مقالات

تشكيل الشخصية

الهدى 1232                                                                                                                               يونيو 2021

من منا لا يؤمن بالله الذي يصنع تغييرًا في حياة الإنسان؟! بالطبع جميعنا نسمع الكثير من الاختبارات من المؤمنين الذين أخبرونا عن صنيع الرب ومعروفه معهم، إذ أنهم عندما تقابلوا معه تجددوا وأصبحوا أشخاصًا آخرين. وبالطبع أهم ما يُحدِثُهُ هذا التغيير هو تعديل السلوك. فالإنسان الذي تقابل مع الرب تعدّلت سلوكياته بشكل كبير، وتسامى أخلاقيًا كثيرًا. إذًا فالسلوك المسيحي القويم هو من أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في الإنسان المؤمن.
لكن مع ذلك نجد بعض الأشخاص المؤمنين الذين كانوا وما زالوا سبب عثرة للكثيرين رغم أنهم معروفون بإيمانهم ومحبتهم للرب. وهنا قد يأتي لذهنك أيها القارئ العزيز أني أتحدث عن مَن يدَّعون الإيمان، وهم غير مؤمنين، أو بمعنى آخر أتحدث عن المؤمنين المزيفين أو الأنبياء الكذبة الذين تكلّم عنهم المسيح في عظته على الجبل. لكني لست أتحدث عن هؤلاء أنا أتحدث عن مؤمنين حقيقيين كانوا سبب عثرة لكثيرين وخاصةً أهل بيتهم.
إنني أتحدث عن المؤمنين الذين إذا سُئِلَ أهل بلدهم عنهم كانت الإجابات رائعة، أمَّا عند سؤال أهل بيتهم عنهم أتت الإجابات محزنة ومؤلمة. الغريب أن هؤلاء ليسوا خدامًا عاديين، بل هم خدام منبر، وعاظ، ومعلمون، ومرنمون. لكنهم تسببوا في معاناة نفسية شديدة لأهل بيتهم، وذلك ليس بسبب إيمانهم، ولكن بسبب طبيعة شخصياتهم نفسها، أو بمعنى آخر بسبب سمات معينة في شخصياتهم تسببت في ألمٍ نفسيٍ شديدٍ للآخرين، ولاسيما لأهل بيتهم أو للمقربين إليهم. وبالطبع هذا الشخص لكونه واحدٍ من رواد المنبر، يرى نفسه بطلًا مغوارًا.
السؤال هنا: أليس مثل هؤلاء مؤمنين؟ أليسوا جميعًا اختبروا النعمة؟! الإجابة: بلى، لقد عرفوا الرب واختبروه، وبالفعل آمنوا به، وأصبحوا مُخَلَّصِين بنعمته. إذًا لماذا يتعاملون بهذه الطريقة مع أقرب الأقربين لهم؟ الإجابة: «لأنهم تغيروا أخلاقيًا، لكنهم لم يتغيروا شخصيًا.» وهذا يعني أن هناك مستوى روحي من التغيير لم يصلوا إليه بعد. وهو أن يسمحوا لله أن يغير ويطور في طبيعة شخصياتهم، وليس فقط في سلوكياتهم.
ما المقصود بهذا؟ يوجد مستوى روحي عميق يمكن للمؤمن أن يصل إليه، وهو أن يغير الرب في طبيعة شخصيته نفسها. هذا يحتاج من المؤمن أن يكون لديه المرونة الكافية التي تجعله يكتشف عيوب شخصيته، ويواجه نفسه بها، ويُصلي طالبًا من الرب إصلاح تلك العيوب. وبدلًا من أن تكون تلك العيوب نقاط ضعف في شخصيته، تتحول لتصبح نقاط قوة. الأمر ليس سهلًا، إنه في منتهى الصعوبة.
يا له من أمر في غاية النضوج الفكري والنفسي أن يصل المؤمن لاقتناعه بالاحتياج إلى تغيير بعض السمات السلبية في شخصيته وأن يتنازل عنها. يا له من أمر في غاية الحساسية! لأن أي إنسان يقبل أن يستمع إلى عظات فيما يخص الأخلاقيات، لكنه قد لا يقبل أن يستقبل نصائح فيما يخص شخصيته. وذلك ببساطة لأن كل واحدٍ منا يرى أن شخصيته فريدة. وأن عقلَه زكيٌ جدًا. ويمكننا القول: «أن الله عندما وزَّع الأرزاق، لم يُعجَب أحدٌ برزقه، ولكن عندما وزع العقول كل واحد أعجبه عقله جدًا.» وبالطبع التفكير هام جدًا، لأن تفكير الشخص هو أهم جزءٍ في شخصيته.
هل يمكن أن يصل المؤمن لهذا النضج؟ هل يمكن أن يُدرك احتياجه لتغيير بعض السمات في شخصيته؟ نعم هناك مستوى روحي عميق يصل فيه المؤمن إلى ضرورة العمل مع الله على تغيير نمط شخصيته. فهناك الكثير من الصفات المتأصلة في الشخصية، البعض منها نفسي، والبعض الآخر شخصي، والبعض منها يجب العمل على تغييرها. وإليكم بعض الأمثلة على ذلك: الغضب السريع ــ النقد المستمر للآخرين ــ النرجسية ــ عدم القدرة على ضبط النفس ــ الإنطوائية الزائدة ــ المثالية الزائدة ــ حب السيطرة ــ جنون العظمة ــ الغيرة ــ الحسد ــ التردد. وبالطبع يمكن تسميتها اضطرابات في الشخصية. وكلها أمور في طبيعة الشخصية تحتاج إلى العمل على تغييرها. ولكن هذه الأمور لكونها في طبيعة الشخصية، فإن تغييرها أمر في منتهى الصعوبة، وقد يحتاج إلى سنوات من العلاج النفسي، والصلاة المستمرة لأجلها في محضر الله والخلوة الشخصية.
ولكن، لماذا الأمر قد يصل إلى هذا الحد من الصعوبة؟ الإجابة ببساطة لأن الإنسان الذي يحتاج إلى تغير الأمور السلبية في شخصيته هو إنسان غير مقتنع أن شخصيته بها بعض السلبيات. وحتى إن تمت مواجهته بواسطة بعض الأصدقاء أو المقربين له، نجده مستميتًا في الدفاع عن نفسه نافيًا عنها ما واجهوه به كليةً. ويُسَمّى هذا الدفاع بـ (الميكانيزمات الدفاعية أو الحيل الدفاعية) وهي الجدال العنيف الذي يستخدمه المرء لإثبات عدم صحة ما يعتقدونه البعض عنه، أو إنها الحيل التي يستخدمها المرء لتبرير بعض الأخطاء التي يواجهونه بها.
قد يذكر المرء بعض الانتقادات التي واجهوه بها الأصدقاء والأقارب، والتي حدثوه فيها عن معاناتهم في التعامل معه بسبب طبيعة شخصيته. وقد يتساءل: «هل أنا كذلك كما قالوا لي؟» الإجابة: نعم، ولكن سيكون من الضروري لهذا الإنسان أن يفحص نفسه لفترة من الزمن ليكتشف مدى صحة كلامهم. ربما يكونوا مخطئين، وربما يكون كلامهم صحيحًا وحقيقيًا. لأن الإنسان يستخدم كل وسائل الدفاع عن نفسه أمام نفسه وخاصةً فيما يخص شخصيته. لأنه عندما ينتقد أحدهم طبيعة شخصية صديقه، يشعر هذا الصديق بالحرج الشديد. عندما يُلفِتْ أحدهم نظر صديقِه إلى ضرورة تغيير بعض السمات في شخصيته، فالصديق يقبل كلام صديقه بصعوبة بالغة. وربما يغتاظ منه أو يغضب عليه. وقد يشك أن صديقه هذا لا يحبه أو يغار منه أو أنه قال هذا لأنه مختلفٌ عنه في الشخصية. عندما يسمع الإنسان أقاويل الناس عنه يهتم بهذا الكلام اهتمامًا شديدًا قائلًا: «تُرى ماذا يقول هؤلاء عني؟!»
أرى أنه يجب على كل مؤمن ألا ينتظر حتى يأتي الوقت الذي يجد فيه الآخرين يحدثونه عن سمات شخصيته، بل يجب أن يسعى هو دائمًا لاكتشاف نفسه وتطويرها. يحتاج المؤمن إلى اكتشاف نقاط قوته والعمل على تطويرها، واكتشاف نقاط ضعفه والعمل على تغييرها. إن رحلة تشكيل الله لشخصياتنا تبدأ لحظة توبتنا وتستمر مدى الحياة، لأن أساسها هو التلمذة في مدرسة المسيح.
أعتقد أن هذا عمقًا جديدًا في العلاقة مع الله أن يطلب المؤمن من الله أن يشكل ويغير ويعدل شخصيته نفسها. لكن السؤال هنا: «من هو المؤمن الذي يستطيع أن يصل إلى هذا المستوى من النضوج؟» أو ما هي الصفات التي يجب أن تتوفر في هذا الشخص المؤمن؟ إنه المؤمن الواقعي ــ الشجاع ــ الجريء ــ المرن ــ الطموح ــ الذكي. لماذا كل هذه الصفات؟ الواقعي: لأنه لن يتهرب من واقع شخصيته، والأمور التي يجب أن يغيرها في شخصيته. شجاع: لأنه لن يخشى من مواجهة نفسه بحقيقتها، جريء: لأنه سيقر أمام نفسه باكتشاف نقاط الضعف في شخصيته والعمل على تقويتها. مرن: لأنه قابل للتشكيل والتطوير في يد الله الفخاري العظيم. طموح: لأنه غير راضٍ عن نفسه ويريد الأعظم والأفضل لبنيان نفسه روحيًا ونفسيًا وشخصيًا. ذكي: لأنه إنسانٌ منصفٌ لنفسه، فلا يتحامل عليها أكثر من اللازم، لئلا يسقط في فخ جلد الذات، والشعور بالذنب، ولا يُدافع عنها دائمًا، فيبرر أخطاءها.
قد يقول البعض: «هذا طبعي. هذه شخصيتي. ومن يقبلني بطبعي هذا سأتعامل معه، ومن لا يقبلني، له مطلق الحرية ألا يتعامل معي.» من حق كل إنسان أن يكون مقبولًا بلا شروط، لكن أيضًا من الواجبِ على كل مؤمنٍ أن يسمح لله أن يتعامل مع شخصيته، كي يغيرها الرب ويطورها ويجملها. لأنه لا يوجد إنسان في العالم يستحيل على الرب تغييره، فبمجرد اعتراف الإنسان باحتياجه إلى التطور والتغيير والسماح ليد الرب تعمل في حياته. يبدأ الرب في رحلة التشكيل هذه. لكن ربما يحتاج المؤمن إلى بعض الخطوات العملية، مثل دراسة علم نفس الشخصية، أو قراءة بعض الكتب التي تناقش هذا الأمر.
إن الكتاب المقدس مليء بأبطال الإيمان الذين شكَّل الله في شخصياتهم أولًا، وبالتالي استخدمهم الرب وكانوا سبب بركة لكثيرين. وإليك بعض الأمثلة: تغيرت شخصية يوسف من كونه الابن المدلل لأبيه، إلى الابن الذي يتحمل مسؤولية أبيه وإخوته وشعب مصر بأكمله، بل والشعوب الأخرى أيضًا. كذلك تحول موسى من شخصٍ غضوبٍ ــ متسرع ــ ثقيل الفم واللسان إلى شخص حليم ــ طويل البال ــ كليم الله. كذلك تغير إرميا من صغر النفس والخجل إلى شخص واثق من نفسه ــ يعرف قدر ذاته ــ شجاعٍ ومقدام ــ يتكلم بكلمة الله بكل جراءة. وأخيرًا تحول بطرس من الجبن والتسرع إلى الشجاعة ــ والصبر ــ والمجاهرة بكلمة الله، وأصبح لديه الحكمة الكافية لقيادة الكنيسة في أورشليم. هذه يا عزيزي القاريء بعض الأمثلة، وكل من عرف الرب اختبر تشكيل الرب لشخصيته وخضوعه تحت يدي الفخاري العظيم.
إن كنا نتكلم أحيانًا عن الجمال الشكلي لدى بعض البشر، والقبح الشكلي لدى البعض الآخر. لكنَّ الجمال الحقيقي هو جمال الشخصية والقبح الحقيقي هو قباحة الشخصية، فالجمال الداخلي أهم بكثير من الجمال الخارجي. نحتاج جميعًا أن يجملنا الرب داخليًا (شخصيًا). وكما يقول المرنم: «جملني فقبحي قد ذهب حتى الأحشاء.» نحتاج جميعًا إلى عمل الروح القدس الذي يثمر فينا ثمر البر فتتغير شخصياتنا وتتعدل سلوكياتنا، ونتغير شيئًا فشيئًا كي نشبه صورة المسيح. فليعطنا الرب نعمة أن نتغير دائمًا من مجدٍ إلى مجد. كما تقول كلمة الله المباركة: وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى