حوار .. روبير الفارس يحاور القس باقي صدقة
الهدى 1228 فبراير 2021
عدد خاص عن وداع القس باقي صدقه راعي الكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط
أشجار الكنائس الإنجيلية بكل أطيافها في مصر. مدت أغصانها المثمرة إلى خارج أسوار وجدران الكنائس ووصلت إلى قلوب وعقول شباب. استطاعت أن ترويهم من نبع المسيح. دون تحيز أو تعصب أو انغلاق في طائفة واحدة. ومن هؤلاء اقتنيت مبكرًا بعض الكتب من الدكتور القس منيس عبد النور من خلال ثقافة التعلم عن بعد عن طريق مراسلات «كلمة معك»، فكنا في المرحلة الإعدادية ننتظر بشوق ساعي البريد حاملًا معه تلك الخطابات الثقيلة المحملة بالكتب. والتي نلتهم سطورها ونجيب أسئلة صفحتها الأخيرة ونعيدها للمُرسِل، وننتظر كتب جديدة. هذه المُراسلات زرعت فينا حب القراءة وأبجديات البحث والشوق للمعرفة. وقد تواكب ذلك مع تسلل صوت القس المحبوب باقي صدقة في اذاعة مونت كارلو، والذي كنا ننتظر برنامجه بنفس اللهفة التي ننتظر بها خطابات القس منيس. وهكذا كون هذان الرافدان الكبيران. مسارات حية في وجداننا. وبالتالي شاركا في تشكيل حياتنا فلروحهما السلام والحب والشكر.
في أبريل عام 2014 نلت شرف إجراء حوار مع القس باقي صدقة شيخ القساوسة الإنجيليين بمصر وراعي الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط ولم يُنشر وقتها بل وضاع في زحمة العمل الصحفي. وبعد بحث مرهق عثرت على نص الحوار والذي احتلت فيه العلاقة بالأنبا ميخائيل مطران أسيوط مساحة كبيرة. وإليكم نص الحوار:
– في البداية استخدمت حضرتك وسائل متعددة لتقديم المسيح للنفوس مثل الوعظ – الصحافة – الاذاعة. فماهي الوسيلة الأقرب إلى قلبك وكيف ترى ثمار هذه الوسائل؟
– تقديم المسيح للنفوس هي رسالة كل مؤمن، بل إنها التزام المؤمن من نحو إلهه. وهذا ما عبر عنه الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس بقوله : لأنه إن كنت ابشر فليس لي فخر اذ الضرورة موضوعة علىّ، فويل لى ان كنت لا أبشر» 1كو 9 : 16
فالمسيحية حياة مرسلية كرازية لتوصيل الأخبار السارة للناس. والمسيحي الحقيقي يستخدم كل الوسائل المتاحة لديه للقيام بهذه الخدمة. وقد لا تكون هذه المهمة سهلة أو مقبولة عند كل الناس. بل إنها قد تواجه صعوبات ومعوقات وربما اضطهادات أيضًا. ولذلك فإن المؤمن يلجأ إلى كافة الوسائل لتقديم المسيح للنفوس. وقد تكون هناك وسيلة مقبولة في مكان ما لكنها ليست مقبولة في مكان آخر. وفي كل الأحوال فإن تقديم المسيح للنفوس ينبغي أن يكون بمحبة وبحوار هادئ. وقد أتيحت لي فرص كثيرة ومختلفة، ولكن أقربها إلى قلبي هي العمل الفردي مع كل إنسان على حدة. لكن هذا لا ينفي أن هناك ثمارًا كثيرة للخدمة عن طريق الاجتماعات العامة أو الصحافة أو الإذاعة والتليفزيون.
– هل هناك خطورة على مستقبل العظة المسيحية في ظل استحواذ التكنولوجيا الحديثة على عقول وقلوب الشباب؟
– لا توجد أدنى خطورة على مستقبل العظة المسيحية فإن المعنى المقصود من العظة هو التشجيع. وهذا هو ما قصده كاتب الرسالة إلى العبرانيين بقوله: «ولنلاحظ بعضنا بعضًا للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة، غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة بل واعظين بعضنا بعضًا وبالأكثر على قدر ما ترون اليوم يقرب» عب 10: 24، 25. ولكن أسلوب تقديم العظة هو الذي ينبغي أن يتطور مراعاة لتطور أسلوب التفكير والتعبير وتغيير أساليب العصر. أي أن التكنولوجيا الحديثة لا تشكل خطورة على مستقبل العظة بالنسبة لعقول وقلوب الشباب طالما أن الواعظ يدرك الأسلوب المناسب لمخاطبة المستمعين. ولا يمكن أن تكون هناك مشكلة في العظة إنما المشكلة الحقيقية هي في اسلوب التفكير وأسلوب الأداء عن مخاطبة الناس. وقد يكون الأسلوب الوعظي التقليدي هو أسوأ أنواع أساليب التفكير.
– بصراحتك المعهودة ما هي أبرز معوقات الخدمة الروحية لرجال الدين الآن؟
– الأنا (الذات) – الكبرياء – محبة المال – الاهتمام بالمظاهر مجاراة العالم الحاضر (الحضارة التي نعيش في لها) دون الاهتمام بجوهر الرسالة وبخلاص النفوس – مثلًا الحرص على إرضاء الناس أو مجاملة السلطة على حساب المبادئ كذلك غياب أو عدم تطبيق المحبة المسيحية والاكتفاء بصورة التقوى بالإضافة التعصب وعدم قبول الآخر – هبوط مستوى كفاءة القيادات في مواجهة احتياجات العصر – الغرور – البر الذاتي.
– كيف ترى مجلس كنائس مصر وهل الوحدة ممكنة بالفعل؟ ما الذي ينقصه لكي يشعر به المسيحيون في كل مكان؟
– «مجلس كنائس مصر» كان فكرة جميلة تحولت إلى مبادرة طيبة لتعويض أو علاج بعض الأحداث السلبية تتعلق بالعلاقات الكنسية التي كانت ولا تزال موجودة نسبيًا بين مختلف الكنائس. لكن عملية التواصل بين الكنائس من الأمور كانت تتطلب انفتاحًا ذهنيًا وقبولًا فكريًا وروحيًا حقيقيًا وعمليًا خاصة بين مختلف القيادات. وكان من نتيجة ذلك حدوث بعض السلبيات مما أدى إلى المقاطعة أو تجاهل البعض للبعض الآخر أو انشغال كل واحد بخدماته أو ظروفه الخاصة. ومن هنا أصبح وجود مجلس كنائس مصر حتمية لمحاولة تسوية الأمور محليًا بأسلوب يتناسب مع ما يمكن أن يحافظ على كرامة القيادات أو الطوائف. لكن سرعان ما تحولت القصة من رغبة حقيقية صادقة وإيجابية لتأكيد المحبة والتعاون واحترام الآخر ونبذ الكراهية والتعصب والعزلة إلى محاولة الحفاظ على «الشكل» و «التنظيم» و «الدستور» و «اللائحة». لكن الجميل في الموضوع أن القوم لم يفقدوا محبتهم ولا تقواهم ولا علاقاتهم الشخصية أو المظهرية، وهكذا سارت الأمور وكأنه لا توجد مشاكل. وهكذا أرى مجلس كنائس مصر. وقد أكون مخطئًا.
لكن تحقيق الوحدة الحقيقية ممكنة بالفعل بل إنها موجودة بالمفهوم الكتابي والإيماني. فالكنيسة الحقيقية ليست هي الطائفة أو الطوائف أو المذاهب .. الخ. الكنيسة الحقيقية هي جسد المسيح وليست مباني الكنائس، الكنيسة الحقيقية هي من صُنع المسيح، أما كافة الكيانات الكنسية والطوائف والمذاهب والتنظيمات فهي من صنع البشر. إن الوحدة الحقيقية ليست معناها توحيد نظام العبادة، أو توحيد المفاهيم والمعتقدات الكتابية لتكون متطابقة، لكن الوحدة الحقيقية هي قبول التنوع الذي لا يتنافى مع المبادئ الأساسية لإيماننا المسيحي، وقبول الاختلاف بروح المحبة والاحترام للآخر، والتعاون والمشاركة في مختلف ميادين ومجالات الخدمة.
– ما هي الخبرة الروحية التي اختبرتها في حياتك المكرسة لخدمة الرب؟
– إنها بنعمة الله أكبر وأكثر وأعمق من أن تصاغ في بضعة سطور .. إنها العمر كله، إنها قصة كل يوم. فهكذا هي اختبارات كل مؤمن. وهي اختبارات شخصية لأن علاقتنا الحقيقية مع الله هي علاقة شخصية ولذلك فهي تختلف من واحد لآخر اختلافًا متميزًا بقدر الوزنات التي تمنحها النعمة لكل واحد، واجتهاد المؤمن كتلميذ في مدرسة الله.
– ومن الصعب أن يتحدث المؤمن عن اختباراته الروحية لأن ذلك يشكل خطورة الانزلاق إلى «الذات» كما أن الحديث عن الخبرة الروحية قد يشوبه «القصور» والعجز عن التعبير عن فضائل النعمة.
– وفي مدرسة الله تعلمت المحبة، واختبرت أن المحبة أقوى من الكراهية وأن الغفران أحلى من اختزان الإساءة والكراهية بل إني تعلمت أن من يسئ إلىَّ هو في الحقيقة يُحسن إلىَّ، لأنه عندما أساء إلىّ أعطاني فرصة لأتلذذ بالصفح والغفران. فأنا إذا مدين له. بل إني تعلمت أن أبادر أنا بالاعتذار لمن أساء لأنه لابد أنني لم أعرف كيف أكتسب محبته، فأنا إذا الملوم.
– قد اختبرت رعاية الله التي تهتم بأصغر التفاصيل في حياتي، كما اختبرت عنايته التي تضمن سلامتي في مواجهة أكبر المشاكل. وتعلمت كيف أن إلهي يقف معنا في مواجهة أكبر المشاكل. وتعلمت كيف أن إلهي يقف معنا في مواجهة السلطة عندما تكون جائرة، والمشاكل عندما تكون معقدة، والتجارب عندما تكون محرقة. نحن في مدرسة الله نتعلم كل يوم تعامل نعمته معنا بالرغم من قصورنا وضعفنا وأنه رفيق غربتنا وخدمتنا.
– في رأيك كيف يمكن مواجهة موجة الإلحاد التي أصبح يُعلِن عنها عدد من الشباب المسيحي؟
لا أظن أن الإلحاد في بلادنا يشكل موجة. لكنه على أية حال يمكن أن يعتبر محاولة للهروب من الأزمات والمشاكل، أو مودة من مودات العصر، وقد يكون محاولة من «الملحد» لتناسي الدينونة التي تنتظره لعدم إيمانه، أو لأنه جاهل فيقول في قلبه أنه لا يوجد إله أو يحاول أن يتناسى ذلك، وقد يكون نوعًا من الوجاهة الاجتماعية التي تجري وراء كل جديد أو قد يكون رد فعل لتربية خاطئة أو لتعاليم مضللة او لثقافة زائفة أو لتقليد أعمى. ولا سبيل لعلاج ما يسمى بالإلحاد الا تقديم الرب يسوع للناس باعتباره المحرر والمخلص، ثم تجنب المباحثات الغبية والسخيفة .. (2تي 2: 23–26)
– ما هي الوسيلة الأفضل لتقديم المسيح للآخرين؟
ج – العمل الفردي الشخصي.
– ما الذي يميز خدمة المسيحيين بأسيوط؟
– الحرص على التردد على الكنائس والالتزام بالأخلاق والفضائل المسيحية وحسن معاملة كل المواطنين بدون تعصب. وفي مواجهة أية مضايقات نراهم يتميزون بالصبر والمسالمة وروح الاخوة والمحبة والتواضع. كما أنهم يرحبون بخدمة الأخرين دون تفرقة.
