الميلادملفات دينية

تجسّد الله في يسوع المسيح وفي الكنيسة

الاختبار والإرساليّة

الهدى 1252-1253                                                                                                          يناير وفبراير 2024

كيف نواجه الهرطقة؟ وكيف نتصدى للتعليم الزّائف، خصوصًا إذا ما تعلّق بهُوية المسيح؟ هذان السؤالان كانا حتمًا مادةً دائمة للنقاش وموضوعًا للصّلاة والتّضرع في الكنيسة الأولى لكثرة ما مَرَّ عليها من هرطقات، خصوصًا خلال القرن المسيحي الأوّل. ماذا فعل رسل المسيح وتلاميذه وما الوسائل التي اتبعوها في مواجهة التّعاليم الخاطئة حول شخص الرَّبِّ يسوع؟ هل شرحوا العقيدة الصّحيحة حول التّجسد، أم شاركوا باختبارهم الشّخصيّ عن شخص المسيح الذي عرفوه بالجسد وعاينوه وسمعوه كمعلم، وكانوا شهودًا على صلبه وقيامته؟ ربما السّؤال المطروح هو خطأٌ بالأساس لأنه يفترض احتماليّة الفصل بين التعليم الصحيح والاختبار الشخصيّ. نظرة واحدة على بناء ومحتوى كل رسالة من رسائل العهد الجديد ربما تؤكد لنا على تلك الحقيقة: أن العقيدة ليست سوى صياغة لاحقة لما اُختُبِرَ بشكل شخصيّ؛ وأنّه لا معنى لفصل الحقيقة التعليميّة عن الحق (أي يسوع المسيح نفسه) الاختباريّ. الأمثلة كثيرة، لكن ربما يسعفني هنا مثال واحد وهو الآيات الافتتاحيّة من الفصل الأوّل من رسالة يوحنّا الأولى.

’’الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به‘‘: التّجسّد اختبار المسيحيّ

أتخيل الرّسول يوحنّا وهو يكتب هذه الرّسالة: شيخٌ مُسنٌ أمضى عمره في تبعيّة سيده وحمل بشارته السّارة إلى بقاعٍ كثيرة. أتصوره وهو يشهد حالة عدم التّجانس التي واجهتها الكنيسة في أيامه: مؤمنون من خلفية يهوديّة يجتمعون مع مؤمنين من خلفية أمميّة. يفهم الرّسول يوحنّا أهمية هذا التّعدد الثّقافيّ، كيف لا وهو الذي سمع سيده وهو يرسله مع بقية التّلاميذ إلى ثلاث دوائر من الإرساليّة: اليهوديّة والسّامرة وكل الأرض؟ كيف لا يفهم يوحنّا التّعدد الثّقافيّ داخل الكنيسة بعد أن رأى عمل الرّوح القدس يوم الخمسين وهو يضم للكنيسة مؤمنين من أعراقٍ مختلفة؟ إلّا إن هذا التّعدد، على ما فيه من بركات، لكنه يحمل معه تحديات –تحديات المفاهيم الخاطئة التي تأتي بها كل جماعة، متأثرةً بالخلفية الثّقافيّة والدّينيّة التي خرجت منها. جماعتان أساسيتان تشكلت منهما الكنيسة الأولى: مؤمنون من خلفيةٍ يهوديَّةٍ؛ ومؤمنون من خلفيةٍ أمميَّةٍ. الجماعة الأولى أتت بالإرث اليهوديّ المُتأثر بدرجةٍ كبيرة بتفسيرات الفريسيين؛ والجماعة الثّانية، أغلبهم من اليونانيين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانيّة. هاتان الخلفيتان أفرزتا تصورين خاطئين عن هوية المسيح، ومن ثَمَّ حقيقة تجسده. أصحاب الخلفيّةِ اليهوديَّةِ لم يقبلوا بشكلٍ كامل لاهوت المسيح؛ وأصحاب الخلفيَّةِ الأمميَّةِ لم يقنعوا بشكلٍ كامل بناسوته[1]. هنا طُرِحَ السّؤال على الرّسول يوحنّا: كيف أخاطب هذين الجمهورين المختلفين؟ وبأي حجة يمكن اقناعهما، رغم التّباين الشّديد في رؤيتهما للعالم. هنا يأخذ الرّوح القدس الرّسول يوحنّا ليسافر به عبر الزّمن ويُذَكِّرُه باختباره مع المُعلِّم. لعل الرّوح القدس جَسَّد أمامه تفاصيل اللّقاء الأوّل. ما زال يتذكر صرخة يوحنّا المعمدان المُدويّة: ’’هوذا حمل الله‘‘ (يو 1: 35) التي ما أن سمعها إلّا ووجد نفسه يترك يوحنّا المعمدان ويذهب وراء ’يسوع الذي من النّاصرة‘. نعم لم يزل وقتها هذا المجهول بالنّسبة للرّسول يوحنّا مجرد ’يسوع النّاصري‘ الذي لا يعرف عنه الكثير، حتى اقترب منه ومكث عنده يومًا ، ينصت إلى كل كلمة تخرج من فمه، ويفحص تعبيرات وجهه، ربما شاركه الطّعام، وربما سمعه وهو يشكر قبل الطّعام؛ تفحّص نبرات صوته، وتأمل تفاصيل حديثه. وتعجب من حكمته وهو يقتبس من النّاموس والأنبياء وهو يلقي ضوءًا جديدًا على نصوصٍ عرفها الرّسول يوحنّا، ولكنه لم يفهمها كما فهمها عندما خرجت من فم يسوع. يأخذه الرّوح القدس إلى قبر لعازر وإلى عُرس قانا الجليل، ويذكّره بما قاله يسوع في موعظة الجبل وما نطق به في آخر جُملة له على الصّليب؛ كما يذكِّره بآخر ما قال قبل صعوده إلى السّماء. تفاصيل وراء تفاصيل رسمها الرّوح القدس بدقة أمام الرّسول الذي كان يصارع مع أسئلة التّعليم الخاطئ، فإذ به يمتلئ من الرّوح القدس ليسطر لنا هذه العبارات:

1الّذي كانَ مِنَ البَدءِ، الّذي سمِعناهُ، الّذي رأيناهُ بعُيونِنا، الّذي شاهَدناهُ، ولَمَسَتهُ أيدينا، مِنْ جِهَةِ كلِمَةِ الحياةِ. 2فإنَّ الحياةَ أُظهِرَتْ، وقَدْ رأينا ونَشهَدُ ونُخبِرُكُمْ بالحياةِ الأبديَّةِ الّتي كانتْ عِندَ الآبِ وأُظهِرَتْ لنا. 3الّذي رأيناهُ وسَمِعناهُ نُخبِرُكُمْ بهِ (1 يو 1: 1-3).

في عبارةٍ واحدةٍ، سريعة الإيقاع في اليونانيَّة، يلهث قارئها كما كان يلهث كاتبها وهو يسطرها؛ في عبارةٍ واحدةٍ قَدَّم الرسول يوحنّا فكر التّجسّد على نحوٍ يجمع الحقيقة اللّاهوتيَّة بالاختبار الشخصيّ. نفس الشخص ’’الذي كان من البدء‘‘، الأزليّ الذي لا بدء له، هو الذي اقترب منه يوحنّا –أو بالأحرى اقترب هو من يوحنّا- وعاين تفاصيل حياته عن قرب، وهو الشّخص الذي يشهد عنه يوحنّا ويقدِّمه كما يليق به للمتشككين. تلك المعايشة الشخصيَّة والاختبار الوجوديّ العميق الذي يشارك به الرّسول يوحنّا قارئه لا بُد وأنّه شفى غليل المتشككين من الأمم الذين لم يتقبلوا إنسانيَّة يسوع. لكن في تلك العبارة أيضًا ما يملأ فجوةً لدى اليهود الذين لم يستوعبوا لاهوت المسيح.

’’الذي كان من البدء‘‘: التّجسّد مشروع الله الأزليّ

نخسر كثيرًا إذا ما قرأنا الأعداد الافتتاحيَّة من رسالة يوحنّا الأولى بمعزل عن الأعداد الأولى من إنجيل يوحنّا. مفارقات التّجسّد في الفصلين واضحة: الكلمة الأزليّ الذي كان في البدء، الذي لا بدء له هو نفسه الذي تعين في الزّمان، أو حسب تعبير رسالة يوحنّا ’’الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا‘‘ (1يو 1: 2). لكن لا يفوتنا تعبير لافت في الإنجيل، والمترجم في نسخة فانديك إلى ’’حَلَّ بيننا‘‘. الفعل اليوناني (σκηνόω)  يعني حرفيًا ’نصب خيمته بيننا‘، والاسم منه هو اللّفظة التي استخدمتها التّرجمة السبعينيَّة مقابلًا لكلمة ’خيمة الاجتماع‘ أو ’المسكن‘ من النّص الماسوريّ العبريَّ إلى اليونانيَّة، وهو الاسم اليوناني نفسه (σκηνὴ) المستخدم في رؤ 21: 3 مقابلًا للفظة ’مسكن‘ في عبارة ’’هوذا مسكن الله مع الناس‘‘. استخدام هذا التّعبير في إنجيل يوحنّا يوحي، كما يُشير المعجم اللّاهوتي للعهد الجديد[2]، بدلالةٍ مهمة: حضور المسيح الجسدي على الأرض لم يكن سوى فصلًا واحدًا بين حضوره الأزليّ قبل الميلاد من العذراء وحضوره الأبديّ بجسده الممجد عن يمين الآب بعد القيامة والصعود. أي أن حضوره في خيمة جسده على الأرض، لم يكن سوى حلقة في سلسلة حضوره المتجسّد في التّاريخ وحضوره المتجسّد في الأبديَّة. صحيح أن تجسد الله الكلمة في المسيح يسوع كان الأكمل والأكثر تعبيرًا عن جوهر الله، إلَّا أن تجسّد الله وإتاحته نفسه للإنسان لم يكن حدثًا عارضًا في التّاريخ، وإنما كان تعبيرًا عن شخص الله ورغبته الحميمة في أن يتواصل مع الإنسان ويدخل معه في علاقةٍ شخصيَّة. الثّابت هُنا في قراءتنا للعهد القديم أن تجسّد الله كان سابقًا على ميلاد يسوع المسيح من العذراء، وأنَّ التّجسّد ليس حدثًا عارضًا فرضته الخطيّة والسّقوط على الله، لكنه ضرورة أزليَّة-أبديَّة أوجبتها طبيعة الله نفسه في علاقته بالإنسان.

’’وظهر له الرَّبُّ‘‘: تجسّد الله في العهد القديم وفي ثقافات الشّرق الأدنى

الثّابت تاريخيًا أن فكرة ظهور الإله في هيئةٍ بشريةٍ لم تكن حكرًا على أسفار الكتاب المقدس العبريّ (أو ما يعرف عند المسيحيين بالعهد القديم). الفكرة كانت موجودة في ثقافات الشّرق الأدنى، وإن اختلفت مضامينها والغرض منها مع ما نراه في نصوص العهد القديم. هذا الاختلاف كان –وما زال– موضوعًا لبحث عديد من العلماء ولعل أهمهم “إستر هاموري” في كتابها المعنون ’’عندما كانت الآلهة بشرًا: الإله المتجسّد في الكتاب المقدَّس وأدب الشّرق الأدنى‘‘[3]، والتي تخصص الفصل السّادس من كتابها لإجراء مسح لقصص وأساطير الشّرق الأدنى التي ظهرت فيها الآلهة في هيئة بشريَّة لتضع يدها على الاختلاف بينها وما نراه في نصوص العهد القديم. بعد فحص نماذج من الأساطير الآكاديَّة والأوجاريتيَّة والسّومريَّة والحِتيَّة، تخلُص هاموري إلى نتيجتين: أولهما أن ظهور آلهة أساطير الشّرق الأدنى في هيئةٍ بشريَّة لم يكن ظهورًا “تجسّديًا” فعليًا، وإنما اقتصر هذا الظهور، في أغلبه، على الأحلامٍ والرّؤى[4]. كذلك فإن هذا الظّهور لم يكن الهدف منه تواصل الإله مع البشر، على نحوٍ يتداخل فيه الإله مع الضّعف البشريّ، بغرض إحداث تغيير وجودي في البشر. هذا التّواصل الحميم الذي يتجسد فيه الإله بشرًا فعليًا يشابه الإنسان لا نجده بشكلٍ واضح إلّا في أسفار الكتاب المقدس. صحيح أن الله ظهر في أحلامٍ ورؤى، وهو ما نجده مثلًا في تواصل الله مع كثيرٍ من أنبيائه في العهد القديم؛ إلّا إنّ هناك حالتين محددتين نرى فيهما هذا التجسّد الفعلي الذي يقترب فيه الإله من البشر اقترابًا يحدث اختلافًا نوعيًا وجوديًا في حياة البَشر، وأعني بهما لقاء الله بإبراهيم في بلوطات ممرا في تك 18: 1 – 15، ولقاء الله بيعقوب في مخاضة يبوق في تك 32: 22 – 32. في هذين المقابلتين بين الله المتجسّد والإنسان نرى ما أسميه بمفارقات التّجسّد. والمفارقة (بالإنجليزيَّة paradox) تختلف عن التناقض. التناقض ينقض العقل ويهدم المنطق ويتنافر مع حقائق الواقع، في غياب غرض واضح. أما المفارقة فهي تفارق المعقول وتأخذ منه مسافة، لتُباغِت العقل، وتوقظه من سُباتِه وخِدرِه من خلال تقديم رؤية طازجة للواقع تحدث تغييرًا إدراكيًا ووجوديًا في الإنسان. هذا ما يحدث في تجسد الله لإبراهيم ويعقوب في النّصين المُشار إليهما. نصانِ مُحيّران ومُلغِزان؟ نعم، لكن هذا الإلغاز يدفعنا دفعًا خارج صناديق أفكارنا المعتادة عن الله ويجبرنا على إعادة النّظر في الله والألوهيَّة. ملاحظتان أساسيتان على هذين النّصين: أوّلًا، الله في كليهما يدخل الزّمان والمكان، ويخضع لمحدوديَّة التّاريخ والجغرافيا. الأزليّ يتزمَّن، وغير المحدود يتعيَّن، فيأتي من الأفعال ما يشبهنا في بشريتنا المحدودة. الله في هذين اللقاءين يتكلم بصوتٍ بشريّ (لا في حُلمٍ أو رؤية)، ويأكل ويشرب، ويسمح للإنسان بأن يغسل قدميه، ويُحاجِجُه ويختلف معه[5]، بل وأن يصارعه ويغلبه! في النّصين لا يُرَى الله ولا يُفهَم ولا يحدث التّواصل الفعّال بينه وبين الإنسان إلّا من خلال تجسده في هيئة بشريَّة. الملاحظة الثّانية على هذين اللِّقاءين بين الله المتجسد بشرًا والإنسان أن التّواصل في الحالتين كان بغرض إحداث نقلة وجوديَّة نوعيَّة في الإنسان، إما بإحداث تغير معجزيّ ما، كأن تحمل سارة وتلد في شيخوختها، أو بإحداث تغيير عميق في إدراك الإنسان لنفسه ووعيه بالله، كما الحال في صراع يعقوب مع الله في مخاضة يبوق. جلال هذين اللِّقاءين إنما يكمن في تغيير المسار وتغيير الهُويَّة الذي حدث للإنسان بعد لقائه مع الله؛ هذا الإلغاز في هُويَّة هذا الإله الذي يأتي أفعال البشر ينتهي عندما نرى التّحول الكيفيّ في هُويَّة الإنسان الذي التقى الله المتجسِّد. هنا يرضى غير المحدود أن يشارك المحدود محدوديته لكي يجعل منه شريكًا له في فكره وفي مشروعه. فقط حاول أن تتخيل مسار تاريخ الخلاص دون هذين اللقاءين بين الله المتجسّد وكلٍ من إبراهيم ويعقوب.

لا أجد نصًا آخر في العهد القديم يضاهي هذين النّصين في تعبيرهما عن الله المتجسّد والمتداخل في حياة البشر سوى سفر هوشع. جلال وصعوبة سفر هوشع تكمنان في رغبة الله أن يصل لأدنى نقطة يمكن أن يصل إليها الإنسان ليؤكد له هناك على علاقة العهد. لم يجد الله طريقةً يُجَسِّد به علاقة الحب الأبديَّة غير المشروطة، سوى علاقة هوشع نبيه بزوجته الزَّانية. أشجع القارئ على قراءة هذا السِّفر بتفاصيله، بأن أقدم له حوارًا تخيليًا يستلهم أحداث السِّفر ويقدم لنا لمحة عن جلال التّجسّد كما قدمته لنا أسفار العهد القديم:

هوشع: لا أفهم محبَّتَك.. لقد تركتَكَ وذهبَتْ وراء مُحبِين كثيرين.

الله: ما زال خاتم الخطبة في إصبعي، وعهد الخطبة في قلبي.

هوشع: ولكنّها خلعت خاتمها وألقت بنفسها في أحضان كل من عبر عليها.

الله: أُحبها بالحق.. أؤدبها ولا أهجرها.

هوشع: ولكنها حتمًا تستحق الهجر.

الله: أحبها بالمراحم والإحسان.

هوشع: أراكَ مُتألمًا وأنتَ تحب.

الله: وهل تستوي المحبَّة دون الألم؟

هوشع (مأخوذًا بما يُخفيه السؤال): وهل يعرف القدير “المحبة المُتألمة”؟

خرج هوشع من محضر الله، دون أن ينتظر الإجابة، وهو عاجز عن استيعاب صورة “الإله العاشق المُتألم”. خرج وهو عاجز عن أن يحمل رسالة “الإله العاشق-المتألم” إلى شعبٍ زانٍ متمرِّد.

تعبر الأيام ويتعلم هوشع الدَّرس وتُحفَر الإجابة على قلبه، فيرجع إلى محضر الله وهناك يمسك ريشته ليكتب: “..وتذهب وراء مُحبيها وتنساني أنا.. لكن هأنذا أتكلم لقلبها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها.. وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم”…

يتوقف هوشع لحظة ليمسح قطرات النّدى بعد أن وضع عينه في عيني الله، وهو لا يدري إن كان يكتب عنه أم عن نفسه!

’سِرَّان عظيمان‘: التّجسّد إرساليّة الكنيسة

حقيقتان كتابيتان يتشاركان صفة ’السِر العظيم‘. أولهما هو سِرُ التجسد: ’’عظيمٌ هو سِرُ التقوى: الله ظهر في الجسد‘‘ (1تي 3: 16)؛ وثانيهما هو سِرُ الكنيسة: ’’هذا السِرُ عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة‘‘ (أف 5: 32). هل هذه مصادفة؟ لا أظن. عظمة التّجسّد ليست فقط في تاريخيته بميلاد المسيح من العذراء المطوّبة؛ عظمة التّجسّد في أزليته في مقاصد الله، وفي أبديته واستمراريته في الكنيسة. ليس من قبيل المصادفة أيضًا أن يصف الوحي الكنيسة بأنها ’جسد المسيح‘؛ كما ليس من قبيل المصادفة أن يرد الإعلان الإلهيّ عن ’سر التقوى‘ و’ظهور الله في الجسد‘ في سياق الحديث عن ’بيت الله‘ و’كنيسة الله الحيّ، عمود الحق وقاعدته‘‘ (1تي 3: 15). عظمة التّجسّد لا تكمن فقط في محبَّة الله المُخلِصَة التي جعلت من المحدود شريكًا له في طبيعته الإلهيَّة (2 بط 1: 4)، ولكنها تكمن أيضًا في رغبة الله أن يجعل المحدود شريكًا له في تحقيق قصده: أن يصبح ظاهرًا متجسدًا ومُتاحًا للبشر، حتى بعد صعود المسيح بالجسد. يمكن تلخيص تاريخ الكنيسة في درجة تحقيقها لهذا القصد؛ فتاريخ الكنيسة ليس إلّا اقترابها أو ابتعادها عن تحقيق غرض الله من وجودها: ألا وهو أن تكون جسدًا للمسيح. والكنيسة لا تكون جسدًا إلا بالحفاظ على تنوعها الدّاخلي (كما كان الحال في الكنيسة الأولى) والسّعي لأن تتجسّد في الثّقافات التي أوجدها الله فيها، لكي تجعل الله متاحًا لمن هم خارجها. ونحن نحتفل بذكرى تجسد الكلمة الأزليّ، علينا أن ننظر حولنا ونطرح على أنفسنا الأسئلة الصعبة: هل الكنيسة جسدٌ رأسه المسيح لمن بداخلها؟ وهل الكنيسة جسدٌ كاشفٌ لطبيعة الله لمن خارجها؟ التّحديات العمليَّة التي تواجهها الكنيسة العربيَّة اليوم، والتي لا يمكن نقاشها بعيدًا عن إرسالية التّجسّد كثيرة. أذكر منها علاقة الكنيسة بترجمة الكتاب المقدس إلى لغات ومستويات لغويَّة ومن خلال وسائط مختلفة، وعلاقتها بالثّقافة التي تعيش فيها، وعلاقتها بالفنون وقضايا العدل الاجتماعيّ. كلها قضايا يصعب فهمها بعيدًا عن التّجسّد، ويحتاج كل منها إلى دراسة مستقلّة.

[1] للاطلاع على خلفية رسالة يوحنّا الأولى، أنظر المرجع التالي:

Smalley, S. S. (1984). 1, 2, 3 John (Vol. 51, p. xxiii). Word Biblical Commentary. Word Books Publisher: Dallas

[2] أنظر مدخل هذا الفعل في المعجم اللاهوتي للعهد الجديد وتفاصيله بالإنجليزية كالتالي:

Michaelis, W. (1964–). σκηνή, σκῆνος, σκήνωμα, σκηνόω, ἐπισκηνόω, κατασκηνόω, σκηνοπηγία, σκηνοποιός. In G. Kittel, G. W. Bromiley, & G. Friedrich (Eds.), Theological Dictionary of the New Testament (electronic ed., Vol. 7, p. 386). Eerdmans.

[3] تفاصيل الكتاب بالإنجليزية كالتالي:

Hamori, Esther J. 2008. “When Gods Were Men”: The Embodied God in Biblical and Near Eastern Literature. Berlin & New York: Walter de Gruyter.

[4] أنظر الفصل السادس من كتاب ’’هاموري‘‘، خصوصًا صفحة 151.

[5] نرى ذلك في معارضة سارة للرَّبِّ بشكل ضمنيّ عندما ضحكت على ما سمعته منه بخصوص حبلها وولادتها ابنًا في شيخوختها؛ كما نرى ذلك أيضًا في النّصف الثّاني من تك 18، عندما يتشفع إبراهيم من أجل سدوم وعمورة ويدخل في حجاجٍ مع الله بشأنهما.

الدكتور سامح حنا

استشاري ترجمة الكتاب المقدّس بالاتحاد الدّوليّ لجمعيات الكتاب المقدَّس
أستاذ غير متفرغ في دراسات التّرجمة والتّثاقف في عدد من الجامعات والمؤسسات التّعليميَّة الدَّوليَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى