رئيس التحرير

القيامة بين الماضي والحاضر والمستقبل

الهدى 1254-1255                                                                                                          مارس وأبريل 2024

تُسجِّل البشائر الأربع أنَّ يسوع المسيح، صُلِبَ وماتَ ودُفِنَ، وظل في القبرِ مدة ثلاثة أيام، لكنَّه مع إشراقة شمس يوم الأحد، اليوم الثالث قام منتصرًا ظافرًا، هازمًا الموت، قائلًا: «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1كورنثوس 15: 55). وفي حين تؤكد المصادر المسيحيّة، وشهادة التلاميذ والرسل، وشهود العيان، وظهورات المسيح المُقام، حقيقة وتاريخيّة قيامة المسيح، فإنَّ قيامة المسيح تبقى حدثًا فريدًا، لم يسبقه إليها أحدًا، كانت عبورًا من الموت إلى حياة الأبد، الحياة التي لا تعود إلى الأرضيّات أو الجسديَّات فحسب، وتنتهي ثانيّة بالموت، لكنَّها حياة أبديّة، بدأت ولن تنتهي، نعم، سجِّل الكتاب المقدس أنَّ بعضًا من الموتى في العهد القديم، وفي العهد الجديد، اختبروا الموت والقيامة، لكنَّه يُخبرنا أيضًا أنَّ جميعهم ماتوا ثانيّة، عدا واحدٌ فقط، قام وانتصر على الموت، ودخل إلى حياةٍ هو مصدرها، حياة خارج الزمان والمكان، إنَّها الحياة الأبديّة.
إنَّ قيامة يسوع المسيح، هي الأساس الذي تقوم عليه المسيحيّة، كما أنَّها النقطة المركزيّة في تاريخ فداء الله للبشريّة، نعم، في الصليب قدَّم المسيح ذبيحته الكفاريّة، لكنَّ في قيامته من الموت أكدَّ الله قبول ذبيحة المسيح، وتكفيره عن خطايا البشر، يكتب الرسول بولس: «وَتَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ: يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا.» (روميّة 1: 4).
لقد رأى التلاميذ يسوع مصلوبًا، فخافوا وهربوا واختبأوا، لكنَّه حين قام، ظهر لهم، شجَّعهم، وشدَّدهم، ولمسته أيديهم، ولمدة أربعين يومًا ذكَّرهم بكل ما علَّمهم، وتبدَّل خوفهم بشجاعة لا نظير لها، وأصبحوا شهودًا لقيامته، غير مبالين بموتٍ قد يحدق بهم، أو ينال منهم، لقد تغيَّرت حياتهم وعِبادتهم، وأصبح يوم قيامة المسيح عيدًا يجتمعون فيه، يُسبحون الله، ويدرسون كلمته، ويخرجون يكرزون به، مُحققين وصيته، التي أوصاهم بها قائلًا: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ. فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». (متى 28: 18-20). فمع أنَّ حدث القيامة، كان حدثًا تاريخيًّا، حدث في لحظةٍ محددة في التاريخ، إلَّا إنَّه حدثٌ يُعاش كل يومٍ، ويُحتفى به صباحُ كل يوم أحدٍ، وتُنشِدُ فيه الكنيسة ترانيم الظفر والانتصار، متطلعةٍ إلى يومِ اللقاء مع ذاك الذي سبق وقام، وأقامنا معه. لذا دعونا نحيا القيامة كحدثٍ وحقيقة تاريخيّة، وفي ذات الوقت نعيشها كواقعٍ نحياه كل يومٍ، منتظرين حدوثها كحدثٍ مستقبلي يمنح حياتنا سببًا للأملٍ والابتهاج.

1) القيامة حقيقة تاريخيّة يجبُ الاحتفال بها
لا نجدُ في التاريخ سوى قيامة جسديّة حقيقيّة واحدة، وهي قيامة يسوع المسيح. نعم، لقد أقام يسوع أثناء خدمته وحياته على الأرض، ثلاثة أموات: ابن أرملة نايين، وابنة يايرس، لعازر (لوقا 7؛ لوقا 8؛ يوحنا 11). لكنَّ هؤلاء جميعًا ذاقوا الموت ثانيّة، وهكذا كُلٌّ مَن سجَّل الكتاب المقدس أنَّهم قاموا من الموت، عاد وأكَّد على أنَّهم ماتوا ثانيّة، لكنَّ المسيح وحده هو الذي سجَّل الكتاب المقدس أنَّه مات، وقام، وصَعِد إلى الأعالي، وهو يجلس الآن في يمين العظمة فـ «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.» (يوحنا 3: 13؛ راجع أيضًا عبرانيين 1: 3)، وهكذا نرى ونؤمن أنَّ قيامة يسوع المسيح، تُمثِلُ حجر الزاوية الذي تقوم عليه المسيحيّة، وحياة الإيمان المسيحي، فمن دون القيامة، لا توجد مسيحيّة، ومع ذلك، فإنَّ القيامة ليست مجرد عقيدة أو فكرة من أفكار العهد الجديد. يُخبرُنا سفر العبرانيين أنَّ إبراهيم كان لديه مثل هذا الإيمان، حتى أنَّه آمن أنَّ الله سيقيم ابنه إسحاق من الأموات، «بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ … إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ أَيْضاً» (عبرانيين 11: 17-19).
لقد مات المسيح، فكان موته بوابة غفران الله لخطايانا، لكنَّه قام ثانيّة فنلنا بقيامته تأكيد تبريرنا من كل خطيّة، «الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (روميّة 4: 25)؛ إنَّ قيامة المسيح حدثٌ حقيقي، حدث في لحظة تاريخيّة، فأسس لحياة الانتصار والفرح، وسط الألم والمعاناة، كما منح لحياتنا هُنا في العالم، معنى وهدف تقوم عليه كل أوجه خدمتنا، يقول الرسول بولس: «إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ. وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلَّهِ لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ اللهِ» (1كورنثوس 15: 14-15)؛ فلو لم يكن المسيح قد قام حقيقة، لما كانت هناك مسيحيّة من الأساس، فالمسيحيّة، وحياة الإيمان المسيحي، لا تقوم على عقائد، أو أفكار ساميّة، أو أخلاق فائقة، لكنَّها تقوم على قيامة المسيح نفسه، فلو لم يكن المسيح قد قام، فباطلة كرازتنا، وإيماننا، وخدمتنا، وشهادتنا. هذه الجوانب التي أكدَّتها حياة التلاميذ والرسل، حينما قدَّموا حياتهم في سبيل كرازتهم وشهادتهم لقيامة المسيح.
وستبقى قيامة المسيح الحدث الأعظم في تاريخ الخلاص، بل في تاريخ البشريّة جمعاء، لأنَّها تعطي معنى إسخاتولوجيًا للفداء. فإنَّ كان المسيح موضوع الكتاب المقدس، والصليب أداة الفداء، فإنَّ قيامة المسيح تعني أنَّ الخلاص تمَّ كاملًا، وخطة الله تحققت بالانتصار على أخر عدو يُبطل وهو الموت (1كورنثوس 15: 26).

2) القيامة حقيقة حاضرة يجبُ أن نختبرها ونتمتعُ بها
يؤمن المسيحيّون عبر التاريخ، وفي أنحاء العالم كافة، بحقيقة وتاريخيّة قيامته المسيح، ويجتمعون صباح كل يوم أحدٍ للعبادة والتسبيح لله، إنَّه اليوم الذي يَحتفي به المسيحيون بقيامة المسيح، فكل يوم أحدٍ هو يوم ذكرى الانتصار الرائع والفريد الذي صنعته قيامة المسيح، إنَّه اليوم الإسبوعيّ الذي نتذكر فيه غفران وتبرير الله لنا في المسيح المُقام.
إنَّ قيامة المسيح، تفتح لنا بابًا لاختبار القيامة في حياتنا اليوميّة، فلم تعد للخطيّة قوة، ولم يعد للموت شوكة، بل أصبح للمسيحي فرصة أن يحيا قوة القيامة، هذا ما كتبه الرسول بولس: «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (فيلبي 3: 10)، قيامة المسيح تقودنا في موكب نصرته كل يوم، وإلى أن يأتي ثانيّة، أو نذهب نحن إليه، إنَّها دعوة الحياة التي أطلقها بفمه الطاهر حين قال: «وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ.» (يوحنا 10: 10)؛ لم يأتِ المسيح ليموت، لكن ليمنحنا الحياة، وأفضل حياة، يُسجِّل الرسول بولس هذه الحقيقة قائلًا: «اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ. وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 4-6)، لقد مات الإنسان مع دخول الخطيّة إلى العالم، وأصبحنا جميعنا موتى بالذنوب والخطايا، ليس من أجل الخطيّة الأصليّة والموروثة من آدم، ولكن لأننا جميعنا أخطأنا وأعوزنا مجد الله، ولا يمكن لأحدٍ من البشر أن ينطق بما نطق به المسيح مُتحديًا التاريخ والعالم كافة، قائلًا: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46)، هذا ما فشل فيه كُلّ البشر، لأنَّ «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (روميّة 3: 12). وهكذا جاءت قيامة المسيح لتمنحنا القيامة من موت ذنوبنا وخطايانا، كما تمنحنا أيضًا أن نحيا الحياة الأفضل، حياة النمو والقداسة، حياة الخدمة والشهادة. لقد منحتنا قيامة المسيح، انتصارًا وحياة روحيّة مُتجددة، ولم يعد للموت الجسدي سلطانًا على المؤمن، بل بوابة لحياة أغنى وأفضل، فتحت الباب أيضًا أمام الكثير من الخطأة ليختبروا الحياة مع المسيح وفي المسيح، وفي هذا شهد الرسول يوحنا قائلًا: «أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهَذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ. مَنْ لَهُ الاِبْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ» (1يوحنا 5: 11-12).
إنَّ قيامة المسيح تتحدانا كل يومٍ أن نحيا معه، وأن يتغير أسلوب حياتنا ليتناسب مع الحياة الجديدة التي منحنا في المسيح، يكتب الرسول بولس: «كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ» (روميّة 6: 4-5).
إنَّ قيامة المسيح ليست حدثًا ماضيًّا، علينا أن نتذكره ونحتفل به فحسب، لكنَّها حدثٌ حاضر يتحدانا أن نتمتع بقوته، وأن نسلك بموجبه كأبناء لله يتمتعون بمنحة الحياة وقوة القيامة التي لنا في المسيح.

3) القيامة حقيقة مستقبليّة يجبُ أن نتوقعها وننتظر حدوثها
تُخبرنا قيامة المسيح أنَّ الموت لم يَعُد هو الحالة النهائيّة التي سينتهي إليها البشر، لكنَّها أخبرتنا بما لا يدعُ مجالًا للشك، أنَّ هناك حياة بعد الموت، وأنَّ هناك قيامة مستقبليّة لا بُدَّ وأن يختبرها كل بشرٍ، وقد سبق وأخبرنا الكتاب المقدس أنَّ هناك قيامة ستحدث في المستقبل، يكتب النبي أيوب قائلًا: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ. وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ.» (أيوب 19: 25-26)؛ إنَّه يُدرِك أنَّ وليّه حي، وأنَّ هناك حياة بعد الموت، هذا ما يؤكد عليه النبي دانيآل قائلًا: «وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ هَؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ وَهَؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلاِزْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ.» (دانيآل 12: 2)، وهنا يؤكد دانيآل ليس على القيامة فقط، بل على دينونة وفرز، فيها سيقوم البعض للحياة الأبديّة، والبعض الآخر للازدراء الأبدي، هذا ما يؤكد عليه العهد الجديد عندما يكتب الرسول بولس، قائلًا: «وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّيْنُونَةُ» (عبرانيين 9: 27)؛ وهو ما سبق أن أكَّد عليه المسيح قائلًا: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ.» (يوحنا 5: 25).
ونحن نحتفل بعيد القيامة، علينا أن نتذكر أنَّ القيامة حدثٌ تاريخي علينا أن نتذكره ونحتفل به، وهي في ذات الوقت حدثٌ يومي نحتفل به كل أسبوع متذكرين من قام وأقامنا معه لنحيا جدة الحياة، كما أنَّها حدثٌ مستقبلي علينا أن نتوقع بإيمانٍ حدوثه، ونتطلع بشوقٍ إليه.

القس نادي لبيب

راعي الكنيسة الإنجيلية في المقطم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى