دراساتدراسات كتابيةعظات

الانتقال من الخوف واليأس إلى الطمأنينة والرجاء

الهدى 1235                                                                                                                              سبتمبر 2021

سفر المزامير هو سفر غني في لغة شاعرية جذابة، فيه نجد مشاعر الإنسان في كل ظروفه احتياجاته، نجد الفرح ونجد الحزن، نجد الضيق والوسع، نجد الصورة الإيجابيّة الحلوة وضعف وعجز الإنسان، نجد أيضًا مشاعر الرفض والقبول مع طرح أسئلة الإجابة عليها صعبة ونجد أيضًا صورة تشخيصيّة للإنسان أمام الله. يحاول الإنسان أنْ يوَّصف حالته توصيفًا جيدًا. الإنسان في سفر المزامير في منتهى الواقعيّة ويعبّر بصراحة ووضوح عما يعيش فيه.
نجد في مزامير التوبة كما وجد والتر بروجمان مشاعر مختلفة وانماطًا مختلفة في الكلام كما تطرح أسئلة مختلفة. تظهر هذه المزامير أنَّ المتكلَّم يميل بسهولة إلى الاعتراف بالذنب.
إنَّ ما يشوه صورة الإنسان هو فعل الخطية، ونجد في حياة التوبة توقًا ورغبة حقيقية في محاولة التخلّص منها بل والعيش في التحرّر من ذلّها وسطوتها وعبوديّتها. وقد ورد في سفر المزامير المكون من مئة وخمسين مزمورًا سبعة مزامير سُمّيت-حسب القراءة المسيحيّة في الليتورجيّة الكنسيّة- مزامير التوبة، وهي: 6، 32، 38، 51، 102، 130، 143.
والتوبة هي تغيير وتصحيح المسار، هي الاتجاه المعاكس للخطية، وهي تتحقق من خلال أمريْن هما: الثقة بالله، الإرادة، وهذا ما نلمسه من خلال القراءة الأولى للمزمور السادس، أول مزامير التوبة، والذي أضافته الكنيسة لمزامير التوبة في القرن الخامس الميلاديّ. نجد في هذا المزمور ثلاثة أبعاد، وهي:

1- البعد الواقعيّ: وصف للحالة
2- البعد الحتميّ: الرغبة في التغيير
3- البعد الإيمانيّ: الله يسمع ويستجيب
أولاً: وصف الحالة: البعد الواقعيّ
يقرّ داود في بداية المزمور السادس بأنه في حالة من الخطأ ويحتاج إلى تأديب وتوبيخ شريطة أن يكون هذا بدون غيظ وغضب من الله سبحانه وتعالى: «يَا رَبُّ، لاَ تُوَبِّخْنِي بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُؤَدِّبْنِي بِغَيْظِكَ» (مزمور 6: 1). لماذا؟ لأن غضب الله وغيظه يفني الإنسان، وقد عبَّر عن ذلك إرميا بالقول: «أَدِّبْنِي يَا رَبُّ وَلكِنْ بِالْحَقِّ، لاَ بِغَضَبِكَ لِئَلاَّ تُفْنِيَنِي» (إرميا 10: 24) هو يحتاج إلى تأديب وتوبيخ لأنَّه انحرف ويطلب الرحمة والشفاء، يقول:
ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ.
اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ،
وَنَفْسِي قَدِ ارْتَاعَتْ جِدًّا.
(مزمور 6: 2- 3)
هنا نجد حالة من الخوف والخشيّة مبنية على الإقرار بالخطأ، والألم الناتج هنا على هذا الموقف ليس فقط ألماً جسديًا بل يشمل كل الكيان (عظامي ونفسي)، أما الحالة الواقعية التي يعترف بها في هذا الموقف المؤلم يقول: ارحمني، اشفني. إنما هي حالة من الخوف كحالة كل من آدم وحواء عندما اختفيا من وجه الله، الخطية تدمر حياة الإنسان وتنزع منه حالة الطمأنينة والسلام. يبدو أنَّ داود كان يعاني من مرض خطير حين كتب هذا المزمور وكان يتعرض لهجمات أعدائه، ووصف محنته في أمرين: الأعداء من خارج، والخوف من داخل. ولقد أدرك تأثير الخطية على حياته الجسديّة والنفسيّة والروحيّة.
تَعِبْتُ فِي تَنَهُّدِي.
أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي.
أُذَوِّبُ فِرَاشِي.
سَاخَتْ مِنَ الْغَمِّ عَيْنِي.
شَاخَتْ مِنْ كُلِّ مُضَايِقِيَّ.
(مزمور 6: 6-7)
هذا الوصف للحالة السيئة التي يعيشها الإنسان تحت نير الخطيّة، الواقع كما يسجّله داود بكل وضوح حيث يظهر تأثير الخطية على الإنسان داخليًا وخارجيًا. الواقع مؤلم، والوجع كبير، والتوصيف دقيق.
ثانيًا: الرغبة في التغيير: البعد الحتميّ
من خلال وصف الحالة الصعبة التي يحياها الإنسان وهو في حالة الخطية، يصرخ ويقول:
ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ.
اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ،
نَجِّ نَفْسِي.
خَلِّصْنِي مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ
(مزمور 6: 2، 4)
أخد داود أقصر الطرق إلى الله وهو أنّ يتكلّم لله مباشرة، الهروب من الله إلى الله، بالنسبة له الله هو سبب المشكلة والله هو أساس الحل. وهذا يعلمنا ونحن في صلواتنا وطلباتنا نوجهها لله مباشرة دون وسيط مهما كان، ودون عقلية تبريرية قادرة على تبرير الأخطاء في أي وقت، أو عقلية اعتذارية تجد الأعذار لتعلق عليها الأخطاء.
يطلب داود الرحمة، والشفاء والتحرير، والخلاص ولن يجد هذا كله إلا عند الله، فهو وحده الذي يرحم ويشفي ويحرّر ويخلّص. والإنسان كما عبَّرعنه داود هو ضعيف لا يقدر أنْ يقدّم لذاته أي شيء، ولكي يتغير لابد أنْ يكون لديه رغبة حقيقية لذلك، وبدون هذا يظل الإنسان كما هو في عجزه وضعفه. إذا كانت لنا الرغبة وفق رحمة الله وخلاصه يستطيع أن يعيد تشكيلنا مهما كان ضعفنا أو فشلنا. فالتغيير حتمي ولا بديل عنه.
ثالثَا: الله يسمع ويستجيب: البعد الإيمانيّ
من التعبيرات الرائعة عن شخص الله في الكتاب المقدس أنه يسمع وفي نفس الوقت يستجيب. ومن خلال الحواس الخمس التي في الإنسان، نجد أنَّ حاسة السمع هي الحاسة الوحيدة التي تشتغل في كل الأوقات، بدليل أنَّه في أثناء نوم الإنسان كل الحواس لاتعمل ما عدا حاسة السمع، فعندما يرن جرس المنبه مثلاً، أو طرق الباب أو أي صوت عالٍ حول النائم، يستيقظ الإنسان من النوم. هذا دليل على أن حاسة السمع مستمرة طول الوقت. وبالتالي الله يسمع، فهو يسمع طول الوقت للإنسان. ويخاطب داود الله في هذا المزمور ثمان مرات.
ومعنى أنَّ الله يسمع يعني أنَّ الله يهتم بالإنسان، الله يسمع معناه أنَّ الإنسان ليس مهملاً، كما أنَّ الصلاة لها قيمة طالما أنَّ الله يسمع ويستجيب وفق إرادته ومشيئته:
الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي.
سَمِعَ الرَّبُّ تَضَرُّعِي.
الرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي
(مزمور 6: 8، 9)
الرغبة في التغيير يتعامل الله معها بأنه يسمع ويستجيب يؤكد أول مزامير التوبة على أنَّ الله يسمع ويقبل. وهذا أمر مشجع لنا، نحن ندرك أنَّه مهما كانت حالتنا، ومهما كان ضعفنا، ومهما كان موقف الناس منا، ومهما كان الدمار الداخلي، ومها كان الانزعاج الخارجي، ومهما كان خوفنا، الله يتعامل معنا نقطة الضوء في وسط نفق الخطية المظلم لدي الإنسان هو أن الله ليس ببعيد عنا، فهو قريب جدًا منا.
بدأ المزمور بحالة من الخوف الرهيبة وصلت إلى الجسد والنفس، ولكن في النهاية نجد تأكيدًا كبيرًا على الثقة واليقين والطمأنينة. شخص واثق بالله وبعمله وبخلاصه، كما يثق في قدرته وعظمته.
هذه الرحلة هي رحلتنا نحن، فالتوبة معناها أن ننتقل من فكر إلى فكر أفضل، ومن اتجاه إلى اتجاه أفضل، من الخوف إلى الطمأنية، ومن اليأس إلى الرجاء. «اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ (مزمور 6: 2)، نجد عمل الله من خلال إحساناته من حيث هو «الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ» (مزمور 103: 4).
هل أنت خائف؟ هل أنت خائف من غضب الله على خطاياك، هل لديك رغبة أن تغير هذا الخوف؟ الله يريد ان يغير حياتك، فقط نثق به ونتكل عليه ونصرخ ونتضرع إليه.
تشخيص الواقع بدون رغبة في التغيير لن يجدي شيئًا، ولكن البركة الحقيقية في وصف الواقع مع الرغبة الحقيقية في التغيير، الله يسمع، ويستجيب، ويقبل الإنسان الخاطئ كما هو.
من خلال المزمور السادس نجد خمس نقاط هامة، وهي:
1- الله يقبل مشاعر الإنسان حتى الغاضبة منها، حتى عندما يصرخ الإنسان ويتساءل حتى متى؟
2- الله يؤدب ليس عن انتقام ولكن عن حب، ولكنه في نفس الوقت يستمع ويستجيب وفق إرادته ومشيئته،
3- الصراع جزء متوقع من الحياة، فالمرض والألم إما أن يدفعنا إلى ماهو أفضل أو إلى ما هو أسوأ والفرق بين الأثنين هو الإيمان والثقة بالله.
4- الله يقبلنا كما نحن دون أن نجمل من أنفسنا، وهذا القبول مشجع لكل شخص، فهو يأخذ دائما دور الأب المحب في لوقا 15 الذي قبل ابنه كما هو في حالته الصعبة.
5- معاناتنا يمكن أن يستفيد منها الآخرون كما أننا يمكن أن نستفيد من معاناة وتجارب الآخرين.
التوبة، وهي مدخل حقيقي للقداسة، تبدأ بوصف للواقع الإنسانيّ المؤلم في حالة الخطية، في رغبة حقيقية للتغير، يقابلها أنّ الله يسمع، ويستجيب، ويقبل. فننتقل من الخوف إلى الرجاء، والثقة واليقين في عمل الله وقدرته وخلاصه.
ماذا يفعل الله مع خطايانا؟
يقدّم لنا الكتاب المقدّس صورًا متعدّدة ومتنوعة لتعامل الله مع خطايانا، سأذكر أربع صور من تعامل الله مع خطايانا كلها جاءت بصور تعبيريّة وتشبيهية لتوضح لنا فكرة معينة، وهذه الصور، هي:
الصورة الأولى: الله يطرح خطايانا خلف ظهره
يقول إشعياء: «هُوَذَا لِلسَّلاَمَةِ قَدْ تَحَوَّلَتْ لِيَ الْمَرَارَةُ، وَأَنْتَ تَعَلَّقْتَ بِنَفْسِي مِنْ وَهْدَةِ الْهَلاَكِ، فَإِنَّكَ طَرَحْتَ وَرَاءَ ظَهْرِكَ كُلَّ خَطَايَايَ.» (إش 38: 17)، هذه الصورة تبين لنا أنَّ خطايانا خلف ظهر الله بمعنى أنَّه لا يراها ولا يتذكرها.
الصورة الثانية: يأخذها بعيدًا عنا
يقول كاتب مزمور 51 «لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ. كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ.» (مز 103: 11- 13). هذه التشبيهات تبين لنا أنَّ الخطية بعيدة كل البعد عنا فحين نعترف بها الله يبعدها عنا كبعد المشرق من المغرب.
الصورة الثالثة: تُطرَح في أعماق البحر
يتغنى ميخا بهذه الأنشودة عن الله، فيقول: «مَنْ هُوَ إِلهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ وَصَافِحٌ عَنِ الذَّنْبِ لِبَقِيَّةِ مِيرَاثِهِ! لاَ يَحْفَظُ إِلَى الأَبَدِ غَضَبَهُ، فَإِنَّهُ يُسَرُّ بِالرَّأْفَةِ.يَعُودُ يَرْحَمُنَا، يَدُوسُ آثَامَنَا، وَتُطْرَحُ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ جَمِيعُ خَطَايَاهُمْ. تَصْنَعُ الأَمَانَةَ لِيَعْقُوبَ وَالرَّأْفَةَ لإِبْرَاهِيمَ، اللَّتَيْنِ حَلَفْتَ لآبَائِنَا مُنْذُ أَيَّامِ الْقِدَمِ.» (ميخا 7: 18-20)، الخطايا في أعماق البحر، أي أنَّها بعيدة جدًا.
الصورة الرابعة: محو الخطية كالغيمة والسحابة
يقول إشعياء «قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ. اِرْجِعْ إِلَيَّ لأَنِّي فَدَيْتُكَ». (إش 44: 22)، المحو يعني أن الشيء لا أثر له أو الذنب لا أثر له، وكغيمة الشتاء تعبر، هكذا يتعامل الله معنا. الله يمحو خطايانا.
هذه الصور الأربع تبيّن لنا تعامل الله مع خطايانا حين نتوب يطرحها خلف ظهره، يأخذها بعيدًا عنا، تطرح في أعماق البحر، يمحوها كالغيمة والسحابة. ليس عند الله صندوق أسود، ولا كناشة الدكان، ولا دفتر يوميّة ليسجل فيهم خطايا البشر، فبعد الغفران لا وجود لخطايا لأنَّ الله يتعامل معنا من منطق الحب والرحمة.

القس عيد صلاح

قسيس في الكنيسة الإنجيلية المشيخية
راعي الكنيسة الإنجيلية في عين شمس القاهرة
باحث غير متفرغ في التراث العربي المسيحي له العديد من المؤلفات والأبحاث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى