الهدى 1226 ديسمبر 2020
بادئ ذي بدء.. فإن أهم ما يميز الكنيسة الإنجيلية المشيخية هو «التعليم»، ومما لا شك فيه، فإن النهوض بالتعليم لهو مسعى الحكومات المتعاقبة على إدارة شؤون الدولة، بغض النظر عن النتائج! على أية حال، فإن الكنيسة الإنجيلية -كجزء لا يتجزأ من المجتمع- تدرك جيدًا الأهمية العظمى للتعليم..
أولاً: الأساس الكتابي
كل نهضات العهد القديم كانت بسبب «التعليم»، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
1. نهضة يهوشافاط: «فَعَلَّمُوا فِي يَهُوذَا وَمَعَهُمْ سِفْرُ شَرِيعَةِ الرَّبِّ وَجَالُوا فِي جَمِيعِ مُدُنِ يَهُوذَا وَعَلَّمُوا الشَّعْبَ» (2 أخ17: 9).
2. نهضة يوشيا: وقد وُجِدَ سفر الشريعة في عهده، «وَصَعِدَ الْمَلِكُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ مَعَ كُلِّ رِجَالِ يَهُوذَا وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ وَالْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيِّينَ وَكُلِّ الشَّعْبِ مِنَ الْكَبِيرِ إِلَى الصَّغِيرِ وَقَرَأَ فِي آذَانِهِمْ كُلَّ كَلاَمِ سِفْرِ الْعَهْدِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ» (2 أخبار 34: 30).
3. نهضة عزرا ونحميا: فبعد أن بُنيَّ السور «اجْتَمَعَ كُلُّ الشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ وَقَالُوا لِعَزْرَا الْكَاتِبِ أَنْ يَأْتِيَ بِسِفْرِ شَرِيعَةِ مُوسَى الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّبُّ إِسْرَائِيلَ. فَأَتَى عَزْرَا الْكَاتِبُ بِالشَّرِيعَةِ أَمَامَ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكُلِّ فَاهِمٍ مَا يُسْمَعُ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ. وَقَرَأَ فِيهَا أَمَامَ السَّاحَةِ الَّتِي أَمَامَ بَابِ الْمَاءِ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ أَمَامَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْفَاهِمِينَ. وَكَانَتْ آذَانُ كُلِّ الشَّعْبِ نَحْوَ سِفْرِ الشَّرِيعَةِ» (نحميا 8: -1 3).
وفي العهد الجديد أول أمر يذكره لوقا كأساس هام كانت الكنيسة تواظب عليه، هو «تعليم الرسل»، حيث يقول: «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ… وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (لوقا 2: 42 47-). والمواظبة هنا تعني استمرار الرسل في تقديم التعليم، وفي الوقت نفسه إقبال الكنيسة على سماع هذا التعليم. ومما لا شك فيه أن هذا التعليم مبني على كلمة الله المقدسة، فحين سُئل مارتن لوثر عن انجازاته كمصلح، أجاب قائلاً: «كل ما فعلته هو أني علّمت كلمة الله، ووعظت بها، وكتبتها، ولم أفعل شيئًا غير هذا، فالكلمة أتمت العمل كله.»
لأجل ذلك ذكر لوقا «تعليم الرسل» قبل أي شيء، كل هذا يعطي جرس إنذار بضرورة مراجعة كل تعليم يُقدم في هذه الأيام، مرجعيته الأولى والأخيرة الاختبارات والخبرات الشخصية، سواء كان تعليم مسموع أو مكتوب، وكما يقول ﭼون كالڤن: «حتى الرُّسُل لم تكن لهم الحرية لتخطّي كلمة الله، فكيف بالحري خلفاؤهم!» كما أن المستمع عليه هو الآخر دورًا هامًا، وهو فحص كل ما يُقدم، وكما جاء عن أهل بيرية: «وَكَانَ هَؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ الأُمُورُ هَكَذَا؟» (أعمال 17: 11)، فكما ينقي الفلاح بزاره قبل زراعتها، علينا أن نفحص وندقق في كل تعليم قبل أن نقبله، وهناك فارق كبير بين عقل «إناء» وعقل «مصفاة»، فالأول يقبل ما يُصَبْ فيه آيًا كان هذا السائل، نظيفًا كان أم عَكرًا، أما الثاني فيُنَقي المُدخلات إليه.
ثانيًا: الكنيسة الإنجيلية والتعليم
أزعم أن الاهتمام الأول لكنيستنا الإنجيلية هو «التعليم»، والدليل على ذلك:
1. عملت الإرسالية الأمريكية على الاهتمام بالإنسان ككل، فكانت تهتم بإنشاء مؤسستين هامتين إلى جانب الكنيسة، هما: «المستشفى»، «المدرسة» (الصحة والتعليم).
2. دار الكتاب المقدس: والتي يرجع إليها الفضل في إتاحة الكتاب المقدس للجميع.
3. الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية: فإلى جانب تقديم الخدمات الاجتماعية، تميزت أيضًا بالاهتمام بالتعليم، منذ أن أسسها الراحل د. ق. صموئيل حبيب، فقد كانت رائدة في «محو الأمية»، والتشجيع على القراءة، وكتب درس الكتاب وغيرها.
4. كلية اللاهوت الإنجيلية: ما قدمته وما تقدمه من تعليم متزن مستنير.
5. المكتبة المسيحية: أثرى عددٌ كبيرٌ من مفكري الكنيسة الإنجيلية بمصر عبر تاريخها المكتبة المسيحية بكتب ومراجع في شتى المجالات، لا ينكر فضلها في التنوير إلا الجاحد.
وبينما يعمل البعض على استقطاب أكبر عدد من الناس من كل حدبٍ وصوبٍ، من خلال اللعب على الاحتياج المادي، وليّ ذراع الناس في ظل غلاء المعيشة، اعتقادًا منهم أن هذه هي النهضة! يعمل البعض الآخر على الزيارات المكوكية والتقارب للناس لاستقطاب أكبر عدد منهم، كل هذا –وغيره- ليس بنهضة، وإنما صيد في المياه العكر، فالنهضة الحقيقية ليست في الكثرة العددية، وإنما في التعليم الذي يرتقي بالمجتمع فكريًا وسلوكيًا وحضاريًا، كما أن النهضة الحقيقية ليست في فخامة المبنى أو المباني التي تمتلكها الكنيسة، وإنما في فخامة التعليم الراسخ الذي يبني الأجيال المتعاقبة، فلا يكونوا كالعُصافة التي تحملها الريح حيثما شاءت، وإنما كالشجرة المغروسة عند مجاري المياه.
ثالثًا: تحديات معاصرة
على كنيسة اليوم تحديات تزداد يومًا بعد يوم، وذلك لأننا أصبحنا في عصر السماوات المفتوحة، وإتاحة كل ما هو غَث وثمين بالضغط على الشاشة الصغيرة التي أصبحت في متناول الجميع، إنها دعوة للاهتمام بالتعليم على كافة الأصعدة، دعوة لإنتاج غزير من مناهج التلمذة المحلية، مع كثرة المناهج المتداولة، ومعظمها مترجم، والتي قد لا تتناسب مع الكنيسة المصرية، فلم يقف الأمر عند «غَرْبَنَة الترنيم»، لكن وصل الأمر أيضًا إلى «غَرْبَنَة مناهج التلمذة»، لذا أمام الكنيسة المصرية تحدي عظيم، وهو أن تكون لديها مناهج تلمذة عميقة مبسطة قرينية، يضعها أبناء الكنيسة المصرية ذاتها، تنطلق من النص الكتابي نحو التطبيق العملي.
دعوة للاهتمام بالتعليم المنبري، الذي ينبي –مع الوقت- عن متعلمين أقوياء يقفون في الثغر، خصوصًا في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبحت المنابر مفتوحة للقاصي والداني، مما تسبب في إحداث فوضى فكرية بل وأخلاقية، فإن كنَّا ندعو لكنيسة بلا أسوار، فما أحوجنا إلى منبر حصين.
دعوة للاهتمام بالدراسة الشخصية، والكلمة المقدسة تدعم أهمية الدراسة الشخصية للخادم في أكثر من نص كتابي، قال الرب يسوع: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ» (متى 13: 52)، فالجُدد اكتشاف، والعُتق أساس، وكلاهما نتاج الدراسة الجادة التي تساعد على بناء الخادم والرعية معًا. ففي ظل التغيرات الفكرية المعاصرة، أصبحت الدراسة الشخصية واجبًا وليست رفاهية، فعلامات الاستفهام لم تعد تطرق، وإنما تقتحم –وبقوة- العقول، ولا توجد إجابات سهلة على أسئلة صعبة. ليس المُعلم فحسب بل المتعلم أيضًا، يقول ريتشارد باكستر: «تأكدوا أن في كل أسرة توجد بعض الكتب المفيدة والمؤثرة، بجانب الكتاب المقدس. فإذا لم توجد مثل هذه الكتب، عليك أن تقنعهم بشراء البعض.» والمصريون –مع الأسف الشديد- يشترون كل الأشياء إلا الكتاب، بالكاد يستعيرونه!
رابعًا: واقع يحتاج لتغيير
هناك بعض القناعات الخاطئة في أذهان البعض والتي تحتاج لتغيير، أذكر منها:
1. تحوَّل البعض لأصحاب خدمات اجتماعية، وأصبحوا يتلاهوا ويتسابقوا في هذا الأمر، وأصبح النجاح –حسب وجهة نظرهم- أن يأتوا بكل ما هو مالي وعيني لمساعدة الناس، في ظل غلاء الأسعار، وحجتهم هي أن التعليم لم يعد يشغل اهتمام الناس، وبالتالي لا داعي من إضاعة الوقت في الدراسة!
2. تحوَّل البعض الآخر لمديري أعمال إنشاءات بالكنائس، وبالنسبة لهؤلاء فإن النجاح في الخدمة يقتصر على المباني والإنشاءات الفخمة الكنسية، مع أن هذا يستنزف وقتًا وجهدًا كبيرين، وبالتالي لا حاجة للدراسة، لأن لا وقت لها، ولا فائدة منها، في زحام هذه المشغوليات!
3. تحوَّل البعض من الآخر لمحترفي لعبة الكراسي الموسيقية، ومع الإقرار التام بأن لا غنى عن القيادات في أي مؤسسة، فهم صمام الأمان، وكلما زادت كفاءتهم، كلما كان ذلك لخير الكنيسة، ولكن احتكار الكراسي أصبحت صفة يتسم بها البعض، وبالتالي لا وقت لخلق صف ثانِ، كذلك لا وقت –بالنسبة لمحتكري الكراسي- للدراسة، فهي لم تعُد أولوية!
أخيرًا.. فإن اليوم عمقٌ للأمس، وشاطئٌ للغد! لذا فرحلة المعرفة لن تنتهي أبدًا، ولعل التصميم الهندسي لمكتبة الإسكندرية يرمي إلى ذلك، فمكتبة الإسكندرية على شكل قرص شمس غير كامل الاستدارة، أي أن المعرفة لن تكتمل أبدًا! نعم كنيستي، لا. بل كنيستنا الإنجيلية ونفتخر! كنيستنا التي أضاءت شمعة وسط الظلام ولم تلعنه! نعم فالتعليم هو المفتاح الحقيقي للنهضة، وعلينا ألا نُهدر الوقت في البحث عن مفاتيح أخرى قد علاها الصدأ!