دراساتدراسات كتابية

أنت بطرس وعلى هذه الصخرة ابني كنيستي

الهدى 1250-1251                                                                                                          يوليو وأغسطس 2023

في قيصرية فيلبُّس، أجاب بطرس على سؤال المسيح «مَنْ يقول النَّاس أنِّي أنا ابْنُ الإنسان؟!» بقوله، «أنْتَ هو المسيح ابنُ الله الحي» (متى 16:16). حينئذ رد المسيح على اعتراف ايمان بطرس بالقول: «طوبى لكَ يا سمعان بن يونا إنَّ لحماً ودماً لم يُعْلن لَكَ، لكِنْ أبي الذي في السَّموات» (متى 17:16). ثم، أضاف المسيح قولاً مفصليا اختلف على تفسيره المُصلِحون الإنجيليون والكنيسة الكاثوليكية مُنذُ القرن السادس عشر. هذا القول هو: «وأنا أقولُ لَكَ أيضاً، أنْتَ بطرس وعلى هذه الصَّخْرَة أبني كنيستي، وأبوابُ الجَحيم لَنْ تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح ملكوت السَّموات». (متى 16: 18و19).
السؤال الذي طَرَحَه المُصلِحون الإنجيليون هو: كيف نُفَسِّر قول المسيح: «أنْتَ بطرس وعلى هذه الصَّخْرَة أبني كنيستي»؟ مَا هي تلك الصَّخْرَة، هَلْ شَخْص بطرس؟ أمْ اعتراف ايمانه؟ وهَلْ يبني المسيح كنيسته على شَخْص بطرس، أمْ على اعتراف الإيمان الذي أعْلَنَه بطرس «بأنَّ المسيح هو ابْن الله الحي؟» وهل أعطى المسيح مفاتيح ملكوت السموات لشَخْص بطرس، أمْ لكلِّ مَنْ يَعْترف، باعتراف إيمان بطرس؟
اعتقد المُصلِحون الإنجيليون أنَّ المسيح لا يبني كنيسته على أشْخاص، مهما كانت قداستهم، بَلْ على اعترافات إيمان، مُفَسِّرين أنَّ الصَّخْرَة التي يبني المسيح كنيسته عليها، ليسَت شَخْص بطرس، وإنَّما اعْتراف إيمانه الذي لَمْ ينطِق به بلَحْمِه ودَمِه، إنَّما بروح الآب الذي في السموات. فالأشْخاص يضعفون ويُخطئون، ولا يُمكِن الاعتماد علَيْهم في إرساء الأسُس الرَّاسِخَة والمَتينَة والصَّلْبَة للكنيسة. وبالتالي، لا يمكِن أنْ يكون أساس بناء الكنيسة شَخْص بطرس، لا سيما أنَّ إنجيل متَّى يُخْبرنا في الإصحاح نَفْسه، أنَّه مُباشرةً، وبعد اعتراف الإيمان، وبينما كان المسيح يُخْبِّر تلاميذه بأنَّه سيتألَّم ويُقْتَل، فان بطرس أخذ المسيح وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: َحاشاك يا رب . لا يكون لك هذا. فالتفت المسيح وقال لبطرس: «إذْهَب عنِّي يا شيطان. أنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي لأنَّك لا تَهْتَمُّ بما لله، لَكِنْ بِما للنَّاس» (متى 16: 23).
اتَّخَذَت الكنيسة الكاثوليكية من قَوْل المسيح: «وأنا أقول لك أيضاً، أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي «. (متى 16: 18). ليكون نَصَّاً أساسياً لتأسيس مفهوم البابوية، اذ فسرت النص على أن المسيح منح بطرس مفاتيح ملكوت السموات للحَلّ والرَّبْط، وعزَّزَت مَكانَته كرَأسِ الكنيسة. جَرَت مُحاولات لاهوتية لتَقْريب وجْهات النَّظَر، بين الطرفين اسْتَنَدَت إلى دراسات كتابية، قامَ بها عُلماءُ لاهوتٍ كاثوليك وإنجيليِّون في القرن الماضي، غَيَّرت بعْض المفاهيم حول النَّص المُشار اليه في متى16. إذْ تميل هذه الدراسات إلى اعتبار شَخْص بطرس الرسول هو الصَّخْرة، لكن ليس بالمفهوم القديم نفسه، أي الصَّخْرة التي يؤسِّس المسيح كنيسته عليها، لأنَّ صَخْرة التأسيس هو المسيح. في هذه الدراسات تَمَّ الإقْرار بالدَّور الأساسي الذي لعبه الرسول بطرس في بداية الكنيسة الأولى بعد العَنصرة، وبالتحديد في كنيسة أورشليم. فالرسول بطرس، كما يُخْبرنا سِفْر أعمال الرسل ورسائل بولس، لَمْ يكُن فقط أوَّل عمود مِنْ أعمدة الكنيسة الأولى، بَلْ الحَجَر الأوَّل الحيّ الذي وُضِعَ في بِناء كنيسة المسيح. وفي هذا السِّياق، فإنَّ بطرس هو الصَّخْرة، أي الشَّخْص الأوَّل بَيْن التلاميذ، الذي أعْلن بروح الآب، أنَّ المسيح هو ابْن الله الحي. وكلُّ مَن أعْلَن اعْتراف الإيمان هذا، صار حَجراً حيَّاً ثانياً وثالثاً، كما قال الرسول بطرس: «كونوا أنتم أيضاً مَبْنيِّين كحجارَةٍ حيَّة، بيتاً روحياً كهنوتاً مُقدَّساً، لتَقديم ذبائح روحية مَقْبولة عِنْد الله بيسوع المسيح» (1بطرس 5:2). وبالتالي، تُقِرُّ تِلْك الدراسات أنَّ الرسول بطرس حَصَل على مكانَة مُميَّزة في الكنيسة الأولى. وهذا ما أكَّده أيضاً الرسول بولس في رسالته إلى غلاطية، إذْ بعد أنْ آمَن بالمسيح، صَعِد إلى أورشليم حيث بطرس ليتعرَّف عليه: «ثمَّ بَعْد ثلاثَ سنين صَعدْتُ إلى أورشليم لأتعرَّف ببطرس، فمَكَثْتُ عنده خمسة عشر يوماً» (غلاطية 18:1). ممَّا يدلُّ على أهمية مكانة بطرس في كنيسة أورشليم. وعندما يذكُر بولس ظُهورات المسيح، في رسالته الأولى إلى كورنثوس، فإنَّه يذكُر بطرس، أي صَفَا، على رأس القائمة. فيقول: «ظَهَرَ أولاً لصَفا، ثمَّ للإثني عَشَر» (1كورنثوس 5:15).
أمَّا الأمر الآخَر الذي توقَّف عنده الإنجيليون فهو قول يسوع لبطرس: «وأعطيك مفاتيح ملكوت السموات» (متى 19:16). اعْتَقَدَت الكنيسة الكاثوليكية في الماضي بأنَّ المسيح مَنَحَ بطرس صلاحية أنْ يكون حارِس باب الملكوت، ومَنَحَهُ مسؤولية أُطْلِقَ عليها مَسؤولية «المفاتيح» لفَتْح وغَلْق باب ملكوت السَّموات. وبتَعْبير آخَر، فقَد جعله وكيلاً ، يهتمُّ بملكوت السموات. إلاّ أنَّ الإنْجيليِّين قالوا بأنَّ مَنْ يملُك هذه الصَّلاحية هو الرَّب يسوع المسيح فَقَط، لأنَّه ابْن الله الحي، ولَمْ يَمْنَح هذه الصَّلاحية لأحَدٍ. إنَّ تعبير «المفاتيح» ليس تَعْبيراً جديداً، بَلْ قديماً، اسْتخدمه إشعياء ليُشير إلى أنَّ الله أوْكَل «ألياقيم بن حلقيا» على بَيْت الملك، لأنَّ الوكيل الأول «شينا» قد وُجْدَ غَيْر أهْلٍ للوكالة. لهذا قرَّر أنْ يطرده مِن مَنْصبه ويُوكِل «إلياقيم بن حلقيا»: «وأجْعَلُ مفاتيح بيت داود على كتِفِه، فيَفْتَح وليس مَنْ يُغْلِق، ويُغْلِق ولَيْس مَنْ يَفْتَح» (إشعياء 22:22). أيضاً استخدم الرَّب يسوع المسيح هذا التَّعبير ليَصِفَ عَدَم أمانة الكتبة والفرِّيسيين على الوكالَة. فقال: «وَيْلٌ لكم أيُّها الكتبة والفرِّيسيون المُراؤون، لأنَّكُم تُغْلقون ملكوت السَّموات، فلا تَدْخلونَ أنتُم، ولا تَدَعون الدَّاخلين يَدْخلون» (متى 13:23). أمَّا تَعْبير «الحَلّ والرَّبْط»، فهو مُسْتَقى مِن العادات اليهودية، إذْ اسْتُخْدِمَ هذا التَّعبير مِنْ قِبَل مُعلِّمي اليهود، وهو يُشير إلى سُلْطَة اتِّخاذ القرارت المُتعلِّقة بالحياة اليومية. فعِنْد تَفْسير الشريعة، كان اليهود يَحلُّون ويَرْبطون، أي يَسْمَحون بمُماراسات ويَمْنعون أخرى. وبالتالي، فإنَّ تعبيرَيّ «المفاتيح» و»الحَلّ والرَّبْط» يُشيران إلى السلطة. فسُلْطَة المفاتيح هذه، سُلْطَة الحَلّ والرَّبط، ليْسَت هي سُلْطَة شَخْص بطرس، وإنَّما سُلْطَة الكَلِمة، سُلْطة التَّعليم والكرازة بخلاص المسيح وغُفرانه. وفي هذا السِّياق فإنَّ بطرس حقاً قد مَلَكَ مفاتيح الملكوت، وحقاً قد فتح باب ملكوت السموات للناس، وذلك بكرازته بكلمة الله في يوم العَنْصَرة. ويُخبرنا كاتب سِفْر أعمال الرسُل أنَّ بطرس عندما ألقى عِظته الأولى في يوم الخمسين، فَتَح باب الملكوت لثلاثة آلاف شَخْص سَمعوا الكلمة، وآمَنوا ودَخلوا ملكوت السموات (أعمال11:2).

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى