الحكمة في زمن كورونا
الهدى 1219 مارس 2020
لا تخلو أي محنة من منحة أو أكثر تتجلى في أبسط صورها في شكل دروس متاحة يمكن أن ندركها فيصير لألمنا معنى وقصد ويمكن أن نهملها فنضاعف الحيرة والقلق بالسير في دوائر لا تنتهي من الوجع والخذلان.
الحكمة الأولى
علمتني الأزمة أنه لا يوجد موعد لا يمكن تأجيله أو حدث لا يمكن إلغائه، وأن كل ما كنت أصفه بأنه سفر لازم أسافره أو مشوار أنجزه أو موضوع لا يمكن تأجيله هو في الواقع ليس بهذه الأهمية في ذاته وانما ترتيب أولوياتي يفرض على عقلي اللا واعي أن هذا الأمر أهم من أي شيء آخر.
ولكن عندما ظهر ما هو أهم في هذه الأيام توارت كل الأولويات الكاذبة.
يقول مسؤول بارز في الفيفا عن إلغاء النشاط الكروي: «كرة القدم هي أهم أمر في الأمور غير المهمة»؛ تصريح عبقري وضعني أمام تقييم لحياتي التي ربما كانت تسير بنفس الوتيرة، انشغال كثير في فعل ما أراه مهمًا والذي قد يكون في النهاية أهم الأمور غير المهمة.
قديمًا حدث سبي لشعب اسرائيل لأنهم لم يريحوا الأرض في السنة السابعة بعد زراعتها ستة سنوات، فتم سبيهم بعيدًا عن أرضهم لتستوفي الأرض سبوتها.
أفكر في هذا وأمامي كالندر «أجندة مواعيد»، ممتلئ بمواعيد ملغاة، هل سنجلس في المنزل حتى تستوفي حياتنا سبوتها، حتى تحصل الأسرة على حقها المهضوم، حتى تنتعش علاقات يبست بسبب التنقل في محطات القطار والمطارات والطرق السريعة. سبي كورونا مؤلم بلا شك لكن الألم الأكبر أن تنتهي الأزمة دون أن نتغير.
لقد ذكرتنا المحنة بمنح كثيرة كنا نسيناها، شكرًا للألم إن كان يعيد لنا الوعي، وشكرًا للوعي الذي يعيننا على احتمال الألم.
الحكمة الثانية
قديمًا قالوا الشجاع يموت مرة والجبان يموت ألف مرة، علمتني الأزمة أن الخوف يقتل ويؤذي أكثر مما يفعل فيروس الكورونا، الخوف يتسلل وسط كلماتنا وتصرفاتنا ليستقر في ثنايا عقولنا محدثًا فيها ما هو أسوأ مما يحدثه الفيروس، ولكن لماذا نخاف؟
الخوف شعور طبيعي مصمم لنتخذ بموجبه قرار يحمينا مما نعتقد أنه مصدر الخطر. لذلك الخوف المحسوب مفيد لنا ولحياتنا. ولكن إذا استرسلنا في الحديث عن الخوف وصار حديثنا عنه وانشغالنا به أكثر من المطلوب تحول الخوف إلى حواجز تعوق أداءنا وتمنعنا من التحرك بهدوء صوب القرار السليم.
يزداد الخوف من قلة المعلومات المتاحة لنا وهذا حادث في أزمة الكورونا، فالمعلومات القليلة المتاحة عن المرض أصابت الجميع بالهلع، فنحن لا نطيق فكرة أننا لا نعرف، ونجتهد في ملء الفراغات الكائنة في سلسلة معلوماتنا باقتراحات من أدمغتنا أو من السوشيال ميديا وسنتحدث عن هذا في مرة قادمة، المهم أننا نميل لتصديق كل المعروض علينا حتى نقلل نسبة عدم المعرفة لدينا فنهدأ إلى حين، حتى نكتشف تضارب المعلومات أو عدم معقوليتها.
وفي مرات أخرى نميل إلى التفكير بالتمني wishful thinking أي نصيغ أمنياتنا في قالب الحقائق ونطرحها على أنها معلومات موثوق فيها لتقليل مخاوفنا وتهدئة نفوسنا وهذا أيضًا نمط خطير من التفكير سيتسبب في أزمة حين يثبت خطأ ما توقعته وتمنيته.
أما السؤال الثاني هو ماذا يفعل الخوف بنا؟
ولن أذكر هنا إلا أمرًا واحدًا صرنا نسمعه في كل مؤتمرات الطب النفسي الأخيرة وهو أن الحالة النفسية يمكنها التأثير على الحالة العضوية «قديمة مش كده»؟! الجديد الذي يطرح الآن هو إلى أي مدى يمكن للنفس أن تؤثر على الجسد ؟؟ والإجابة الحديثة هي أن الحالة النفسيّة يمكن أن تدمر المناعة!!! «أيوه زي ما حضرتك قريت»، خوفك سيدمر مناعتك وهي وسيلة دفاعك الوحيدة ضد الفيروس. بمعنى أن الخوف المستمر سيعمل على إضعاف مناعتك بحيث إذا دخل الفيروس جسمك سيحدث فيك أشد التأثيرات المتوقعة. بعبارة أخرى سيذهب بك خوفك تحديدًا إلى المكان الذي أنت خائف من الذهاب إليه.
كيف نتغلب على الخوف؟
قديمًا قال القديس يوحنا كلمات ملخصها أن «المحبة الكاملة تطرح الخوف خارجًا».
الخوف شعور و لن يزول هذا الشعور المقيت إلا بشعور آخر يجب عليك أن تختبره وهو شعور إنك محبوب .. وأن من يحبك يسهر عليك ويرعاك في كل لحظة، وهو أيضًا كلي السلطان وقادر على أن يحفظ وديعتك حتى يلقاك، هو يحبك ومحبته ظاهرة حتى عندما يسمح بالأزمة والمرض والموت لأنه في النهاية سيصنع الخير للذين يحبونه مثلما هو أحبهم.
الصغار وقت انقطاع التيار الكهربي يكفيهم سماع صوت الأب من الغرفة المجاورة صائحًا «أنا هنا»، حتى تهدأ مخاوفهم رغم أن الظلام لايزال يلف المكان.
لا يزال الظلام يلف العالم والأزمة لا تزال حاضرة، لكن الله حاضر أيضا بمحبته التي إن أفسحنا لها مكان في عقولنا ستطرح الخوف خارجًا.
بالمناسبة عبارة القديس يوحنا صحيحة عندما نعكسها فالخوف الكامل يطرح المحبة خارجًا، فنرى الخوف يجعل البعض يتاجرون بالألم ويرفعون الأسعار، والبعض يتكالب على التخزين دون مراعاة لاحتياجات الآخرين ولهذا حديث آخر.