دراسات كتابية

فيبي، وخدمة الدياكونية

الهدى 1250-1251                                                                                                          يوليو وأغسطس 2023

عندما اتَّسَعَت الكنيسة وزاد عدد المؤمنين بالمسيح، تعَسَّر الرُّسل في إتمام كافَّة مسؤولياتهم الروحيَّة والزمنيَّة. وحتَّى لا يُهْمَل أيّ عضو في الكنيسة، وحتَّى يتفرَّغوا هُم للخدمة الروحيَّة، فقد اقتَدوا بموسى في تدبيره الإداري (خروج 25:18). فأوكَلوا لغيرهم بعض سُلطاتِهم الإداريَّة، لكي يُخَفِّفوا عنهم العَناء، ولكي تُحْسِن الكنيسة خدمتها واهتمامها بكلِّ أبنائها. وبذلك أنقذوا الكنيسة مِن خَطَر الانشقاق بسبب توزيع الإعانات. تلك كانت الأسباب التي دَعَت الرُّسل لتأسيس خدمة الشّموسيَّة. وهناك بعض الحقائق المهمَّة التي يجب أنْ نضعها في الاعتبار أوَّلًا:
(1) لم يضَع المسيح نظامًا إداريًّا للكنيسة، كذلك الرًّسل، لقد تركوا ذلك حسب ما تقتضيه الحاجة، بإرشاد الرُّوح القدس للقادة والأعضاء. لقد أعطى المسيح المؤمنين حريَّة الفِكْر، والاستجابة للحاجة بعد دراستها، والإصلاح المُستمِر، لكي يُتمِّموا خدمتهم.
(2) تظهَر مُهمَّة الكنيسة في جانبَيْن: الرُّوحي التَّعليمي، والإنساني الاجتماعي. المُهمَّة الأولى كان يقوم بها الرُّسل والقسوس والرُّعاة. أمَّا الثَّانية فكانت تقوم بها مجموعات أخرى مُكلَّفة، كالشُّيوخ والشَّمامسة، تكون لأعضاء تلك المجموعات مواصفات مُحدَّدة. وعلى الكنيسة ألَّا تهتمّ بمهمَّة وتُهمِل الأخرى.
(3) لا يستطيع خدَّام الكنيسة، من القسوس وحدَهم أو الشّيوخ وحدَهم، في مُعظم الأحيان، الاعتناء بكافَّة الشُّؤون والخدمات الكنسيَّة. الأمر الذي تطلَّب مِن أولئك، إشراك مجموعات أخرى معهم في تنفيذ خُططهم ورؤيتهم في خدمات الكنيسة.
(4) إنَّ الاعتناء الرُّوحي بالنُّفوس أهمّ جدًّا مِن الاعتناء بالأجساد. لذلك، على خدَّام الكلمة أنْ يبذلوا جَهدًا في خدمتهم الرُّوحيَّة، يكون أكبر مِن خدمتهم الزَّمنيَّة.
خدمة الشّموسيَّة
لا ترِد كلمة «شمَّاس» في ترجمة فاندايك-البستاني العربية للعهد الجديد إلَّا مرتَيْن (فيلبي 1:1، 1تيموثاوس 8:3). أمَّا الكلمة اليونانيَّة «دياكونوس» التي تُترجَم «الخدمة العمليَّة»، فقد ورَدَت في العهد الجديد مئة مَرَّة. حيث قِيلَت عن المسيح وعن الرُّسل وعن النِّساء اللواتي كنَّ يَخدمْن المسيح والكنيسة. وفي (1تيموثاوس 3) يذكُر بولس الصِّفات الواجب توافرها في الأسقف (أو الرَّاعي أو الشَّيخ)، ويليها مُباشرةً الصِّفات الواجب توافرها في «الشَّمَّاس»، أي الذي يقوم بالخدمة العمليَّة. وهي الصِّفات التي تتلاءم مع المسؤوليَّات الماليَّة والتَّدبيريَّة، والخدمات الاجتماعيَّة والإنسانيَّة. ومع أنَّ كلَّ عضو في الكنيسة يجِب أنْ يكون خادمًا (دياكونيًّا)، إلَّا أنَّ وجود مجموعة في الكنيسة تتحمَّل تلك المسؤوليَّة أمْرٌ واجِب.
الأساس الكتابي الأوَّل لتلك الخدمة من (أع 6)، الذي يُبيِّن فيه لوقا الحاجة التي أدَّت إلى تأسيس تلك الخدمة. ويذكُر الصِّفات التي اعتمدها الرُّسل في أولئك الشَّمامسة (ع 3) لكي يحملوا مسؤوليَّة الخدمة العمليَّة: مشهودًا لهم، مملوئين من الرُّوح القدس، مملوئين حِكمة. ويذكر اثنيْن مِن بين سبعة شمامسة تمَّ اختيارهم، استفانوس وفيلبُّس، ويقدِّم لقرَّائه لَمْحَة مِن خدمتهما الرُّوحيَّة الكرازيَّة، وليس فقط التَّدبيريَّة التي أُقِيما عليها، أيْ خدمة الموائد (العناية بالفقراء والمُحتاجين).
أمَّا المُصلِح جون كلفن، الذي أنعش الكنيسة بعد أنْ كانت في سُبات عميق، بالعودة إلى كلمة الله، وأسَّس النِّظام المشيخي، فقد كان مِن أعظم دارسي الكلمة، ونظَّم الأفكار الكتابيَّة، وسلَّط الضَّوء على ما كان مَنْسيًّا ومُهمَلًا، إنْ في العقيدة أو النِّظام الكنسي. في شرحه لخدمة الكنيسة، قدَّم أربعة أنواع من الخدمات:
(1) الرَّاعي: يقوم بإعلان الحقّ الإلهي، وشرْح ونَشْر الكلمة لجميع النَّاس، ومُمارسة الفرائض، والعمل على نموّ الحياة الرُّوحيَّة.
(2) المُعلِّمون: يقومون بمُهمَّة التَّعليم الكتابي، والسَّهَر على سلامة العقيدة واستقامتها. إنَّ الرَّاعي هو المسؤول الأوَّل عن التَّعليم الكتابي في الكنيسة، لكن هناك مجموعة أخرى تُعاونه في تلك المهمَّة، حسب الحاجة.
(3) الشُّيوخ: يقومون بمُهمَّة الإدارة والإشراف على تطبيق لوائح وأنظمة الكنيسة. وقد أعطى كلفن اهتمامًا كبيرًا بخدمة الشُّيوخ ودورهم منذ عام 1537م.
(4) الشَّمامِسة: تشمل خدمتهم جانبَيْن على الأقلِّ: الإشراف على الأمور الماليَّة والماديَّة الكنسيَّة، بالاهتمام باحتياجات الفقراء، وتوزيع العطايا والنَّفقات. وزيارة المرضى والفقراء والأرامل.
ويعتقد كلفن أنَّ تلك الخدمات الأربع هي في غاية الأهميَّة، لأنَّ الله قد مَنَحَها للكنيسة حتَّى يكون كلُّ شيء فيها بنظام وترتيب، فيستخدِمها الرُّوح القدس لانتشار ملكوت الله. وما يهمَّنا هنا هو أنْ ننتبه لخدمة الشُّموسيَّة، لأنَّها إحدى الخدمات الأساسيَّة في الكنيسة، وجميع الكنائس التي أخذت بالنِّظام المشيخي أخذت أيضًا بنظام الشُّموسيَّة. ليس فقط باعتباره نظام كلفينيّ، بل باعتباره تعليم كتابي واضِح.
المرأة في الخدمة الرُّوحيَّة والتَّدبيريَّة
يُنظر إلى المرأة في اليهوديَّة باعتبارها شيءٌ وليست شَخصًا، وهي تبقى تحت رَحمة أبيها ثمَّ زوجها. وليس لها حَقّ العبادة مِثل الرِّجال. أمَّا عند اليونانيِّين فقد كانت مُجرَّد وسيلة لإمتاع الرَّجل، وكان دورها في هياكل العبادة هو دور العَاهِرة المُقدَّسة، التي تغوي الرِّجال على العبادة، بحسب الطُّقوس الوثنيَّة وقتئذ. أمَّا في المسيحيَّة فالأمر اختلف اختلافًا جوهريًّا. لقد رَفَعَ المسيح مِن شأن المرأة، وأعاد إليها حقوقها المَسْلوبة، وأعطاها مكانَةً ومكانًا في الخدمة معه. فجاء مولودًا مِن امرأة، وقَبِلَ كثيرات مِن النِّساء معه في التَّبشير، وقَبِلَ مِنْهُنَّ المُساعَدات الماليَّة (لو 3:8). وأوَّل مَن حمل بشارة قيامته من الأموات كانت مريم المجدليَّة. لقد كان للمرأة دورٌ رائعٌ في خدمة المسيح، والكنيسة منذ انطلاقها. كذلك في عصر الرُّسل كان للمرأة دور بارز ومهمّ في الخدمة التَّبشيريَّة والتَّعليميَّة والتَّدبيريَّة. وفيبي الشمَّاسة واحدة مِنهُنَّ.
الشَّماسة فيبي
«فيبي» اسم يوناني يعني: البهيَّة، المُضيئة. وهو مِن (فوبيوس) اسم آلِهَة القَمَر عند اليونانيّين. كانت فيبي وثنيَّة وقد قَبِلَت الإيمان المسيحي أثناء كرازة بولس الرَّسول. يذكُرها بولس باسمها، والخدمة الدِّياكونيَّة التي كانت تقوم بها في كنيسة في ميناء (كنخريا) شرق كورنثوس. والمواني عادةً تكون أشَرّ الأماكن، وأكثرها تعرُّضًا للفساد. لكن فيبي كانت مِن ذلك الطِّراز القويّ، إذْ حافَظَت على شرِكَتها العميقة مع الرَّبّ، رُغم الفساد الذي أحاط بها. فسجَّل الوحي المُقدَّس اسمها ضِمن قائمة أبطال الإيمان والخدمة، لأنَّ تلك البطولات غير مُقتصِرَة على الرِّجال. وفي ختام رسالته إلى كنيسة روما، يسجِّل بولس تحيَّات حارَّة لعِشْرين رجلًا وتِسْع نساءٍ مِن شُركاء وشريكات الخدمة. على رأس تلك القائمة فيبي الشَّمَّاسة المُتميِّزة، مُعطيًا إيَّاها لَقَب: «خادِمة الكنيسة»، مُستخدِماً كلمة (دياكونوس) اليونانيَّة أي الشَّمَّاسة.
ويقول عنها: «أُخْتَنا.. خادِمة.. صارَت مُساعِدة لكثيرين، ولي أنا أيضًا»، ما يعني أنَّها كانت:
(1) مُتوسِطة العُمر. لا نعلم إذا كانت مُتزوجة أو أرملة. أمَّا كلمة «أُختَنا» فتعني: رفيقتنا، زميلتنا، شريكتنا في الخدمة.
(2) ذات شخصيَّة قويَّة مُؤثِّرة، نشيطة جدًّا، تتحرَّك في الحياة بحيويَّة وحماسة، وتساعد الخدَّام والمخدومين.
(3) مُثقَّفة، إذْ تحمِل رسالة لاهوتيَّة صَعبة كرسالة روميَّة، ليس لتقوم بتوصيلها فحَسْب، بل بشَرحها متى لزم الأمر. قال المُفسِّرون عن تلك الرِّسالة إنَّها المَدخَل المفتوح لكنوز الكتاب المقدس المُخفاة. فلا بُدَّ أنَّ فيبي كانت مُستَعِدَّة أنْ تشرَح ما يبدو غامِضًا في تلك الرِّسالة التي حَمَلَتها، وتقدِّم للأجيال أعظم كنز.
(4) غنيَّة وميسورة الحال، إذْ استطاعَت أنْ تُساعِد بولس وكثيرين أيضًا. ولعلَّ بولس عاش في بيتها عندما كان مريضًا. كما كانت على اتِّصال ببعض الأغنياء، الأمر الذي ساعدها في توفير المال اللازم لتقديم الإعانات المناسِبة للمُحتاجين.
(5) مُعلِّمة في الكنيسة، فإذْ كانت تقيَّة مُثقَّفة مُحَنَّكَة، استطاعت أنْ تساعِد مَن هم في تجارب وضعفات، وتعلِّمهم تعاليم المسيح ليتقوَّوا في الإيمان. فكانت تُعين الكبار وتُشجِّع الصِّغار.
(6) مُعِيْنَة، فكلمة «مُساعِدَة» في الأصل تعني: رئيسة مُدبِّرين، إسعاف، نَجْدَة، مُساعِدَة فوق العادة.
(7) وخادمة، إنَّ وصفها بـ«خادمة الكنيسة» يخُصَّها بمكانة مُميَّزة بين خدَّام تلك الكنيسة. فلو قال «خادمة في الكنيسة» لكان المعنى أنَّها إحدى الخادمات في الكنيسة، لكنَّه ميَّز خدمتها في الكنيسة، وذَكَرَها بالتَّخصيص «خادمة الكنيسة». وطلب مِن الكنيسة أنْ تعمل على تسهيل مُهمَّتها الكرازيَّة والتَّعليميَّة والدِّياكونيَّة، والقيام بأيِّ شيء احتاجته (رو 16: 1-3).
إنَّ بولس بتلك الكلمات القليلة رسم لنا صورة رائعة دقيقة رقيقة عن فيبي: الشمَّاسة، المُدبِّرة، المُساعِدة، المُشجِّعة، التي كانت تعمل معه عَمَله الرَّسولي والكرازي والتَّعليمي، وعملها الدِّياكوني. كما يرسم بذلك نموذجًا لخدمة الشّموسيَّة، الخدمة العمليَّة، الدِّياكونيَّة: شَرْح الرِّسالة المسيحيَّة، إسناد الضَّعيف، تشجيع الصَّغير، جَمع وتوزيع الإعانات، الإنفاق، والإسعاف.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى