عظاتعظات وتأملات

الانتقال من اليأس إلى الرجاء

الهدى 1238                                                                                                                       ديسمبر 2021

نواصل معًا عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة ما قد بدأناه من قبل حول مزامير التوبة وهي كما أشرنا إليها سبعة مزامير، فيها نرى خبرة إنسانيّة رائعة في قدرة الإنسان على السير في الاتجاه المعاكس والقدرة على الانتقال من حالة الفقد والضياع إلى الوجود في العلاقة مع الله، ونرى أيضًا قدرة الله الفائقة على التغيير والغفران.
إنَّ مزامير التوبة عبارة عن رحلة تحول نمر من خلالها بشجاعة الاعتراف بالخطأ، ثم يكون لنا ثقة بالله المغير والمجدِّد للحياة بجملتها، وبالتالي التركيز على فكر ولاهوت الرجاء بإعلان أنَّ البابَ مفتوحٌ أمام جميع الخطاة، وإمكانية الغفران متاحة أمام جميع البشر.
في رحلة القداسة، التوبة هي الأساس وهي البوابة الأساسيّة لنوال كل البركات، وسنواصل عزيزي القارئ ما بدأناه معًا حول مزامير التوبة وهي (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143). في هذه المزامير نواصل رحلة الانتقال في الاتجاه المعاكس (من-إلى) على أعتبار أنَّ التوبة هي تغيير في الاتجاه الفكريّ والسلوكيّ أيضًا.
في المزمور السادس لمسنا الانتقال من الخوف إلى الثقة، وفي المزمور 32 كان الانتقال من الحزن إلى الفرح. وفي مزمور 38 سنقف عند انتقال آخر وهو الانتقال من اليأس إلى الرجاء. يربط المزمور بين الخطية والمعاناة وبين الخطية والألم، بين الغفران والشفاء، وبين اليأس والرجاء.
في هذا المزمور نلتقي مع مشاعر إنسان عبَّر عنها في لغة صلاته ويحاول فيها أنْ يصف ذاته وحياته وما يحدث من جراء الخطية التي دمرت حياته ثم يعلِّق رجاءه وأمله على الله القادر على تغيير حياته واتجاهاته. وفي هذه الصلاة التي صلاها نرى فيها ثلاثة أمور، وهي:
1- سرد المتاعب.
2- الشعور بالوحدة.
3- الاعتراف والتوبة.
أولاً: سرد المتاعب
يعدّد داود المتاعب التي اجتاز فيها، هو وكل شخص نظيره يحيا عبدًا للخطية، ومن اللحظات الأولى لقراءة هذه الصلاة يتلاقى الشخص مباشرة مع الآلام الجسديّة، والآلام النفسيّة، أي أنَّه كيان محبط يائس لا رجاء له ومتعب، وفاقد للأمل؛ فيقول:
لَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ مِنْ جِهَةِ غَضَبِكَ.
لَيْسَتْ فِي عِظَامِي سَلاَمَةٌ مِنْ جِهَةِ خَطِيَّتِي (عـ 3)
لَوِيتُ. انْحَنَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ.(عـ 6)
وَلَيْسَتْ فِي جَسَدِي صِحَّةٌ. (عـ 7)
كُنْتُ أَئِنُّ مِنْ زَفِيرِ قَلْبِي. (عـ 8)
قَلْبِي خَافِقٌ. قُوَّتِي فَارَقَتْنِي.
وَنُورُ عَيْنِي أَيْضًا لَيْسَ مَعِي. (عـ 10)
وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِمًا. (عـ 17)
كل هذه التعبيرات المؤلمة صادرة من قلب يعاني روحيًا ونفسيًا وجسديًا، البدن والروح والجسم والعظام والقلب والعين كل الجسد يعاني. هذه الكلمات والأوصاف تعبر عن حالة اليأس التي اصابت كيان الإنسان فظهر مريضًا حزينًا في الداخل والخارج عبرت عن دراما حزينة جدًا وصرخة مرة، والسبب في ذلك هو كما يذكر في العدد الرابع من المزمور:
«أَنَّ آثامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأْسِي.
كَحِمْل ثَقِيل أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ.» (مزمور 38: 4)
ويأتي السؤال: مَنْ هو قادر على أن يرفع هذا الحمل؟ تكون الإجابة في من دعا أهم وأفضل دعوة من أفضل داع، وهو من قال: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.» (مت 11: 28).
إن كان المختبر قد ربط بين الخطية والمتاعب، نجد أيضًا أن المسيح ربط بين قبوله والراحة والتحرير، «وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».» (يو 8: 32). ما أكثر المتاعب والآلام والتأوهات التي نمر بها «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ.» (رو 8: 22). ولكن رجاءنا الوحيد هو في شخص المسيح القادر على أن يريحنا من أتعابنا بغفران الخطايا. ما أكثر المتاعب الجسديّة والنفسيّة من جراء الخطية وما أجل نعمة الله المغيرة!
نرى صدى لهذا المزمور في الموقف الذي قام به المسيح في شفاء المفلوج في المعجزة الواردة في (مرقس 2: 1: 12)، ولعل الكلمات التي قالها المسيح في هذا الأمر أمام رد فعل الحاضرين، «أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟» (مر 2: 9). فالشفاء من مرض الخطية مقدم على الشفاء من المرض الجسديّ.
يقول نبيل معمارباشي، في تفسير للمزامير أنه «جرت العادة قديمًا أن يربط الإنسان بين الخطية والمرض فيرى في المرض عقابًا إلهيًا كما في سفر أيوب.» (معمارباشي، المزامير، 1004)، ولعل المسيح جاوب على هذا الموضوع في شفائه للمولود أعمى: «فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟».»أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ.» (يو 9: 2- 3).
ثانيًا: الشعور بالوحدة
هنا إلى جانب المرض الجسدي، هناك الاغتراب الاجتماعي، والضعف أمام الخصوم من يعرض حياته للخطر. نفس الوصف للبؤس الذي لا يطاق. فلم يقف المختبر فقط عند سرد المتاعب الجسديّة والنفسيّة التي أشرنا إليها آنفًا ولكنه انتقل إلى شعور مدمر آخر وهو الشعور بالوحدة، فهو متعب ومحبط ومعزول, يظهر ذلك بوضوح في العددين 11، 12 بالقول:
«أَحِبَّائِي وَأَصْحَابِي يَقِفُونَ تُجَاهَ ضَرْبَتِي،
وَأَقَارِبِي وَقَفُوا بَعِيدًا.
وَطَالِبُو نَفْسِي نَصَبُوا شَرَكًا،
وَالْمُلْتَمِسُونَ لِيَ الشَّرَّ تَكَلَّمُوا بِالْمَفَاسِدِ،
وَالْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُونَ بِالْغِشِّ.»
وتكتمل الصورة في العددين 19- 20 بالقول:
«وَأَمَّا أَعْدَائِي فَأَحْيَاءٌ. عَظُمُوا.
وَالَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي ظُلْمًا كَثُرُوا.
وَالْمُجَازُونَ عَنِ الْخَيْرِ بِشَرّ،
يُقَاوِمُونَنِي لأَجْلِ اتِّبَاعِي الصَّلاَحَ.»
هذه هي الحالة الاجتماعيّة السيئة التي وصل إليها الجميع لقد تركوه وحيدًا، ولكن الملفت للنظر أنَّه لم يكلّمهم، لم يعاتبهم، ولكنه وجه نظره إلى الله القريب جدًا منه بالرغم من خطيته. وهذا يعلّمنا أنَّه في الوقت الذي نفقد فيه الجميع، ويتركنا الأصدقاء والمقربون لنا، نجد أنَّ الله قريبٌ جدًا منا، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، يقول بولس: «لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا» (أع 17: 27). ويقول إشعياء أيضًا: «اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ.» (إش 55: 6).
الخطية عزلت الإنسان عن الله، وبالمثل عزلت الإنسان عن أخيه الإنسان، ومن هنا جاءت مرارة الوحدة، فالله منذ البدء كسر حالة الوحدة بالزواج، «وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ: «لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ».» (تك 2: 18) وكسر حالة الوحدة بالشركة. «وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ» (أع 2: 1). الوحدة عامل مدمر للإنسان بينما الشركة عامل شافٍ وبانٍ له.
ثالثًا: الاعتراف والتوبة
من خلال الوصف السابق للإنسان وهو في حالة الإعياء والتعب معزول اجتماعيًا، ومتعب ومحبط نفسيًا وهو دائمًا في حالة الخطية على حافة الضياع والهاوية. «لأَنِّي مُوشِكٌ أَنْ أَظْلَعَ، وَوَجَعِي مُقَابِلِي دَائِمًا.» (عـ 17) «لأَنَّنِي أُخْبِرُ بِإِثْمِي، وَأَغْتَمُّ مِنْ خَطِيَّتِي.» (عـ 18)، لأني أعترف بخطيتي وأحزن على خطيتي، الحس الروحي هنا في غاية الأهمية لإصلاح الشخص، فلا يكفي سرد المتاعب، أو ثقافة الولولة على الوحدة، ولكن لابد من خطوة نحو التغيير.
بدأ المزمور بالتوجه إلى الله طالبًا الرحمة، بالقول: «يَا رَبُّ، لاَ تُوَبِّخْنِي بِسَخَطِكَ، وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ» (عـ 1)، وفي النهاية يقول: «لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ. يَا إِلهِي، لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. أَسْرِعْ إِلَى مَعُونَتِي يَا رَبُّ يَا خَلاَصِي.» (عـ 21- 22)، الرحمة مع الخلاص هما مفتاح تعامل الله معنا.
يقدم المزمور ثلاثية الرجاء في مقابل مرارة اليأس، وهي: الاعتراف، الرحمة، الخلاص، فمن يعترف يُرحم وينال خلاص الله. وبالتالي مهما تكن حالتنا فالله قادر على أنْ يغير دائمًا إلى الأفضل. ويكون تعبيرنا عن احتياجنا دائمًا:
لاَ تَتْرُكْنِي يَا رَبُّ
يَا إِلهِي، لاَ تَبْعُدْ عَنِّي
أَسْرِعْ إِلَى مَعُونَتِي يَا رَبُّ يَا خَلاَصِي (عـ 21- 22)
وبالتالي تكون الآية رقم 15 في المزمور هامة جدًا حيث يقول المرنم: «لأَنِّي لَكَ يَا رَبُّ صَبَرْتُ، أَنْتَ تَسْتَجِيبُ يَا رَبُّ إِلهِي.» إنها لحظة الانتقال من اليأس إلى الرجاء، فمهما كان وصف حالتنا، مهما كانت التشوهات والآلام التي نجتاز فيها، وما أكثر الجروح من جراء الخطية، ومها كان حجم الخطية وثقلها وعظمتها، ومهما كانت مرارة الوحدة، ومقاومة المقاومين، الله يشعر بك، قريب جدًا منك، فمَنْ اجتاز الألم، ومَنْ احتمل الصليب هو يعطي قوة ومعونة للاحتمال، الله قريب جدًا منك.
ما أجمل الرجاء في وجه اليأس، وما أجمل الغفران في وجه الخطية، فالله برحمته ومحبته يسمع لصراخنا وأنيننا وتعبنا. فهو وحده قادر على أن ينتشلنا من بحار اليأس، وأمواج الشك، إلى التمسك بيقين الرجاء»لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخًا، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ.» (عب 10: 23)، إنَّه يغفر أنَّه يقبل، لأنَّه في الأساس هو الله المحب، ونحن عمله، فهل تقبل إليه؟

القس عيد صلاح

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
راعي الكنيسة الإنجيلية في عين شمس القاهرة
باحث غير متفرغ في التراث العربي المسيحي له العديد من المؤلفات والأبحاث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى