الإصلاح والليتروجيا
الهدى 1236 أكتوبر 2021
الليتروجيا كلمة يونانيَّة مُركَّبة مِن كلمتَيْن: وتعني حرفيًّا «عمَلُ الشَّعْب». يُقدِّم لنا هذا المعنى مَفهومًا لاهوتيًّا هامًّا عن العبادة، وبالتَّالي، فالعبادةُ المُتمَرْكِزة حول شَخصٍ واحدٍ، يستأثِر فيها بقيادة وتقديم مُعظَم بنودها وفقراتها، بينما يكون المُتعبِّدون مُجرَّد مُتفرِّجين، هي في الواقع ليسَت عبادة كتابيَّة.
أمَّا مِن جانبنا، كقسوس، يجِب أنْ نعترف أنَّ مُعظمنا كان يفعل، أو ما زال يفعل ذلك. ربَّما لو كانت الكنيسة صغيرة يكون الأمر مقبولاً، لكنَّه ليس من الصَّواب على كل حالٍ. مِن هنا تظهر أهميَّة «الليتروجيا» كعملٍ شعبوي. أمَّا «عِلم الليتروجيا» فهو ذلك الفَرع من الدِّراسات اللاهوتيَّة المُتعلِّق بالعبادة وكلِّ عناصرها، ويدرس تاريخها ونشأتها وتطوُّرها وكلُّ ما يتعلَّق بها.
الإصلاح
أمَّا ونحن في زمن الاحتفال بمناسبة الإصلاح الإنجيلي، يبدو أنَّ المُصلحين أخذوا النَّقيض مِن ليتروجيَّة العبادة في الكنيسة آنذاك، ليفتحوا الباب على مصراعيه لما دُعي بحُريَّة العبادة. فظهرت ثلاثة اتِّجاهات فكريَّة في هذا الشَّأن: الأول، يرى أنَّ العبادة الحقيقيَّة هي كلّ الحياة، ولا تقتصِر على الوقت الذي يقضيه المُتعبِّدون معًا في الكنيسة (رأي المُصلِحون). الثَّاني، يرى أنَّ مجموع الفقرات الطَّقسيَّة هي العبادة الحقيقيَّة، عندما تُمارس بحسب الليتروجيَّة (رأي التَّقليديُّون). والثَّالث، يرى أنَّ فقرةً بعينها هي العبادة، بعضهم يرى أنَّ التَّسبيح هو العبادة، وآخَر يرى أنَّ العِظة هي العبادة (رأي بعض الإنجيليّين)، وكلٌّ يبحث عن تعزية روحيَّة في الجُزء الذي يظُنُّ أنَّه هو العبادة. أمَّا المُصلحون، فإنَّهم يفتخرون على الأغلب بالاتِّجاه الأول فقط، كردِّ فِعل للاتِّجاه الثَّاني الذي يبدو تقليديًّا.
عندما تحدَّث المُصلِح «جون كلفن» عن جوهر المسيحيَّة، قال إنَّها أولاً العبادة الصَّحيحة. ذلك لأنَّ الوصايا الأربع الأولى تختصُّ بالعبادة الصَّحيحة، والتَّحذير مِن الانحراف إلى أشكال العبادات الوثنيَّة. رأى «كلفن» أنَّ ليتروجيَّة الكنيسة آنذاك كانت تتضمَّن كثيرًا مِن الفنون والتَّماثيل والزَّخارف والرُّموز، التي تعيق العبادة الصَّحيحة، لأنَّها تحوَّلت مع الوقت إلى هدفٍ أساسٍ. وفي الوقت نفسه، أدرك «كلفن» صعوبة أن يتخلَّى النَّاس عن أسلوب العبادة الذي اعتادوه، وأيضًا صعوبة إقناعهم بأنَّ الله لا يقبَل كلّ ما يتعارض مع كلمته المقدَّسة. وعليه، نادى بأنَّ العبادة الصَّحيحة يجب أن تتمحوَر حول كلمة الله، وأن تتميَّز بالبساطة. لذلك، استخدم ليتروجيا فيها مساحات كبيرة من القراءات الكتابيَّة وترانيم المزامير، مع التَّشديد على أهميَّة الوعظ باستقامة بكلمة الله.
خِبرة شخصيَّة
عندما تركتُ الخدمة الرَّعويَّة في مصر، مُنذ أكثر مِن رُبع قرنٍ مضى، كان مفهوم العبادة وقتئذ مُقتصرًا على الاتِّجاه الأول بنسبة كبيرة (الحياة كلّها عبادة). وكان القسيس هو مَن يُحدِّد التَّرانيم ويقودها، وربَّما يعزفها، وهو الذي يعِظ ويُصلي. أمَّا دور الجمهور فكان مُقتصِرًا على المشاركة في التَّرنيم، وتقديم العطايا، والطَّلب من أحد المُتعبِّدين أن يُصلي عن الشَّعب، وكانت كلّ الصَّلوات ارتجاليَّة. وقد كانت هناك استثناءات في نطاق مَحدود جدًّا. أمَّا في سينودس سوريا ولبنان، فكان الاعتماد في العبادة الجمهورية على نظام ليتوروجي، إلى جانب الروزنامة الكنسية التي تحدِّد قراءات كتابية بعينها، مع موضوعات الوعظ طوال العام، لكلِّ أربع سنوات. كان هذا الأمر جديدًا بالنِّسبة لي، ومع الوقت فهمت هدفه الأساس.
عندما عُدتُ إلى وطني الغالي، بعد هذه الغَيْبة الطَّويلة، وجَدتُ كنيسةً مُختلفة كثيرًا عن تلك التي تركتُها، خاصَّةً فيما يخُصُّ العبادة الجمهوريَّة. لم تكُن مُفاجِئة بقدر ما كانت صادِمَة، هزَّتني وكسرت قلبي. صحيحٌ أنَّه كان لابُدَّ من التَّطوير، خاصَّةً فيما يتعلَّق بمُشاركة خُدَّام آخَرين في قيادة العبادة، لكن كانت لي بعض الملاحظات، وقد شاركتُ بها بعض الزُّملاء الأعزَّاء، وهذه بعضها:
أ. لم يعُد القسيس هو المُعلِّم والمسؤول الأول عن الوعظ والتَّعليم: بل أصبح كلّ من لديه بعض التَّأمُّلات الروحيَّة، ويُجيد الكلام، يقِف على المنبر ويُعلِّم ويُفسِّر كلمة الله. الأمر الذي أفسَح المجال لكثيرٍ من المعتقدات غير المشيخيَّة وغير الكتابيَّة، التي طمَسَت، مع تكرارها، الهويَّة الإنجيليَّة.
ب. اختفاء كتاب التَّرنيم من الكنيسة: ومعه اختَفَت التَّرانيم الأصيلة لاهوتيًّا ولُغويًّا وموسيقيًّا، ليحُلَّ محلَّها كثيرٌ من المقاطع القصيرة ذات المضمون الواحد، الذي يضَع الإنسان في المركز، ويضَع الله كوسيلة لتحقيق رغبات وطلبات ذلك الإنسان.
ج. تحول قائد الترنيم إلى واعظ ومفسرٍ: في مرَّات كثيرة كنتُ أرى قائد فترة التَّرنيم (وغالبًا يكون ضَيْفًا على الكنيسة) يتحوَّل إلى واعِظ ومُفسِّر، ويحكي عن بطولاته الإيمانيَّة، ويضغط على المُتعبِّدين ليُرنِّموا بأسلوبٍ مُعيَّن… الخ. وكثيرٌ منهم كانوا يقومون بعمل أشياء أشبه بـ «تحضير الأرواح»، وهم يستحضرون الرَّبَّ ليأتي وقت العبادة (كما يظنّ). وأحيانًا ينصرف ذلك المرنِّم بعد فترة التَّرنيم وقبل العظة.
د. أصبح المايكروفون، بيد الواعظ أو المُرنِّم أو الكورال، هو الأساس، وليس الرِّسالة: وبالتَّالي أصبح التَّركيز على أجهزة الصَّوت والضَّوء والكاميرات. فأصبحت الموسيقى صاخِبة، والأضواء مُبهِرة، والصَّراخ عاليًا. أمَّا المنبر فقد وُضِع في مكان جانبيٍّ ليُفسِح المجال للكورال، ليس مكانيًّا فقط، بل من حيث المكانة أيضًا. ولم أستطع تمييز كثير مِمَّا كان يُرنَّم، ما لم تكُن هناك شاشة لعرض الكلمات، بسبب تشتُّت سمعي وبصري. يبدو أن هذه أصبحت طقوس العبادة الإنجيليَّة اليوم.
ه. أصبح اهتمام الواعظ الأكبر إرضاء المشاهِد ودغدغة مشاعره، سواء وهو يجلس في الكنيسة أو يتابع الخدمة على شاشة في المنزل. وأصبحت فُرصة العبادة أشبه ب «طَبَق كُشَري»، يضُمّ كلّ أنواع الحبوب. فالتَّرانيم غير مُترابطة، وغير مُرتبطة بموضوع العِظة، ولا بموضوعٍ واحدٍ مُحدَّد، هي فقط لأنَّ المرنِّم يُحبّ أنْ يرنِّمها، أو بحسب ما يطلبه المُتعبِّدون. والعظة في وادٍ والتَّرانيم في وادٍ آخَر، والصَّلوات في وادٍ ثالث. ناهيك عن الأخطاء اللغوية الكثيرة، في التَّرانيم والقراءات… وحَدِّث ولا حَرَج.
تَقدُّم أمْ تَقهقُر؟
تلك كانت خبرتي الشَّخصيَّة، وأظنُّ أن هناك من يشاركني ذلك الهمّ. هناك مَن يرون في ذلك تَقدُّمًا للأمام، وهناك مَن يرونه تقهقُرًا إلى الوراء. السُّؤال المهمّ الآن: «مَن المسؤول عن ذلك التَّغيير الذي يراه البعضٌ أنَّه تزوير؟ هل هو نوع من الكسَل أو الإحراج من جانب الرَّاعي؟ أمْ هو تناسي الهُويَّة المشيخيَّة، من جانب الرَّاعي والشُّيوخ والخُدَّام القادة؟ أَم كليَّة اللاهوت، أَم المجامع، أَم السُّنودس؟». لكن السُّؤال الأهَمّ: «مِن أين نبدأ إصلاح الإصلاح، ونستمرُّ في الإصلاح؟». الخطوة الأولى، بحسب رؤيتي، هي عدم التَّهليل لكلِّ ما هو جديد ومُبهِر وجذَّاب، وعدم التَّهوين من حجم المشكلة، فلا علاج لمَن لا يعترف بمرضه.
كلمة السِّرّ هي «ليتروجيَّة». كثيرٌ مِن الزُّملاء أفصَحوا عن حاجة الكنيسة الماسَّة اليوم لليتروجيَّة عبادة مٌنظَّمة هادِفة مُتوازنة كتابيَّة وروحانيَّة. هل هذا مُفيدٌ؟ نعم، وهذه بعض فوائده وبركاته:
أ. الليتروجيَّة تعني تنظيم العبادة، الأمر الذي يجعل الجميع، خُدَّامًا ومخدومين، يتعمَّقون في العبادة الجماعيَّة، من خلال إدراك ما الذي يفعلونه، ولماذا، في كلّ جُزء من أجزاء العبادة، وبيان هدفه الحياتيّ.
ب. أنْ يَعرف الرَّاعي أو الخادم أو القائد بالتَّفصيل والتَّدقيق واجباته في قيادة فقرات وفترات العبادة، مِن ترنيمٍ أو وعظٍ أو قراءة كتابيَّة أو صلاة، فيؤدِّي خدمته بالشَّكل الأفضَل والملائم لما تحويه مِن معانٍ ومفاهيم، وليس بشكلٍ آليِّ أو تقليديّ. كذلك يجِب أن يشترك المتعبِّدون بوعي وفاعليَّة، وليس بطريقة آليَّة أو ارتجاليَّة أو مَزاجيَّة.
ج. معرفة ما هو أساسيٌّ في العبادة، وما هو ثانويٌّ وشَكليٌّ وعابِرٌ. ما الذي يُمكِن أن يتبدَّل ويتغيَّر ويتطوَّر، وما الذي يجب أن يكون ثابتًا كالصَّخر؟
مركز العبادة
عندما وضَعتُ إعلانًا عن بَدء خدمة «مركز مرثا روي للعبادة» على صفحة المركز على فيسبوك (MRCW)، الذي يستهدِف بدرجة كبيرة إحياء ليتروجيَّة العبادة، كتب لي أحد الأصدقاء، وهو مِن خارج مصر، انتقادًا شديد اللهجة، مُعتبرًا أنَّ «الليتروجيا» مِن عمل الضَّلال، وأنَّ ذلك المركز لن يُعلِّم إلاَّ الجَهْل!! التمَسْتُ له العُذر، لأنَّ مفهوم تلك الكلمة عنده مُرتبطٌ بطقوس الكنائس التَّقليديَّة، وهو يعتبر نفسه أحد أكبر المُدافعين عن الإنجيليَّة والمشيخيَّة. وهذا واردٌ أيضًا لمَن لا يعرف معنى الكلمة، ولا يعرف أصول الإصلاح. لكن، ما أثلجَ صدري أنَّ بعض الزُّملاء الأفاضل يعملون على كتابة وإعداد ليتروجيَّة خاصَّة بنا، أي ترتيب خدمة العبادة الجمهوريَّة بما يتناغَم مع كلمة الله، ويكون ببساطة. ربَّما قريبًا ترى النُّور، وتجِد العقول والقلوب التي تتلقَّاها بوعي وغَيْرة وحماسَة، وتُوازُن بين المعنى الواسِع للعبادة، والمعنى الليتورجي، «وليكُن كلُّ شيءٍ بلياقةٍ وبحسَب ترتيبٍ» (1كو 14: 40)، ومِن ثمَّ تصحيح ما هو غير صحيح في العبادة الجمهوريَّة. فليس هناك أخطَر على خلاصنا من عبادةٍ غير كتابيَّة.