– متى بدأت العلاقة مع نيافة الأنبا ميخائيل؟ وكيف تحولت إلى صداقة؟
– أحببناه منذ أن جاءنا في أسيوط عام 1946. وتحولت العلاقة الى صداقة وثيقة وحميمة أعتز بها منذ 14 أغسطس عام 1977، وهو اليوم الذي فيه وقعت بعض حوادث التعصب في أسيوط، وكان موقفه في ذلك اليوم يتسم بالحكمة والشجاعة والأمانة للكنيسة والاخلاص للوطن.
– إذا اردت أن تلخص لنا الأنبا ميخائيل في سطور ماذا تقول عنه؟
– يصعب أن نجمع البحر في قطرة. ولهذا يصعب أن ألخص مواهب ووزنات هذا الرجل في سطور. هو رجل الله وخادم الله بكل ما في هذه العبارة من معنى عميق. هو واعظ مقتدر حريص في عظاته على تقديم أعمق المعاني والشرح والتفسير لكلمة الله في لغة عربية سليمة جديرة بالاحترام والتقدير. وهو رجل المواقف الصعبة الذي يخاف الله ومن ثم لا يخاف السلطة عندما تكون جائرة ولا يجامل الناس على حساب المبادئ. كما أنه مدقق جدًا في الالتزام بالمبادئ المسيحية والتقاليد والطقوس الكنسية. وهو أيضا رجل مبدع في الإقدام على القيام بالمشروعات الخيرية وخدمة الفقراء وكافة الانشطة الكنسية.
ونقولها بكل الحب والتقدير: هذا رجل عظيم، ميزته نعمة الله بالتجرد من محبة العالم والالتزام بالزهد والتقوى في ترفع وسمو مع التواضع والوداعة.
– ما هي أبرز وأهم المواقف التي جمعت علاقتكم بالأنبا ميخائيل وماهي المواقف التي لا تنساها له؟
ج- لم يحن بعد موعد كتابة التاريخ، فللرجل في قلوبنا مكانة عميقة الجذور.
-كيف كان الأنبا ميخائيل يري الطوائف المسيحية غير الأرثوذكسية؟ وهل هناك مواقف تبرز هذه الرؤية؟
– الرجل ليس متعصبًا ولكنه بالطبع صادق مع ايمانه المسيحي ومع عقيدته الأرثوذكسية. ولم أسمع منه في كل لقاءاتي معه كلمة واحدة مسيئة للآخرين. ولكن حديثه كان يفيض بالحب والاحترام للآخرين وبكل أدب وترفع. وأذكر أنه قال لي مرة: إن الكنيسة من صنع المسيح أما الطوائف فهي من صنع البشر، وفي السماء متسع لكل المؤمنين بالمسيح إيمانًا حقيقيًا صادقًا وإني واثق أن جميع الآباء الكهنة يشهدون بعمق العلاقة التي تربطنا بهذا الرجل العظيم. شفاه الله.
وهناك مواقف كثيرة لامعة سيكتبها التاريخ بأحرف من نور وبمداد من ذهب عندما تروى قصة حياة هذا الرجل الذي قدم أروع المثل في عمل نعمة الله عندما تستخدم انسانًا كرس حياته عبر عدة عقود من السنين لخدمة فاديه.
– كيف كانت علاقة الانبا ميخائيل مع المسلمين بأسيوط؟
الرجل كان يحب الناس جميعًا وله أصدقاء كثيرون من المسلمين يحبهم ويحبونهم ويحترمهم ويحترمونه. وهذا شأن العقلاء دائمًا
– كيف ترى الانجازات التي قدمها الأنبا ميخائيل للخدمة الروحية بأسيوط؟
– عظيمة ومثمرة وعمرها طويل. باركها الله وباركه الله.
أجرى الحوار: الأستاذ روبير الفارس
الكاتب الصحفي