البدايات والنهايات
الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
ينتهي عامٌ ويبدأُ عامٌ جديدٌ، ودائمًا ما تحمل البدايات شغفًا وطعمًا مُختلفًا، كما أنَّها تحمل معها أشواقًا وأحلامًا لمستقبلٍ أكثر إشراقًا، وربما يُبالغ بعضٌ في النّتائج المتوقعة، أو يتعجل زمانها، وينتظر مُترقبًا، بينما نجد بعضًا آخر يفشل وينهار في مواجهة المصاعب والتّحديات، لكنَّنا ونحن على أبوابِ عامٍ جديدٍ، يضع يسوع أمامنا، كما وضع أمام تلاميذه، مثل الزَّارع، ليُعلِّمنا كثيرًا من الدُّروس في حياتنا على كل الأصعدة.
مثل الزَّارع، واحدٌ من الأمثال الأكثر شهرةً، التي تكلَّم بها الرَّبُّ يسوع، وقد جاء ذِكْر هذا المثل في البشائر الثلاث (متى 13: 1-9؛ مرقس 4: 3-20؛ لوقا 8: 4-8)؛ ونرى أنَّ المستمعين ليسوع وهو يُعلِّم بهذا المثل كانوا يتعجبون من أقوال يسوع، فقد حملت البدايات صعوبةً بالغةً، لكن في الأخير كان الثمرُ وفيرًا، ثلاثون وستون ومئة، وهنا لنا وقفات ثلاث: البدايات غالبًا ما تكون صعبة. لا تفشل، الطّريق يحمل قِصصًا من النّجاح. النّهايات التي تُكلَّل بالنّجاح دائمًا ما تكون مشبعةً وثريِّةً.
1) البدايات وصعوباتها
دائمًا تحمل البدايِّات كثيرًا من الصّعوبات، وفي مثل الزَّارع، الذي تكلَّم به المسيح، نجد تنوعًا من الصّعوبات التي يمكن أن تعصف بالزَّارع، أو أيّ شخصٍ يمكن أن يواجه تلك البدايات، فمع وحدة البذور، تتعدد الصّعوبات:
أ) أرضٌ غير ممهدةٍ للزّرع: لقد وقعت البذور على أرض غير ممهدةٍ، فالطّريق، وإن بدا أرضًا مستويّةً، ففي الواقع هو تُربةٌ غيرُ مُمهدةٍ، أرضٌ صلدةٌ، لا تسمح للبذور أن تخترقها، لذا تُصبح البذور عليه عاريّة، مما يُسهَّل على طيور السّماء التقاطها. أمَّا الصّخر، فهو أرضٌ بطبيعتها صخريّة، ولا عمق في تربتها، فحتى عندما ينبت النّبات فيها، سرعان ما يجف. وثالثًا، نجد في الشّوك تربة قد تصلح للزّراعة، لكنَّها مليئة بالأشواك، فعندما تنبت البذور فيها، يلتف حولها الشّوك فيخنقها.
ب) أرض متنوعة: تنوعت الأراضي التي ألقى فيها الزّارع بذاره، وعلى هذا التّنوع اختلفت النّتائج، وهكذا وجدنا فشلاً في ثلاثة أنواع من الأراضي، لكنَّ الأرض الجيدة، جاءت بالثّمر المطلوب، ثلاثون وستون ومئة.
ج) حروب شيطانيّة: الشّيطانُ هو خصَّمٌ مُخادعٌ، وله مصلحة خاصَّة في إخضاعك للفشل، وهزيمتك، وكثيرًا ما نجده مُعطِلًا ومُهاجِمًا في بداياتنا الجديدة، لقد جاء للمسيح قبل أن يبدأ خدمته الجهاريّة، وهو دائمًا يجول ملتمسًا مَن يبتلعه.
لقد عَرِفَ المسيح قوة البدايَّات، ولم يفشل مع تلاميذه، بل علَّمهم، واستثمر فيهم، ليحملوا رسالته إلى العالم أجمع، وهو ما نجحوا فيه، رغم صعوبة البدايات.
2) لا تفشل، رحلة الحياة تحمل كثيرًا من قصص النجاح
في مثل الزَّارع، يُقدِّم المسيح لتلاميذه، ولنا، أسبابًا تجعلنا نتشبث بالنّجاح، ولا نتعثرُ عندما نفشل، بل لننتظر بشغفٍ، حتميّة تحقيق النّجاح، والحصول على النّتائج المُشبعة، المُرضيِّة، فنرى الزَّارع مُدرِكًا لحقائق شتى، منها نوعيّة التربة، وهجوم إبليس، والعائد والنّجاح المُتوقع كلما زاد في بذر بذاره، وهكذا نجد الزَّارع يزرع بسخاءٍ، وهو ما يفعله الله، ويدعونا لأنْ نفعله، لنجتهد في عملنا، لنُلقي البذار، ولننشر الكلمة، في كلِ مكانٍ، حتى تلك التي تبدو أنِّها صعبة الإثمار، وسواء جاءت الكلمة على الطّريق، أو الصّخور، أو حتى بين الأشواك، لا يُمكن احتواء كلمة ورسالة الله. الله لم يُميِّز التربة الجيدة الصّالحة للزَّرع، عن أنواع التربة التي لا تصلح للإثمار، كما أنَّ الله يزرع في كل مكانٍ. لقد قدَّم كلمته، رسالته، لكل الأمم والشّعوب، لم يكن الله يومًا عنصريًا، لقد أحبَّ الجميع، وهذا ما قدَّمه الرَّبُّ يسوع، ويَدْعُونا لأنْ نكون مثله.
3) النهايات التي تُكلَّل بالنجاح دائمًا ما تكون مشبعةٌ وثريِّة
يُقدِّم لنا مثل الزَّارع، نموذجًا للنهايات التي تُكلَّلُ بالنجاح، فيقول المسيح إنَّ بذارًا سقطت «… فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً يَصْعَدُ وَيَنْمُو فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ» (مرقس 4: 8). وهذا يضع أمامنا عدّة أفكار:
أ) هناك نجاحٌ أتٍ لا محالة: لم يفشل الزَّارع، فلقد ألقى بذارًا لم تجدُ تربة مناسبة بما لا يقل عن خمسة وسبعون في المئة مما بذره، لكنَّه كان واثقًا أنَّ أرضًا مناسبة ستأتي بالنّتائج والثِّمار المرجوة. لذا لم يستسلم، واستمر في نثر البذور حتى وجدت الأرض المناسبة، وتكلَّل عمله وجهده بالنّجاح. .
ب) ثق في توقيات الله، وانتظر النجاح: هناك مواسم للزّرعِ، وأخرى للحصاد، إنَّ الثّقة في توقيتات ومواسم الله، تسمح لنا أن ننتظر أوقات الإثمار، ونرجوها بفرحٍ، وكما أنَّ انتظار الإثمار وأوقات الحصاد يُعدُّ جزءًا لا يتجزأ من رحلة الزَّرع والحصاد، وفيها تتطور البذرة لتُعطي ثمرها، هكذا نحن علينا أن نتعلم الثّقة في توقيتات الله، وبينما ننتظر نجاح ما زرعنا، لنطور شخصياتنا، ونثابر في الحياة، منشغلين بعمل الله، ولنا ملء الثّقة، أنَّ الله هو الذي يُنميّ.
ج) كميِّة الحصاد ليست هي الأمر الأكثر أهميِّة، بل حقيقة الإثمار،إنَّ الثمر هو عطيّة الله، فإذا جاء ثلاثون أو ستون أو مئة، علينا أن نهتف شكرًا على سخاء الله وعطاياه، إنَّ الرَّبَّ يسوع في هذا المثل يُقدِّم لنا في هذا الإثمار المتصاعد أملًا يتحدانا ويتحدى إيماننا، بأنَّ نضع ثقتنا فيه، فهو الزَّارع، وهو الذي يُنمي، وما نحن إلا عاملون معه (1كورنثوس 3: 9)، فلنفرح به.
دعونا نستقبل عامًا جديدًا، ونحن عاملون مع الله، نزرع بسخاء، لا نفشل أمام الإحباطات، نتوقع بثقة أن يقودنا الله دائمًا في مشيئته الصّالحة، إلى مزيدٍ من النّجاحات والإثمار المتضاعف.