القيامة والصعودقضايا وملفاتملفات دينية

القيامة ونحن

الهدى 1231                                                                                                                                    مايو 2021

«لقد دخل يسوع عالمنا من باب لم يُفتح إلا له، وخرج من نافذة لم تُفتح لغيره!»
هذه العبارة القصيرة -التي قالها أحد اللاهوتيين- تلخص لنا العقيدتين الرئيسيتين في الإيمان المسيحي، التجسد والقيامة. فكما كان يسوع متفردًا في ميلاده العذراوي، كان متفردًا أيضًا في قيامته من الموت. يقول جون ستوت عن القيامة: « إن جوهر المسيحية الأساسي يكمن في عقيدة القيامة، فمفهوم القيامة يُمثل قلبها، وبدونه تُهدم المسيحية.»
القيامة تثبت أنَّ يسوع المسيح بالحقيقة هو ابن الله (رومية 1: 4) وهي تُبرهن أيضًا أنَّ ذبيحة الخطية قد قُبلت وعمل الخلاص قد كمل، لأنَّ المخلص الميت لا يُمكن أن يُخلص أحدًا! لذا يقول الرسول بولس عن يسوع: «أُسلم من أجل خطايانا، وأقيم لأجل تبريرنا» (رومية 4: 25)
عندما نتأمل في شكل العلاقة بين التلاميذ والمسيح بعد القيامة، نجد أن هذه العلاقة مرت بثلاث مراحل متتالية، وهذه المراحل تمثل رحلتنا نحن اليوم أيضًا مع المسيح المُقام، في ثلاث مراحل:
المرحاة الأولى: القيامة رجاء
بلا شك كانت الليلة الأصعب على التلاميذ، ليلة القبض على يسوع. تبخرت آمالهم وأصيبوا بخيبة أمل كبيرة، لذا هربوا جميعا، ولم يتواجد أحد منهم عند الصليب، سوى يوحنا. ربما منهم من راقب الموقف من بعيد، وربما آخرون كان لديهم الأمل في هروب يسوع. لكن ضاع الأمل الأخير، ومات يسوع. اجتمعوا معًا بعدها في العُلية، ربما للمرة الأخيرة. هذه المرة يشرحها البشير يوحنا في الإصحاح العشرين، واصفًا التلاميذ بأنَّهم غلقّوا الأبواب الثلاثة: الباب الخارجي، الباب الموصل للعلية، باب العلية نفسها. السبب بالطبع هو الخوف من اليهود.
لكن بعدما اظلمت الحياة أمام التلاميذ وتاهت الطرق من بين أرجلهم، ظهر لهم يسوع في الوسط ليضئ بقيامته حياتهم من جديد. ظهر لهم وهم في أشدّ ساعات الحياة يأسًا وضيقًا وفشلاً، ظهر ليعيد لهم الرجاء والقدرة على البداية الجديدة.
بدأ أحد الوعاظ عظته يوم الجمعة العظيمة بهذه الكلمات: «أنّه يوم الجمعة، لكن يوم الأحد قادم!». وهي نفس الرسالة لكل من يجتاز الصليب، لكل من يعاني، لكل مظلوم. عندما يبدو الله غائبًا يكون هو قريبًا جدًا، تشجع، الكلمة الأخيرة ليست للصليب، بل للقيامة.
أول ما اختبره التلاميذ في رحلتهم بعد القيامة، هو الرجاء، فلم يعد هناك أزمة يستحيل على الله حلها. الموت، العدو الأكبر، انتصرت عليه قيامة يسوع، فلم يعد الموت عدوًا مخيفًا، كما كان، لأنَّ القيامة قهرته وجعلت منه عدوًا مهزومًا. وهو ما عبَّر عنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين:
«فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ.» (عبرانيين 2: 14، 15)
القيامة تغيير
العديد من النظريات التي هاجمت قيامة المسيح، مثل: نظرية الإغماء، والقبر الخاطئ، وسرقة الجسد، ومع أنَّ هناك العديد من الردود على هذه النظريات. لكنَّ، في اعتقادي، يبقى الرد والبرهان الأقوى على القيامة، هو التغيير الحادث في حياة التلاميذ أنفسهم. من أغلقوا الأبواب خوفًا من الموت، هم أنفسهم من كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم لأجل المسيح بعدها. مَن كانوا مُحبطين ومُختبئين ومقهورين، نجدهم مُبشرين بالقيامة في فرح وانتصار. بطرس، مثلاً، الذي أنكر أمام جارية يقف أمام كل القادة اليهود، قائلًا: «هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ الْمَوْتِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ..» (أعمال 2: 23-24).
نلمس هذا التغيير بوضوح أيضًا في مقابلات يسوع الشخصية مع تلاميذه بعد القيامة- الإصحاح العشرون من إنجيل يوحنا- بالنسبة لمريم المجدلية كانت القيامة تغييرًا من الحزن إلى الفرح (يوحنا 20: 1-18). وللتلاميذ كانت تغييرًا من الخوف إلى الشجاعة (يوحنا 20: 19-23)، وبالنسبة لتوما كانت القيامة تمثل له تغييرًا من الشك الى اليقين (يوحنا 20: 24-31). إذًا كانت كل هذه المقابلات «تخيلات» عن الرب المُقام، ما كان حدث تغييرًا في حياة التلاميذ بهذه الطريقة العجيبة!
إذًا القيامة ليس مجرد حدث يبهرنا لكنه أيضًا حدث يُغيرنا، ليس مجرد أمر يحدث لنا، لكنه أمرٌ يحدث فينا. وهو الأمر الثاني الذي اختبره التلاميذ في رحلتهم بعد القيامة. هذا الصراع الصعب بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، قد اجتازه التلاميذ بنجاح، فما كانوا عليه لم يبقوا فيه، فكانت القيامة لهم رسالة تغيير، رسالة بقاء الحال من المحال، وهي نفس الرسالة التي يدعونا إليها الرسول بولس: «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ.»(كولوسي 3: 1)
المرحلة الثانية: القيامة تكليف
الامتيازات يتبعها دائمًا التزامات، لذا المتأمل في المرات التي ظهر فيها يسوع بعد القيامة، يلاحظ أنه لم يكتف فقط بكلمات التشجيع، لكنه ينهي الحوار دائمًا بتكليف محدد لتلاميذه. وعلى سبيل المثال:
1- تكليف المسيح لمريم المجدلية، حيث أخبرها يسوع في نهاية حديثه معها وقت ظهوره لها بعد القيامة، قائلًا: «اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ».» (يوحنا 20: 17)
2- تكليف المسيح المُقام لبطرس، فبعد أن أعاد له مكانته الأولى، نجد المسيح بعدها مباشرة يكلفه برعاية قطيعه، قائلًا ثلاث مرات: «ارْعَ غَنَمِي» (يوحنا 21: 15، 16، 17)
3- تكليف المسيح لتلميذي عمواس (لوقا 24) بعد أن كانا عابسين، كسر يسوع معهما الخبز وانفتحت أعينهما. نجدهما بعدها قررا أن يعودا إلى أورشليم «رجعا إلى أُورشليم» (عدد 33-34)
4- التكليف الرابع للتلاميذ، تلمذوا جميع الأمم: في نهاية إنجيل متى، يكلف يسوع التلاميذ: «اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ.»(متى 28: 19-20)
المرحلة الثالثة: مرحلة الخروج والانطلاق
المرحلة الثالثة من رحلة التلاميذ بعد القيامة، كانت مرحلة الخروج والانطلاق، وهي بالطبع لم تكن أمرًا سهلًا أبدًا. اليهود والرومان لن يعطوا الفرصة لأي إنسان أن ينادي بقيامة يسوع، لأنَّ هذا يمثل فشًلا كبيرًا لسلطتهم وفضح كبير لكذبهم. لكن، وبالرغم من كل هذه المخاطر، تنطلق النساء وبعدهم التلاميذ مبشرين بالقيامة.
عندما تعمل القيامة فينا بقوتها، تستطيع أيضًا أن تستخدمنا بقوتها، فمسؤوليات القيامة تتساوى مع امتيازاتها، واستعدانا لتحمل تكليفها وتكلفتها، دليل فعلي على عملها في حياتنا.
لا يمكن أن نتقابل مع المسيح المُقام ونبقى صامتين في أماكننا، دون أن يكون لدينا شيئًا نُشارك به الأخرين. ليس في القيامة مجال ولا مكان لنفوس منطوية مُغلقة على ذاتها. تُرى كم ستختلف عبادتنا في الكنيسة لو أن كل شخص اختبر القيامة خرج ليُخبر عن لقائه الشخصي بالمسيح الحي. ربما فتور العبادة يعود في الأساس لاعتيادنا على هذا اللقاء لدرجة أننا فقدنا رهبته!
لعلنا ونحن نحتفل بعيد القيامة نعيش تلك الرحلة التي عاشها واختبرها التلاميذ مع يسوع المُقام، تُصبح:
القيامة لنا، رجاء، يوم الأحد قادم!
القيامة فينا، تغيير، كنا… وأصبحنا!!
القيامة من خلالنا، خروج وتأثير رغم كل التحديات!
ولعل المسيح المُقام أيضًا يُنادي عروسه، كنيسته، في عيد القيامة، بذات النداء القديم الذي جاء في سفر نشيد الأنشاد:
«قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَي. لأَنَّ الشِّتَاءَ قَدْ مَضَى وَالْمَطَرَ مَرَّ وَزَالَ. الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا. التِّينَةُ أَخْرَجَتْ فِجَّهَا وَقُعَالُ الْكُرُومِ تُفِيحُ رَائِحَتَهَا. قُومِي يَا حَبِيبَتِي يَا جَمِيلَتِي وَتَعَالَيْ» (نشيد الأنشاد 2: 10-13)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى