلاميذه ومن أجل أجيال المؤمنين الذين آمنوا بما علّم به الرسل. هذا التعليم وتلك البشارة التي تتلخّص في طبيعة يسوع الإلهيّة وعمله الكفاري والنيابي والمُخلِّص: «فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ، الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً … لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ. قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ، يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ، أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ. اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ. أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ. الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَال .. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَطْلُبُونَ بِاسْمِي. وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ. خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضاً أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآب .. لأَنَّ الْكَلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي» (يوحنا ١٣: ٣١-٣٢؛ ١٤: ٧-١٠، ١٦: ٢٦-٢٨؛ ١٧: ٨).

ويشترك الرسول بولس مع الحبيب يوحنا في إيمانه بالمسيح باعتباره الخالق والفادي، وهو ما يُؤكّد عقيدة الوجود السابق للمسيح «الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللَّهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَة. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلّ .. وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى الأَرْضِ أَمْ مَا فِي السَّمَاوَات» (كولوسي ١: ١٥-١٧). بالإجمال، عرف يسوع هويّة مُرسِله؛ الآب السماوي، وكان مستعدًا كل الاستعداد لفعل كل ما يرضي الآب السماوي في كل شيء.

  1. كان المسيح عارفًا مسبقًا وبالكليّة بموته مصلوبًا وبكل شيء آخر Omniscience

يشترك البشير يوحنا مع سائر البشيرين الآخرين في التأكيد على معرفة المسيح المسبقة بكل شيء. كتب البشير متّى قائلاً: «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ، لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُم» (٩: ٤)، وكتب البشير مرقس «فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ، كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُت» (١٢: ٢٥)، أما البشير لوقا فقد ذكر لنا حادثة غريبة تدل على معرفة المسيح المطلقة بالزمان والمكان والأشخاص والضمائر «وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً، اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ. فَقَالاَ لَهُ، أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدّ؟ فَقَالَ لَهُمَا، إِذَا دَخَلْتُمَا الْمَدِينَةَ يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اِتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، وَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ، يَقُولُ لَكَ الْمُعَلِّمُ، أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي. فَذَاكَ يُرِيكُمَا عُلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً. هُنَاكَ أَعِدَّا. فَانْطَلَقَا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدَّا الْفِصْح» (لوقا ٢٢: ٩-١٣). هذه الأمثلة على معرفة يسوع المطلقة هي غيض من فيض.

وفي بشارة يوحنا نلتقي مع المزيد من هذا التأكيد على معرفة المسيح بكل شيء. فطالما أن المسيح هو الله الظاهر في الجسد فلا غرابة إذن في معرفته بضمائر الناس وبمكنونات أفكارهم وأسرارهم. فمن بداية البشارة نقرأ عن يسوع الذي استقبل نثنائيل لأول مرة: «وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ، هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ. قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ، مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ، قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ، رَأَيْتُكَ. فَقَالَ نَثَنَائِيلُ، يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ. أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ. أَجَابَ يَسُوعُ، هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَة؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا. وَقَالَ لَهُ، الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَان» (١: ٤٧-٥١)، وتنبّأ يسوع مُسبقًا بموته وقيامته: «أَجَابَ يَسُوعُ، انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. فَقَالَ الْيَهُودُ، فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ. وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوع» (٢: ١٩-٢٢)، وقد عرف يسوع ماضي المرأة السامرية وحاضرها دون أن يكونا قد تقابلا من قبل: «قَالَ لَهَا يَسُوعُ، اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ، لَيْسَ لِي زَوْجٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ، حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ. قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ، يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيّ» (٤: ١٦-١٩)، وعلِم يسوع بنِيّة الشعب الذين أرادوا أن «يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، فانْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَه» (٦: ١٥)، وعلِم يسوع في نفسه أن بعضًا من تعاليمه يُعثر التلاميذ وأن بعضًا منهم سيرفض الإيمان به، فقال لهم: «فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تَلاَمِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ، أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ. فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً. اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الْجَسَدُ فَلاَ يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ، وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُه» (٦: ٦١-٦٤)، وفي الفصل الثاني عشـر تنبأ يسوع بموته أمام بعض اليونانيين الذين جاءوا ليسجدوا في أورشليم في العيد، فقال: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّة .. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ. أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَة» (١٢: ٢٤-٢٥، ٢٧)، والأمثلة على سابق معرفته على طول البشارة لا تقع تحت حصر.

أما في الفصول موضوع دراستنا فيقول البشير إنّ يسوع تنبّأ بخيانة يهوذا الإسخريوطي الذي صار مسلمًا له (١٣: ١٠، ١٨-١٩)، كما تنبّأ عن إنكار بطرس له ثلاث مرات قبل فجر اليوم التالي (١٣: ٣٦-٣٨)، وتنبّأ عن اضطهاد العالم لتلاميذه الذين سيحملون بشارة الإنجيل بعد صعوده (١٥: ١٨-٢٥؛ ١٦: ١-٤)، وتنبّأ عن حلول الروح القدس على التلاميذ ليقوم بمهامه المقدسة في تبكيت العالم الشرير على خطية رفض الإيمان بالمسيح، وعلى برٍ قد رُفض ومضى هو بر المسيح، وعلى دينونة إبليس؛ رئيس هذا العالم. قال يوحنا عن المسيح عِدّة مرات، إنه «علم من البدء»، وفي هذه الفصول الثلاثة تتكرّر الأقوال التي مُفادها: «أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُو» (١٣: ١٩)، «وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُون» (١٤: ٢٩). بالإجمال، لم يُفاجئ يسوع بالأحداث التي كانت ستأتي عليه، بل كان عالمًا يقينًا بكأس الآلام التي سيتجرعها عن البشر وبكل أهوال دينونة الله التي ستنصب على رأسه الجليل، ورغم ذلك فقد قبِل هذه الكأس من يد الآب طائعًا ومختارًا.

  1. المسيح الموجود سابقًا والعارف بكل شيء وُلد لكي يموت عنا Our Redeemer

لقد وُلد المسيح لكي يموت عنا وكان دافعه في هذا الموت النيابي عِدّة أسباب. فأولًا، كان موت المسيح النيابي عنا بسبب رغبة ابن الله في أن يمجِّد أباه الصالح، إذ بموته كان سيجلب أبناءً كثيرين إلى الآب. قال يسوع للآب في صلاته: «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُه» (يوحنا ١٧: ٤). ثم ثانيًا لأن موت المسيح كان تمجيدًا إضافيًا Extra, Bonus للمسيح يُضاف إلى مجده الأزلي الكامل: «فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوعُ، الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً» (١٣: ٣١-٣٢). وثالثًا، كان موتُه تعبيرًا، بل برهانًا على محبة الابن للبشـر: «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى .. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي» (يوحنا ١٣: ١، ١٥: ١٣-١٤أ). أما رابعًا فقد كان موته ضرورة لتطهير الكثيرين من خطاياهم لنوال المجد الأبدي: «قَالَ لَهُ يَسُوعُ، الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّه .. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِد» (يوحنا ١٣: ١٠؛ ١٧: ٢٢). من اللافت للنظر أن دارسي العهد الجديد يُقسّمون بشارة يوحنا عادة إلى قسميْن؛ القسم الأوّل يُسمّونه «كتاب المعجزات أو الآيات» (يوحنا ص ١- ص١٢)، أما القسم الثاني فيدعونه «كتاب المجد» وهو القسم المتعلّق بموت يسوع وقيامته (يوحنا ص ١٣- ص ٢١). كان موت المسيح سببًا لتمجيده. قال يسوع: «أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ، مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً.. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ. قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوت» (يوحنا ١٢: ٢٨-٣٣). أليس مدهشًا أن يرتبط مجدُ الآب ومجدُ الابن، بل ومجدُ التلاميذ وسائر المؤمنين بصليب المسيح وقيامته؟! بالإجمال، لقد عرف يسوع رسالته الهادفة إلى خلاص البشر وأسلم نفسه طوعًا واختيارًا لتميم هذا الخلاص.

  1. المسيح الذي مات عنا يمنحنا الحياة الأبدية The Giver of Eternal Life

تشغل الحياة الأبدية مساحة كبيرة في ذهن الحبيب يوحنا، فالمسيح «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاس» (١: ٤)، وقد رُفع المسيح على الصليب «لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّة» (٣: ١٥)، والحياة الأبدية برهانٌ راسخ ودليلٌ قاطع على محبة الله الآب للبشـر «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّة» (٣: ١٦)، وشرط نوال هذه الحياة هو أن نسمع -أي أن نخضع- لكلام ابن الله ونؤمن بأبيه السماوي «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاة» (٥: ٢٤)، فالمسيح هو «خُبْزُ الْحَيَاةِ. .. هَذَا هُوَ الْخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ. أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَد» (٦: ٤٨-٥١)، والحياة الأبدية مصدرها يسوع وحده ولا يوجد من يؤمِّنها للبشـر سواه «فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَب؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَك» (٦: ٦٨)، والمسيح بالنسبة لمن تبعوه هو نور الحياة «ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً، أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشـِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاة» (٨: ١٢)، وهو أيضًا «الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَد» (١٢: ٢٥-٢٦)، وأخيرًا وليس آخرًا، هو «الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (١٤: ٦). إن كل من يرفض الإيمان بالآب والابن يحرم نفسه من الحياة الأبدية «تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ، أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً، إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ، أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَه» (١٧: ١-٣).

ترجع أهليّة مخلِّصنا في منح الحياة الأبدية إلى سببيْن. أولهما، لكونه شريكًا للآب في المجد منذ الأزل: «قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ، يَا سَيِّدُ، أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا. قَالَ لَهُ يَسُوعُ، أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ. اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ. أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ. الْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسـِي، لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيّ» (١٤: ٨-١١أ)، وثانيهما لكون الابن المبارك هو حمل الله الذي قبِل أن يَرفع -وحده دون سواه-، خطية العالم «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي» (١٦: ٣٢). بالإجمال، لقد عرف يسوع خاصته الذين في العالم. لقد أحبهم واشتراهم بدمه لكي يمنحهم الحياة الأبدية، وتجاوبًا مع هذا العمل الفدائي الثمين سيقضي المفديون الأبديةَ، ما طالت، مُسبِّحين مع ربوات من الملائكة القديسين هذا الحمل المعبود الذي يشارك اللهَ الآب في عرشه السماوي: «وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ، مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلَهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى الأَرْضِ. وَنَظَرْتُ وَسَمِعْتُ صَوْتَ مَلاَئِكَةٍ كَثِيرِينَ حَوْلَ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ رَبَوَاتِ رَبَوَاتٍ وَأُلُوفَ أُلُوفٍ، قَائِلِينَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ. وَكُلُّ خَلِيقَةٍ مِمَّا فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ وَتَحْتَ الأَرْضِ، وَمَا عَلَى الْبَحْرِ، كُلُّ مَا فِيهَا، سَمِعْتُهَا قَائِلَةً، لِلْجَالِسِ عَلَى الْعَرْشِ وَلِلْحَمَلِ الْبَرَكَةُ وَالْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِين» (رؤيا يوحنا ٥: ٩-١٣).

يا لها من نوعية حياة تلك التي عاشها مخلِّصنا أثناء تجسُّده على الأرض! إنها حقًا الحياة في نور الأبديّة.

القس أشرف شوق بشاي

* تخرج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة عام 1998م،
* وفي كليّة الحقوق جامعة القاهرة في 2005م،
* حصل على ماجستير في تاريخ الكنيسة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة 2012م،
* ثم ماجستير الدراسات الكتابية من بنسلفانيا عام ٢٠١٥م،
* وهو الأن يدرس الدكتوراه في فيرجينيا بالولايات المتحدة.
* ظلَّ يرعى الكنيسة الإنجيليّة في المعادي لمدة 12 سنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى