تسبحة زكريا الشيخ
الهدى 1227 يناير 2021
يسرد لنا البشير لوقا قصّة بشارة الملاك جبرائيل لزكريّا، الكاهن الشيخ، وزوجته اليصابات. وكان الاثنان متقدّمان في أيّامهما. ويقول لوقا بأن «الإثنين كانا بارّين أمام الله، سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لوقا 1: 6).
لكن لم يكن لهما ولد بالرغم من أنهما كانا يصلّيان منذ صباهما لكي يرزقهما الله بمولود. وبعد أن تقدّما في أيّامهما وصار من المستحيل فسيولوجيًا أن يُنجبا، تدخّل الله بطريقته العجائبية غير المتوقّعة، فاستجاب لطلبتهما في الوقت الذي حدّده هو وليس الذي تمنياه. فأرسل ملاكه جبرائيل إلى الكاهن زكريّا بينما كان يصلّي ويبخّر في الهيكل وجمهور المؤمنين يصلّون معه خارجًا وقت البخور. فلّما رأى زكريّا الكاهن ملاك الرب واقفًا عن يمين المذبح، اضطرب وخاف. فقال له الملاك: «لا تخف يا زكريّا، لأن طلبتك قد سُمِعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا وتسمّيه يوحنّا» (لوقا 1: 13). ومعنى كلمة يوحنا «الله يتحنّن». ثم يصف الملاك صفات يوحنّا المولود القادم، فيقول: «لأنه يكون عظيمًا أمام الربّ، خمرًا ومُسكِرًا لا يشرب ومن بطن أمّه يمتلىء من الروح القدس» (لوقا 1: 14و15). ويُكْمِل الملاك قائلاً للكاهن زكريّا، بأن ولادة ابنًا له ستمنح الفرح له وللكثيرين، «ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته» (لوقا 1: 14)
لكن من الصعب تصديق هذا الخبر غير الممكن تحقيقه من الناحية الجسدية الفسيولوجية، كونه وامرأته أليصابات كَبِرا في السنّ ولم يعد يستطيعا الإنجاب. فشكّك زكريّا في كلام الملاك وتساءل قائلاً له: «كيف أعلم هذا، لأني شيخ وامرأتي متقدّمة في أيّامها»؟ فقاطعه الملاك لأنه لم يصدّق كلامه، وأعاد الملاك التعريف عن نفسه قائلاً: «أنا جبرائيل الواقف قدّام الله وأُرْسِلْتُ لاكلّمك وأبشّرك بهذا. وها أنتَ تكون صامتًا ولا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدِّق كلامي الذي سيتمّ في وقته» (لوقا 1: 18-20)
وبعد بشارة الملاك، حُبِلَتْ إمرأته أليصابات وأخفت نفسها خمسة أشهر. وقد رأت أن حبلها كان من نعمة الله عليها لأنه أعاد اعتبارها اجتماعيًا. حيث كان يُعتبر في ذلك الزمن أنه من العار على المرأة أن لا تُنجِب. لهذا، هتفت أليصابات قائلة: «هكذا قد فعل بي الربّ في الأيام التي فيها نظر إليّ لينزع عاري بين الناس» (لوقا 1: 25)
وعندما حلّ ذلك اليوم العظيم، وُلِدَ الصبيّ وهذا ما أعطى فرحًا لها ولأقربائها وجيرانها. وكانت العادة السائدة أن يُسمّى الولد على اسم الوالد. إلاّ أن تسمية الولد تتمّ في اليوم الثامن، موعد ختان الصبيّ. فأراد أقرباؤه أن يسمّوه على اسم والده «زكريّا»، فرفضت الأمّ أليصابات، وقالت: «لا بل يُسمّى «يوحنا». فقالوا لها: «ليس أحد في عشيرتك تسمّى بهذا الاسم. عندها طلبوا تدخّل الأب زكريّا، فأومأوا إليه طالبين منه ماذا يريد تسمية ابنه. فطلب لوحًا وكتب عليه اسم يوحنا. فتعجّب الجميع وفي الحال انفتح فمّ زكريّا ولسانه وعاد النطق إليه. فتكلّم وبارك الله وامتلأ من الروح القدس ورفع تسبيحته الشهيرة، والتي تبدأ، «مبارك الله».
إن «تسبيحة زكريّا» تُقسم إلى قسمين: القسم الأول، تسبيح الله (68-75)، القسم الثاني، وصف موقع ابنه يوحنا في خطّة الله (76-80).
في القسم الأول، قال زكريّا: «مبارك الربّ إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداءً لشعبه. وأقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه. كما تكلّم بفمّ أنبيائه القدّيسين الذين هو منذ الدهر» (لوقا 1: 68-70) فبدلاً من أن يبدأ زكريّا بالتكلّم عن ابنه المولود الذي جاء بعد حقبة من الزمن، بدأ بتقديم الشكر لله، لا لأنه أعطاه الطفل، بل لأنه افتقد شعبه الذي كان ينتظر هذا الافتقاد منذ زمن بعيد بإرساله يسوع المسيح الذي صنع فداء بموته على الصليب. وأقام «قرن» خلاص. وكلمة «قرن» تشير الى قوّة هذا الفداء والخلاص الذي انتظره الشعب في العهد القديم، كما قال (مزمور132: 17) «هناك أتيتُ قرنًا لداود. رتبت سراجًا لمسيحي»
ويتابع زكريّا في القسم الأول من التسبيحة، قائلاً: «خلاصٌ من أعداؤنا ومن أيدي جميع مبغضينا، ليصنع رحمة مع أباؤنا ويذكر عهده المقدّس. القسم الذي حلف لإبراهيم أبينا أن يعطينا إننا بلا خوف مُنقذين من أيدي أعدائنا نعبده. بقداسة وبرٍّ قدّامه جميع أيام حياتنا» (لوقا 1: 71-75). المميّز في هذا القسم من التسبيحة هو أن قرن الخلاص هذا الذي سيحقّقه المسيّا لا يهدف فقط إلى إزالة العداوة بينهم وبين أعدائهم ومبغضيهم، ولكن تأمين المجد الروحي لكي يعبدوا الله بقداسة وبرّ وبلا خوف، ليس لفترة زمنية محدّدة، ولكن جميع أيّام حياتنا.
أما القسم الثاني من التسبيحة (لوقا 1: 76-80)، يتحدّث زكريّا عن موقع ابنه يوحنا المعمدان في خطّة الله ودوره في التحضير للمسيح الآتي. يقول زكريّا وهو ينظر بفرح وتعجّب بابنه المولود يوحنا، الذي لا يزال في الثمانية أيّام من عمره، ويقول له: «وأنتَ أيّها الصبيّ، نبيّ العليّ تُدعى، لأنك تتقدّم أمام وجه الربّ لتعدّ طرقه، لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم» (لوقا 1: 76-77). فالطفل يوحنا لن يكون كباقي الأطفال، لأنه سيكون نبيّ الله العليّ. وبالتالي، يظهر الآن نبيًّا لله بعد فترة انقطاع دامت 400 سنة. كانت فترة ضباب روحي وغياب لبروز أنبياء يهود، إلى أن جاء النبيّ يوحنا المعمدان لينبأ عن عمل الله العظيم وخطّته للعالم. علّق اللاهوتي Farrer على تسبيحة زكريّا بقوله: «إنها آخر نبؤة عن التدبير الإلهي في العهد القديم، وأوّل نبؤة في العهد الجديد. وعمل هذا النبيّ أنه يتقدّم أمام وجه الربّ ليعدّ طرقه «. فالنبيّ يوحنا هو الذي يسبق مجيء المسيح بفترة قصيرة (ستة أشهر) ليكون صوتًا صارخًا في البريّة داعيًا الناس إلى التوبة. وذلك من خلال توعية الناس على خطاياهم ليعرفوا أنهم خطاة وأن خلاص المسيح يغفر لهم خطاياهم، كما قال: «يعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم بأحشاء رأفة إلهنا التي بها افتقدنا من العلاء ليضيء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام» (لوقا 1: 87-97). وبالتالي، مهمّة يوحنا أساسيّة ومحورية في توعية الناس بخطاياهم وهو هدف رسالة الإنجيل، أن ندرك أننا خطاة ونختبر خلاص الرب. وبنتيجة التوبة والاعتراف بالخطايا والإيمان، تتحقّق نبؤة الملاك جبرائيل عن يوحنا. إذ قال: «ويرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم ويتقدّم أمامه (الربّ) بروح إيليا ليردّ قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار، لكي يهيّأ للرب شعبًا مستعدًا» (لوقا 1: 16-17). فالتوبة واختبار غفران الله تعيد العلاقات بين الأهل والأولاد، بين «الآباء والأبناء». التوبة تعيد الاستقامة إلى الحياة وتنزع منّا الفكر الشرير. كما قال الملاك: «تعيد العصاة إلى فكر الأبرار». وهكذا، بالتوبة وحياة الاستقامة وفِكْر الأبرار، المهمّة التي ستكون على عاتق يوحنّا المعمدان. يضيء الله على الجالسين في الظلمة وظلال الموت. ويهدي أقدامهم في طريق السلام ويهيأ للرب شعبًا مستعدًا.
فيا ليتنا نتجاوب مع تسبيحة الشيخ زكريّا بأن نشكر الله أولاً، لأنه افتقدنا بقرن خلاصه بميلاد يسوع المسيح في عالمنا وموته وقيامته. وليتنا نعمل مع يوحنا المعمدان، أولاً بتوبتنا وغفران خطايانا ثانيًا، في إعداد طريق الربّ بدعوة الناس إلى التوبة وتوعيتهم على خطاياهم حتى يدركوا حاجاتهم الى الخلاص ومغفرة خطاياهم وقبول خلاص المسيح.