عظاتعظات وتأملات

الصلاة في إنجيل مرقس: علاقة الصلاة بنمو الشخصية

الهدى 1242- 1243                                                                 أبريل ومايو 2022

لا شكَّ في أنَّ نمو الإنسان وتطوره أمرٌ مهم وأساسي. واهمٌ من يظن أنه لا يحتاج إلى تطوير نفسه. هذا الوهم كان قد سقط فيه ملاكُ كنيسة لاودكية فسمع توبيخًا شديدًا من الرب يقول له فيه: «أنا مُزمعٌ أن أتقيأك من فمي لأنك تقول إني غني وقد استغنيتُ ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقيرٌ وأعمى وعريان» (رؤ 3: 16-17). في عبارة من عبارات روايته «جونتنامو،» يقول يوسف زيدان: «استكمل السير، فمن ظنَّ أنه وصل فقد كفر.» وفي كتاب «أينشتاين: حياته وعالمه،» والصادر عن مكتبة الأسرة في 2013، أشار والتر إيزاكسون لخطابٍ كان قد أرسله أينشتاين لابنه إدوارد في عام 1930، قال له فيه: «الحياة مثل ركوب الدراجة، لكي تحافظ على اتزانك، لا بدَّ أن تستمر في الحركة.»
نمو الإنسان، كما أفهمه أنا، هو أن نسعى لنكون كالمسيح، لنكون أكثر شبهًا بيسوع، الأمرَ الذي عبَر عنه الرسول بولس على أنه الهدف الأساسي لدعوة الله لنا، بقوله: «مشابهين صورة ابنه» (رو 8: 29)، وبتعبيره في غلاطية «يتصور المسيح فيكم» (غلا 4: 19). وفي الرسالة إلى أفسس ربط بولس صراحةً بين النمو والسعي للوصول إلى المسيح، بقوله: «ننمو في كلِّ شيءٍ إلى ذاك الذي هو الرأس: المسيح» (أف 4: 15).
السؤالُ الآن هو: وما دور الصلاة في عملية النمو هذه؟ أيْ كيف تساعدنا الصلاة على التشبه بالمسيح؟ وعليه لا بدَّ أن نسأل: كيف كان يسوع يصلي؟ ماذا علُم عن الصلاة؟ ما هي القيم والفضائل التي توفرها الصلاة لنا وتغرسها فينا فنكون أكثر شبهًا بالمسيح؟ سوف أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال دراسة المرات التي صلى فيها يسوع في أقدم الأناجيل، إنجيل مرقس، وملاحظة القيم والفضائل التي كشفتها الصلاة في شخصية يسوع، والتي يجب أن نسعى للوصول إليها، ونحن نصلي، فنكون مثله.
صحيحٌ أنَّ إنجيل لوقا هو أكثر الأناجيل التي تُشير لممارسة يسوع للصلاة وتعليمه عنها، لكن يسوع صلى في مرقس وعلّم عن الصلاة كثيرًا. في مرقس 9، فشل التلاميذ في إخراج روحٍ نجسٍ من ولدٍ صغير (9: 18)، رغم أنهم حصلوا على سلطان مِن يسوع لفعل هذا (3: 15؛ 6: 7، 13). بسخرية لاذعة، يذكر مرقس أنَّ ما استطاع التلاميذ فعله بعد فشلهم هذا هو أنهم منعوا شخصًا آخر أخرج الشياطين باسم المسيح (9: 38). في هذه الحادثة، علّم المسيح تلاميذه عن قوة الصلاة في إخراج الشياطين قائلًا لهم: «هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة» (مر 9: 29). في فقرة بالغة الأهمية عن الصلاة ترد في مرقس 11، يخبرنا البشير مرقس عن رفض يسوع للهيكل والذي كان خاليًا من الصلاة مثل خلو شجرة التين من الثمر. الهيكل المصنوع بالأيادي هذا سوف يُنقض ويقوم مكانه هيكلٌ آخر غيرُ مصنوعٍ بيد (مر 14: 58). هذا الهيكل الآخر، غير المصنوع بيد، الذي به ثمر، هو جماعة المؤمنين بيسوع وثمرها الإيمان بالله (11: 22) والغفران الذي يضم الجميع (11: 25) والصلاة المشروطة بالإيمان والغفران: «لذلك أقول لكم: كلُّ ما تطلبونه حين تُصلون، فآمنوا أن تنالوه، فيكونَ لكم. ومتى وقفتم تُصلون، فاغفروا إن كان لكم على أحدٍ شيءٌ، لكي يغفر لكم أيضًا أبوكم الذي في السموات زلاتِكم» (مر 11: 24-25). كذلك، حذَّر المسيح تلاميذه في مرقس 12: 40 من الكتبة وطريقة صلواتهم لأنهم «لِعِلَّةٍ يُطيلون الصلوات.» أشار المسيح للصلاة في خطابه الرؤيوي في مرقس 13: 18 «صلوا لكي لا يكون هربُكم في شتاء.» كذلك في إطار صلاته في جثسيماني نجد تأكيدًا على ضرورة السهر والصلاة (14: 32-42).
هناك إشاراتٍ ضمنية لممارسة يسوع للصلاة مثل عبارة «رفع نظره نحو السماء» والتي جاءت أثناء إشباع الخمسة الآلاف في 6: 41 وعند شفاء الأصم الأعقد في 7: 34. كذلك صلوات البركة أو الشكر»بارك/شكر» والتي تكررت في معجزتيْ إشباع الآلاف (6: 41؛ 8: 6-7) وفي العشاء الأخير في 14: 22-23. يذكر إنجيل مرقس صراحةً أنَّ يسوع صلى ثلاث مراتٍ:
المرة الأولى، في مرقس 1: 35 يذكر «وفي الصبح باكرًا جدًا، والظلام باقٍ، قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك.»
المرة الثانية، في مرقس 6: 45 «وبعدما ودعهم مضى إلى الجبل ليصلي.»
أمّا المرة الثالثة فهي صلاته الشهيرة، الرهيبة في جثسيماني والتي وردت في مرقس 14: 32-42.
قبل أن ندرس كلَّ مرة على حدة من هذه المرات الثلاث، هناك ثلاث ملاحظات عامة يجب الانتباه إليها:
(1) لا يذكر البشير مرقس محتوى صلاة يسوع في (1: 35 ولا في 6: 46). إلَّا في المرة الثالثة، في جثسيماني، حيث ذكر الطلبة التي قدمها يسوع لله. لماذا لم يهتم مرقس بذكر محتوى أول صلاتين؟ هذه عادة مرقس أن يذكر قيام يسوع بأمرٍ ما دون اهتمامٍ بذكر المحتوى، مثلما يشير مراتٍ عديدة إلى أن يسوع كان يعلم بسلطان، دون ذكر محتوى هذا التعليم (مثلًا، 1: 22؛ 2: 13؛ 6: 2). ما يهم مرقس هو أن يسوع كان يصلي، كان يحلو له أن يختلي بأبيه السماوي. كان يحلو له أن يختلي بنبعِ قوته ومصدر سلطانه. على عكس الكتبة الذين كان يطيلون الصلوات لعلة ولذريعة وبدوافع غير سليمة (12: 40)، كان يسوع يصلي دون أهدافٍ ملتوية.
(2) كان يسوع يصلي في أوقات متعددة؛ يصلي في الصباح الباكر (1: 35) وعند المساء (6: 46). صلى في بداية خدمته (1: 35) وفي نهاية خدمته (14: 32-42). كان يصلي في أثناء قوته وسلطانه (1: 35؛ 6: 46) وكان يصلي في ضعفه وانسحاقه (14: 32-42). كان يسوع على علاقة دائمة بأبيه السماوي في كلِّ الأوقات وأيًا كانت الظروف.
(3) لم يُصلِّ يسوع في مرقس ولا مرة في المجمع ولا في الهيكل. صلى يسوع في البرية (1: 35) وفي الجبل (6: 46) وفي بستان جثسيماني (14: 32-42)، لكنه لم يُصلِّ في مبانٍ مقدسة؛ أي في المجمع، والذي يسميه يوسيفوس «مكان الصلاة،» ولا في الهيكل، والذي يسميه النبي إشعياء «بيت الصلاة» (إش 56: 7؛ مر 11: 17). للأسف الشديد، تحولت هذه الأماكن المقدسة إلى أماكن مؤمرات لقتل يسوع (مر 3: 6؛ 11: 18). فيها يسوع لا يصلي بل يغضب ويحزن (3: 5) ويعجز، كالتلاميذ في 9: 18، ولا يقدر أن يصنع قواته المعتادة (6: 5)، ويثور ضد هذه المباني المقدسة (11: 15-17؛ 13: 1-2). دخل يسوع إلى أماكن الصلاة، لكنه لم يجد صلاة ولم يُصلِّ!
الصلاة الأولى: مرقس 1: 35-39
يرسم لنا البشير مرقس يومَ سبتٍ شاقًا للغاية في حياة يسوع، مليئًا بالأحداث في كفرناحوم (1: 21-45). بعد أنْ دعا يسوع التلاميذ الأوائل عند بحر الجليل (1: 16-20)، دخل مجمع كفرناحوم حيث علّم وأخرج روحًا نجسًا من رجل (1: 21-28)، ثم خرج من المجمع واتجه إلى بيت سمعان حيث شفى حماته من الحُمى (1: 29-31)، ثم بعد غروب الشمس، أي بعد انتهاء السبت، أحضر إليه الناسُ جميعَ السقماء والمجانين وشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة وأخرج شياطين كثيرة (1: 32-34). يكرر مرقس في هذا الأصحاح كلمة εὐθὺς «للوقت» 11 مرة (وهي كلمة مفضلة عند مرقس يستخدمها في إنجيله 42 مرة). توحي هذه الكلمة، لا بتفكك السرد، كما كان يُظن قديمًا، لكن توحي بسرعة وقوة إعلان يسوع لملكوت الله الذي قد اقترب/حضر بالفعل (1: 15). تدل هذه الكلمة على كثافة أعمال يسوع ومحاولة الراوي/ البشير أن يلاحقه لعله يستطيع أن يسجلها. يسوع يخدم بكل نشاط وحيوية، ينشر ملكوت الله بكل ما أوتي من قوة.
رغم الجهد المضني، يستيقظ يسوع مبكرًا جدًا ليصلي. في اليونانية يوجد أكثر من ظرف زمان في مرقس 1: 35، حتى أنه يُمكن ترجمة الآية كالتالي: «وفي الصبح باكرًا جدًا، والظلام باقٍ، قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يُصلي.» يحتاج يسوع إلى السكينة بعد ضوضاء الأمس. يحتاج إلى الهدوء وتجديد قوته والاختلاء بالله، نبع قوته ومصدرها. يحتاج يسوع أن يرسم خطة اليوم قبل أن يبدأ. يحدد يسوع ما الذي يفعله «لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضًا لأني لهذا خرجتُ.» يعرف يسوع خطوته التالية جيدًا، و «المعرفة قوة» على حد تعبير الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون. بينما كان يسوع يبدأ يومه بالصلاة، رأى سمعان والذين معه أن يسوع يضيع الوقت فيما لا ينفع ولا يفيد. يذكر لنا مرقس في 1: 36 «فتبعه سمعان والذين معه» الكلمة اليونانية κατεδίωξεν والمترجمة «تبعه» كلمة عنيفة تعني أن سمعان والذين معه كانوا «يطاردون/يلاحقون» يسوع لعلهم «يصطادونه.» في هذا التعبير نبرة سخرية، فيسوع دعا سمعان والتلاميذ الأوائل لصيد الناس (1: 16-20)، بينما هم يريدون صيد يسوع نفسه. يرغب سمعان في 1: 35-39 أن يُرجع يسوع إلى كفرناحوم مرة أخرى، تحت دعوى «إن الجميع يطلبونك» وهي أول كلمات ينطق بها سمعان بطرس في إنجيل مرقس، وكأنه يذكر يسوع بمهامه الإنسانية. يريد سمعان من يسوع أن يتبعه ويسير وراءه، مع أن يسوع هو الذي دعا سمعان في 1: 16-20 لكي يتبعه. لقد دعاهم يسوع ليتبعوه وهم الآن يريدون يسوع أن يتبعهم. يريدون منه أن يعود إلى نجاحات الماضي، إلى نجاحات الأمس. قرأتُ مرة عبارة للمفكر الكبير جابر عصفور، يصف فيها حالنا كشعبٍ يحب التغني بأمجاد الماضي، قال فيها: «نحن أمةٌ عيناها في قفاها.» يسوع على العكس منا ومن سمعان ومن معه، يتطلع إلى الأمام، يريد أن يعلن ملكوت الله في أماكن أخرى غير كفرناحوم. لا يرضخ يسوع لضغط اللحظة ولا يتحرك بشكل عشوائي ولا يرضخ لضغط الجموع ولا التلاميذ. كانت ليسوع رؤيةٌ واضحة وهدفٌ محدد. يريد يسوع أن يمتد ويتسع. يسوع مبدع ومغامر. إذا جاز التعبير.
الصلاة الثانية: مرقس 6: 45-52
مثل المرة الأولى في مرقس 1: 35، لا نعرف محتوى الصلاة التي قدمها يسوع. ومثل المرة الأولى التي صلى فيها يسوع بعد نجاح خدمته، يصلي يسوع هنا بعد نجاح خدمة التلاميذ الذين أرسلهم فشفوا مرضى وأخرجوا شياطين (6: 7-13، 30) وبعد أن أشبع الخمسة الآلاف (6: 30-44). ألزم يسوع تلاميذه أن يعبروا بحر الجليل وصرف هو الجمع (6: 45) ثم «بعدما ودعهم مضى إلى الجبل ليصلي» (6: 46). مكّنت الصلاة يسوع هنا على أن يرى التلاميذ المعذبين في الجذف من الريح المضادة.
ترتبط معجزة المشي على الماء هنا بالمعجزة السابقة لها مباشرة، إشباع الخمسة الآلاف، حتى إنَّ البشير مرقس يكتب، بعد أن صعد يسوع إلى السفينة فسكنت الريح، قائلًا: «لأنهم لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت عيونهم غليظة» (6: 52). يريد مرقس إذًا أن يربط بين تهدئة الريح والأرغفة. لكن ما العلاقة بينهما؟ العلاقة التي يرغب مرقس في توضيحها هنا أنَّ يسوع هو الراعي الصالح، الذي يرعى قطيعه برًا وبحرًا. يقوم يسوع في مرقس 6 بدور الله. مثلما أشبع الله الشعب قديمًا في البرية ومنحهم المن (خر 16) كذلك أشبع يسوع الآلاف بالخبز والسمك (مر 6: 31-44). وكما سيطر الله في أيام موسى على مياه البحر وعبّر فيها شعبه بأمان (خر 14)، كذلك عبّر يسوع تلاميذه البحر بأمانٍ (مر 6: 45-52).
طوال مرقس 6 نرى يسوع الذي يرى عذابات واحتياجات الآخرين. رأى الجمع الجائع فتحنن عليهم (6: 34) ورأى التلاميذ الذين كانوا يجتازون البحر الهائج والمياه المتمردة فشجعهم «ثقوا أنا هو لا تخافوا» وسكّن الرياح (6: 48). أظهر يسوع في مرقس 6 أنه راعٍ صالحٌ لهذه الخراف التي لا راعي لها (6: 34). انشغل راعيها، الملك هيرودس، بالعظماء وقواد الألوف ووجوه الجليل (6: 21) ونسي عامة الشعب. ما أشبه هيرودس بالرعاة التي لم تسأل عن الغنم والتي رعت نفسها والتي يصورها لنا حزقيال 34! بطريقته المعتادة في السرد، يضع البشير مرقس مشهد وليمة هيرودس (6: 14-29) بين إرسالية يسوع للاثني عشر (6: 7-13) ورجوع الاثني عشر وإشباع الآلاف (6: 30-44). يريد لنا أن نعقد مقارنة بين راعيين ووليمتيْن؛ هيرودس ويسوع. «يرسل» يسوع تلاميذه ليخففوا الآلام عن الناس (ع 7-13) بينما «يرسل» هيرودس سيافًا ليقطع رأس يوحنا المعمدان (ع 27). «يأمر» يسوع تلاميذه أن يُجلسوا الناس على العشب الأخضر (ع 39)، في إشارة تُعيدنا إلى الله الراعي الذي يربض شعبه في مراعٍ خُضرٍ (مز 23)، بينما «يأمر» هيرودس أن يؤتى برأس يوحنا المعمدان (ع 27). يُقيم هيرودس وليمةً للنخبة تنتهي بطبقٍ يحمل رأس المعمدان ويقطر دمًا، يتنقل من يد السياف إلى يد الصبية إلى يد هيروديا، في مشهدٍ دموي رهيب (ع 28). لكنّ يسوع يُقيم وليمةً لعامة الشعب، وتتنقل الأرغفة والأسماك من يد يسوع إلى يد التلاميذ إلى يد الجمع (ع 41). في نهاية وليمة هيرودس «تُرفع» جثة المعمدان (ع 29) بينما في نهاية وليمة يسوع «تُرفع» اثنتا عشرة قفة مملوة خيرًا فائضًا (ع 43).
مثلما رأى يسوع احتياج الجمع للطعام فتحنن عليهم (مر 6: 34)، بعد صلاته رأى حاجة تلاميذه للعون وهم في عرض البحر (مر 6: 46، 48). فتحت الصلاة عينيه فرأى معاناة التلاميذ، رغم المسافة ورغم الظلام الشديد. تحرك يسوع نحوهم وأتاهم ماشيًا على البحر، في إشارة لنصوص العهد القديم التي تصف قدرة الله على السيطرة على المياه المتمردة كما حدث في الخروج من مصر، أو مثلما نقرأ «الباسط السموات وحده، الماشي على أعالي البحر» (أي 9: 8). في الهزيع الرابع أتى لمعونتهم كما يوصف الله في مزمور 46 بالقول: «يعينها الله عند إقبال الصبح.» لا تعني العبارة المربكة «أراد أن يتجاوزهم» (مر 6: 48) أنَّ يسوع كان يرغب في تركهم وغض الطرف عن معاناتهم. يبدو أنَّ مرقس يريد العودة بنا إلى موسى وموقف الله منه حيث أجاز جودته/صلاحه قدامه وجعله يُبصر وراءه (خر 33: 18-23). الفكرة الأهم هنا هي أن يسوع يريد أن يتقدم التلاميذ ويجعل لهم «في البحر طريقًا وفي المياه القوية مسلكًا» (إش 43: 16)، كما أشارت شيرين دود في تفسيرها للآية. يسوع يقود التلاميذ ويرشدهم ويمهد البحر المضطرب أمامهم ويسيطر على المياه المتمردة فيسيرون في مياهٍ هادئة وفي بحرٍ ساكنٍ.
صلى يسوع فرأى عذابات الآخرين. هذا ما تفعله الصلاة فينا. تجعلنا ننمو من خلال التوقف عن التفكير في ذواتنا، مثلما يفعل الأطفال، ونفكر في الآخرين ودورنا نحوهم. كان الرسول بولس في فيلبي قد وضع أمامنا هذا المبدأ المسيحي بقوله: «لا تنظروا كلُّ واحدٍ إلى ما هو لنفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضًا» (في 2: 4) وفي رومية قال: فليُرضِ كلُّ واحدٍ منا قريبه للخير، لأجل البنيان. لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه» (رو 15: 2). في قصيدته الرائعة «فكِّرْ بغيرك» يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش:
وأنت تُعِدُّ فطورَك، فَكِّرْ بغيرك
لا تنسَ قوتَ الحمامْ
وأنت تخوضُ حروبَك، فكر بغيرك
لا تنسَ من يطلبون السلامْ
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك
من يرضعون الغمامْ
وأنت تعود إلى بيتك، فكر بغيرك
لا تنسَ شعب الخيامْ
وأنت تنامُ وتحصي الكواكب، فكر بغيرك
ثمة من لم يجدْ حيزًا للمنامْ
الصلاة الثالثة: مرقس 14: 32-42
في جثسيماني (مر 14: 32-42)، يصلي يسوع ثلاث مرات للآب السماوي، بينما ينام التلاميذ الأقربون، بطرس ويعقوب ويوحنا، ثلاث مرات في مفارقة صارخة لا تخلو من سخرية لاذعة. رافق هؤلاء التلاميذ الثلاثة يسوع وهو يُظهر قوته حين أقام ابنة يايرس من الموت (مر 5: 37) ووحدهم رأوا مجده على جبل التجلي (مر 9: 2). الآن، يرون يسوع في ضعفه كإنسانٍ. في كلِّ رواية مرقس، فقط هؤلاء الثلاثة قدموا وعدًا مشددًا أن يموتوا مع يسوع (10: 38-39؛ 14: 29، 31). وهم وحدهم، مع أندراوس هذه المرة، سمعوا حث وتحذير يسوع على ضرورة السهر لئلا يأتي ربُّ البيت بغتةً ويجدهم نيامًا (13: 3، 35). ما أن رجع يسوع، رب البيت، من صلاته إلا ووجدهم نيامًا! لم يستطيعوا أن يسهروا معه ساعةً واحدة. تُشبه حالتهم حالة سليم دعيبس في قصة جبران خليل جبران «فلسفة المنطق أو معرفة الذات» والتي حكاها في كتابه البديع «العواصف.» يقول جبران ما ملخصه الآتي: في ليلةٍ من ليالي بيروت الممطرة، جلس سليم أفندي دعيبس أمام أكداسٍ من كتبه وقد كان بين يديه رسالة فلسفية أوحاها سقراط لتلميذه أفلاطون في «معرفة الذات.» وبعد قراءتها، صرخ بأعلى صوته قائلًا: «نعم نعم إن معرفة الذات هي أم كل معرفة.» ثم دخل إلى غرفةٍ محاذية وانتصب كالتمثال أمام مرآة كبيرة تصل أرض الغرفة بسقفها. ظل واقفًا جامدًا على هذه الحالة نحو نصف ساعة، ثم فتح شفتيه بهدوء وقال مخاطبًا نفسه:
أنا قصير القامة،
وهكذا كان نابليون وفيكتور هوجو
أنا ضيق الجبهة،
وهكذا كان سقراط وسبينوزا
أنا أصلع،
وهكذا كان شكسبير
أنفي كبير ومنحني إلى جهة واحدة،
وهكذا كان جورج واشنطون
في عيني سُقمٌ،
وهكذا كان بولس الرسول ونيتشه
قد يمر اليوم واليومان دون أن أغسل وجهي ويديَّ،
وهكذا كان بيتهوفن
«هذا أنا. هذه حقيقتي فأنا مجموعُ صفاتٍ كان حائزًا عليها أعاظم الرجال من بدء التاريخ إلى يومنا هذا وفتى جامعٌ لهذه المزايا لا بد أن يفعل شيئًا عظيمًا في هذا العالم. رأس الحكمة معرفة الذات وأنا قد عرفت نفسي ومنذ الليلة سأبتديء بالعمل العظيم.» ومشى سليم أفندي في تلك الغرفة ذهابًا وإيابًا وعلامات السعادة تلوح على سحنته القبيحة وهو يردد بصوت مثل مواء القطط بيت أبي العلاء: «وإني وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُه/لآتٍ بما لم تستطعْه الأوائلُ.» وبعد ساعةٍ كان صاحبنا نائمًا بملابسه المشوشة على سريره المشقلب وغطيطه يملأ فضاء ذلك الحي بنغمةٍ أقرب إلى جعجعة الطاحون منها إلى صوت ابن آدم.
تنطبق حالة سليم أفندي تمامًا على التلاميذ، خاصة بطرس. منذ دقائق كان بطرس قد أمعن في تأكيد ولائه المطلق ليسوع وأنه وإن شك فيه الجميع لن يشك (14: 28) كذلك «قال بأكثر تشديدٍ: ولو اضطُررتُ أن أموت معك لا أنكرك» (14: 31). لم تمر سوى دقائق ونام بطرس ولم يستطع تقديم العون ليسوع بأن يرافقه ساهرًا في ساعة حُزنه المميت. في آخر خطابٍ وجّهه يسوع لبطرس في إنجيل مرقس قال له: «يا سمعان، أنت نائم! أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟!» (14: 37). لم يخاطب يسوع بطرس باللقب الذي منحه إياه «بطرس» (3: 16) بل ناداه باسمه القديم «سمعان» وكأن يسوع قصد أن يوضح لبطرس أنه لا يستحق لقب بطرس أو «صخرة.» إنه الآن ليس صخرة. لقد عاد مرة أخرى إلى حياته القديمة. لقد ابتعد بطرس بعيدًاعن طريق يسوع، عن طريق التلمذة وسوف يتبعه من بعيد (14: 54). فقط لاحقًا، بعد القيامة، سيستعيد سمعان لقبه «بطرس» (16: 7)، أما الآن فهو «سمعان.»
على عكس التلاميذ النائمين، الذين فشلوا في السهر والصلاة، نجد يسوع مصليًا ساهرًا. ولأنه سهر وصلى، استطاع أن يثبت حين أتت ساعة التجربة. استطاع أن يظل أمينًا لدعوته ولم يتنكر لمبادئه أمام السلطات الدينية (14: 53-65) والمدنية (15: 1-39). هرب التلاميذ جميعًا، حتى إنَّ واحدًا منهم هرب عاريًا مفضلًا العار والخزي على تبعية يسوع والانتساب إلى ملكوت الله (14: 50-52). أنكر بطرس ثلاث مرات، مثلما نام ثلاث مرات، في محاكمةٍ غير رسمية أمام جارية رئيس الكهنة أنه يعرف يسوع (14: 66-72).
يمكن رصد أربع ملاحظات في صلاة يسوع في جثسيماني:
أولًا، صلى يسوع بمشاعره كما هي. يصف مرقس حالة يسوع وضعفه بأوصافٍ رهيبة، انفرد بها مرقس. يصف يسوع مشاعره: «نفسي حزينةٌ جدًا حتى الموت» (ع 34) وهي عبارة تذكرنا بمزامير المراثي، خاصة قول المرنم «نفسي قد ارتاعت جدًا» (مز 6: 3) وكذلك: «لماذا أنتِ مُنْحَنِيَةٌ يا نفسي؟ ولماذا تئنين فيَّ؟» (مز 42: 5، 11؛ 43: 5). يسوع «يدهش ويكتئب» أو «منسحق بالرعب والكرب،» كما ترجمها يوجين بورينج في تفسيره، أو «منسحقٌ ومهموم» كما ترجمها جول ماركوس، أو «يشعر بالرهبة والكآبة،» كما وضعتها الترجمة اليسوعية. يظهر يسوع مثلنا تمامًا، يحب الحياة ويرتعب من الموت، يشبهنا في كل شيء (عب 2: 17؛ 4: 15) ويقدم طلبات وتضرعات بصراخ شديد ودموع للقادر أن يخلصه من الموت (عب 5: 7). «يسقط يسوع على الأرض» (ع 35) في وضع مشابه لشاول حينما عرف مصيره الرهيب (1 صم 28: 20). لم تكن، ولايجب أن تكون صلواتنا، صلوات يسوع حمدًا وشكرًا وفرحًا فقط، بل كانت صلوات صادقة تعبر عن لحظات الضعف والاكتئاب والحزن الشديد.
ثانيًا، يسوع يعبر عن مشاعره لأبيه السماوي: «أبا (الآب)» (ع 36). في كتابه المهم The Prayers of Jesus، يشير العلامة الألماني الكبير يواقيم يرمياس إلى أنَّ في كل العهد القديم بأسفاره الكثيرة، يلقب الله كأب فقط 15 مرة، أغلبها بصيغة الجمع «أبونا» (إش 63: 16؛ 64: 8) فالله هو أبو الأمة كلها (خر 4: 22) أو أبو الملك بشكل خاص (مز 2: 7) وفي أكوام برديات جماعة قمران، في الكهوف ال 11، يلقب الله كآب مرة واحدة. أمّا في الأناجيل الأربعة فيرد لقب الله ك «الآب» على لسان يسوع ما لا يقل عن 170 مرة (Jeremias, Prayers, 1 -35).
كان يسوع يدرك في صلاته أنه يخاطب أباه السماوي، وهو أمرٌ كان مميزًا ليسوع، لم يسبقْ إنسان أن رأى الله أبًا له بهذا الشكل الحميم. الكلمة الآرامية «أبا» وردت ثلاث مرات في العهد الجديد (مرقس 14: 36؛ رو 8: 15؛ غل 4: 6) ودائمًا ترتبط بالصلاة. يسوع كان يخاطب الله بهذا اللقب العائلي الحميم وقد أعطى لنا الحرية والنعمة أن نشاركه في هذه البنوية للآب.
ثالثًا، يصلي يسوع في جثسيماني بإيمان وثقة. يقول: «يا أبا الآب، كلُّ شيءٍ مستطاعٌ لك فأجز عني هذه الكأس» (ع 36). ترد عبارة «كل شيء مستطاعٌ» ثلاث مرات في مرقس؛ «كلُّ شيء مستطاعٌ للمؤمن» (9: 23)، و «كلُّ شيءٍ مستطاعٌ عند الله» (10: 27؛ 14: 36). يسوع يصلي لإله قدير وهو يؤمن أنه يقدر على كل شيء. ما لم يستطع سمعان فعله (مر 14: 37)، هذا الآب يقدر، لا على السهر مع يسوع فقط، بل يقدر أن يُعبِر عنه الساعة ويُجيز عنه الكأس. يسوع يصلي بثقة وهو ما علّمه لتلاميذه أن يكون لهم إيمانٌ بالله، إيمان شديد يمكنهم من نقل الجبل (مر 11: 22-24). في عبارة مدهشة كتبها جون كالفن في إطار كلامه عن الصلاة في كتابه «أسس الدين المسيحي» قال: «كم يغيظُ اللهَ عدمُ ثقتنا إنْ طلبنا منه مِنّةً لا نتوقع الحصولَ عليها» (كالفن، أسس الدين المسيحي، 3: 20: 11).
رابعًا، كان يسوع يصلي وهو ينكر نفسه. يثق يسوع بقدرة أبيه السماوي أنه يستطيع أن ينقل الجبل ليس فقط أن يعبر عنه الموت، لكنه أيضًا يخضع لإرادة هذا الآب. في تفسيره الرائع لمرقس يقول الآن كولبيبر إنه على عكس يعقوب ويوحنا اللذين كانا شعارهما: «نريد أن تفعل لنا كل ما طلبناه» (مر 10: 35)، كان شعار يسوع: «ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت» (14: 36) (Culpepper, Mark, 503).
تقول شرين دود: «إن يسوع هنا يُنكر نفسه كما علم في 8: 34 ويختار إرادة الله لا رغبته. كانت صلاةُ الخضوع تُصاحب صلاة التدخل» (Dowd, Mark, 151).
خاتمة
في صلوات يسوع الثلاث في إنجيل مرقس نجد علاقة يسوع بنفسه وبالآخرين وبالله. كانت الصلاة الأولى في مرقس 1: 35 مركزة على علاقة يسوع بذاته ومعرفته لخدمته وإرساليته. يعرف يسوع هدفه جيدًا ولم يسر سيرًا مشوشًا ولا فوضويًا ولا عشوائيًا. كانت الصلاة الثانية في 6: 46 مركزة على علاقة يسوع بالآخرين. صلى يسوع فرأى معاناة التلاميذ وحاجتهم لمعونةٍ يمتلك تقديمها فلم يتوانَ. في الصلاة الثالثة في مرقس 14: 32-42 تتركز على علاقة يسوع بالله. كان يسوع واثقًا بأبٍ سماوي يحترم مشاعر حزنه وضعفه وكآبته. ثقة لم تهتز بقدرة هذا الإله. صلوات يسوع الثلاث مكنته من معرفة خدمته جيدًا فلم يضل، ومكنته من التخلص من الأنانية والانكماش على الذات، وأخيرًا مكنته من الثبات في ساعة التجربة الرهيبة.
قُدمِت هذه المقالة كعظة من عظات احتفال الصلاة 121 بالكنيسة الإنجيلية بالأقصر – مارس 2022.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى