مقالات

المنهج اللاهوتي والعملي، للمُصلحين في مواجهة الأمراض القاتلة

الهدى 1219                                                                                                                               مارس 2020

كتب المصلح الإنجيلي مارتن لوثر، «إن لم تستطع أن تعظ على المنابر لسبب ما. فاكتب، واكرز بالإنجيل».
وهكذا نحن الأن، لا يستطع كل رعاة وخدام الكنائس في العالم، أن يعظوا على المنابر، في هذه الأيام، بسبب تفشّي فيروس الكورونا القاتل. الذي أطلق عليه، «اسم جائحة» لسرعة انتشاره.
ولأنه اجتاح العالم، وأجبر الناس على ملازمة منازلهم، ومتابعة الصلوات، والترانيم، من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
وحيث أننا نواجه ظروفًا صعبة جدًا، بسبب هذا الفيروس، الذي لم نعرف مثيله منذ أكثر من مئة سنة. فأحببت، أن أرجع إلى تراثنا الإنجيلي الغني على الصعيد العقائدي والروحي والاجتماعي، لأنهل منه اختبارات بل خبرات مفيدة جدًا، عن كيفية تصرّف المصلحين الإنجيليين، مع الأوبئة، كونهم واجهوا مرض الطاعون القاتل، الذي حصد أعدادًا كبيرة من الضحايا.
كان الطاعون، هو المرض الأكثر فتكًا، في قرون عديدة من التاريخ، وقد ظهر هذا الطاعون عام 1527م، أي في بدايات حركة الإصلاح الإنجيلي، حتى وصل إلى «فيتمبرج» مسقط رأس المُصلِح الإنجيلي مارتن لوثر، في ذلك الوقت، أُغلقت جامعة ويتنبرغ، وحدث هلعًا وخوفًا فهرب الكثير من الناس تاركين المدينة خوفًا من الطاعون. وتوسّل الكثيرون إلى لوثر، ومنهم حاكم المدينة، كيما يهرب مع أصدقاء لحياته، لكن لوثر رفض ترك المدينة، وقرّر أن يبقى هو وزوجته كاترينا، كيما يساعدوا المصابين بالطاعون، وقد استقبلوا بعض مرض الطاعون في بيتهم. ولقد طلب لوثر من المستشفيات آنذاك، بذل قصارى جهدهم لتطبيب المصابين. وطلب من المسيحيين تقديم التبرعات المالية السخية لمساعدة المحتاجين.
أما المُصلح جون كلفن. فعندما ضرب الطاعون مدينة جنيف عام 1542، كان من أوائل الذين هبّوا لمساعدة المصابين. دخل بيوتهم، بالرغم من خطر الموت. زوّد كلفن المدينة بالمستشفيات. جمع التبرّعات لتأسيس مستشفى متخصّص لمرضى الطاعون. قدّم ثلاثة مبادئ لاهوتية لمواجهة المرض: الأول، تذكّر، أنه ليس للموت سلطان على المؤمنين. الثاني: اعترف بخطاياك. الثالث: ارتمي في أحضان مراحم الله.
وعندما سؤِل لوثر: «هل يجب على المسيحي أن يهرب أثناء مرض الطاعون، ويلجأ إلى مكان آخر»؟ يهرب أثناء مرض الطاعون، ويلجأ إلى مكان آخر»؟ أجاب برسالة مفتوحة، كتبها إلى زميله في الخدمة، القس جون هيس، قدّم فيها، فلسفة بل منهجًا، لاهوتيًا وعمليًا لمواجهة المرض، تضمّن تعليمات حول كيفية تصرّف المؤمنين في مواجهة المرض. قال: «لدى المؤمنين الحرية والمسؤولية في موضوع البقاء، أو عدم البقاء في فيتنبرغ، للمساعدة. لكني أسأل كل مؤمن: «ماذا كنت ستفعل لو كان يسوع مصابًا بالطاعون»؟ وأجاب: «أنا أعلم أنه إذا ما علمت أن يسوع أو أمه مريم، مطروحان في الفراش بسبب الطاعون، فإنك حتما ستسرع للمساعدة. كل منكم سوف يكون جريئًا، ولن يخاف من المرض. وأنا أقول لكل منكم: إذا ما أردت أن تخدم يسوع في هذا الظرف البالغ الصعوبة، اذهب إلى جارك المريض، جارك القريب منك، واخدمه في ضيقه. وبالتأكيد، سوف تجد المسيح فيه». اعتبر لوثر، «أن الخدمة التي يقدمها المؤمنون والمؤمنات للمصابين بالمرض، ما هي إلاّ أمرًا صغيرًا بالمقارنة مع وعود الله ومكافآته الأبدية. ربط، خدمة ومساعدة مؤمني فيتنبرغ للمرضى، بخلاصهم الأبدي. قال: «يجب أن نخدم بعضنا بعضًا، كي لا نخسر خلاصنا ونعمة الله».
وفي ملاحظة جيدة، ذكر لوثر، أنَّ بعض المسيحيين لديهم إيمانًا قويًا أمام الموت، وآخرون ينقصهم ذلك. لهذا خاطب الأقوياء في الإيمان، قائلًا: «بما أنَّ البعض أقوياء والبعض ضعفاء في الإيمان، فإننا لا نستطيع أن نضع نفس حمل مساعدة مرضى الطاعون على الجميع. لهذا، على الأقوياء أن يبقوا في المدينة بالرغم من المجازفة بحياتهم، ويمكن للضعفاء المغادرة. إلاّ أني أطلب من الأقوياء، عدم إدانة الضعفاء لأنهم يتركون. ولقد عدّد لوثر، أصناف الناس الذين ينبغي أن يبقوا في فيتنبرغ لمساعدة المرضى. فذكر:
أولاً، القسوس الذين يقومون بخدمة الناس الروحية. كتب قائلًا: «الضرورة تفرض على القسوس أن يبقوا ثابتين في وجه خطر الموت، لأنّ المصابين، الذين هم على حافة الموت، يحتاجون إلى رعاة يقوّونهم ويعزوّنهم ويصلّون معهم. فالمسيح أوصانا، «الرَّاعِي الصَّالِحُ وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ.» (يوحنا 10: 11).
ثانيًا، الموظّفون الذين يتقاضون أجرًا للاهتمام بحياة الناس، مثل: الأطباء، الأجهزة الأمنية، القضاة، رؤساء البلديات.
ثالثًا، المسيحيين غير المدربين. قال، «على كل مسيحي أن يكون السامري الصالح، ويتبع ناموس المحبة والقوانين المدنية، ويساعد المحتاجين الى المساعدة.
أشار لوثر الى مبدأين أساسيين يجب أخذهما بعين الاعتبار لدى مساعدة المصابين: الأول، احترام الانسان لقدسية حياته، فطلب من الذين يبقون في المدينة للمساعدة، توخي الحذر وعدم التهور في تعريض أنفسهم لخطر انتقال العدوى إليهم. لهذا طلب إليهم، الالتزام بإجراءات الصحة العامة، وطلب الرعاية الطبية عندما يرى حاجة لذلك. والثاني، احترام الانسان، لقدسية حياة الآخرين، ببذل كل ما في جهدهم لمساعدة الآخرين المصابين.
«حول توخي الحذر، من انتقال عدوى المرض، قال لوثر: «سوف أطلب من الله الرحوم أن يحمينا. سوف أستخدم موادًا مطّهرة، سأتناول الدواء. سأتجنّب الأمكنة والأشخاص حيث وجودي فيها غير ضروري، كيما لا ألتقط العدوى أو أُعدي الآخرين، وأتسبّب بموتهم بسبب إهمالي. فإذا ما شاء الله أن يأخذني إليه، سوف يجد بأني قد فعلت، ما أنتظر مني أن أقوم به، كيما لا أكون المسبّب بموتي وموت الآخرين. إذا ما احتاج لي جاري، لن أتردّد في الذهاب إليه حيث هو. لكن سألتزم بالإجراءات، التي قرّرت أن أقوم بها، لأحفظ نفسي من العدوى. هذا هو الإيمان الذي نسمّيه مخافة الله، لأنه إيمان غير متهور، ولا يجرّب الله».
ولقد رأى لوثر، في قرار تطوع المسيحيين لخدمة المرضى، حربًا روحية. فالموضوع، هو الضمير المسيحي. قال: «لا ينبغي على أحد أن يترك جاره المصاب بالمرض، إن لم يكن هناك إلى جانبه من يساعده، لأنَّ يسوع، قال، «كنت مريضًا فزرتموني» (متى 25: 36).
اعتقد أن الشيطان يملأ الناس، بالرعب والخوف والهلع، لكي يتركوا المدينة ويهربوا، دون أن يمدّوا يد المساعدة لأحد. طلب لوثر من المسيحيين، أن يروا في هذا الظرف الاستثنائي، دعوة من الله لهم، وفرصة ذهبية للكرازة بالمسيح، للذين هم في مواجهة مباشرة مع الموت.

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى