الصليبقضايا وملفاتملفات دينية

حيرة العقل أمام الصليب

الهدى 1248                                                                 مارس وأبريل 2023

الكاتب القس سهيل سعود

قال المصلح مارتن لوثر: «أعلن الله عن نفسه في طريقة غير متوقّعة، هي الصليب. وفي مكان غير متوقّع، هو الجلجثة. لكن الأمر الغريب جدًا حول هذا الاعلان الالهي، أنّه ليست الطريقة ولا المكان الذي نتوقّع أن نجد فيه الله القدير».
ومن الآيات التي توقّف عندها، ما سجَّله إشعياء النبي قائلًا: «حَقّاً أَنْتَ إِلَهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ.» (إشعياء45: 15). وقد قال لوثر: «الله، غير المرئي، مغلّف بظاهرة الصليب الخفية على العقل». آمن أن الجلجثة، هي موقع تجلّي الله المحجوب وسرّ الحقيقة النهائية. وقال: «لا نجد السمو الالهي في الأعلى في السماء، وإنما في الأسفل في خزي الصليب. ولا يبدأ الإيمان المسيحي من أعلى القمة، لكن من أسفل القعر. فلا أحد يستطيع تجاوز الصليب، ليكتشف الله المجرّد. فالاعتراف بالسمو الإلهي في الصليب، يختلف عمّا قد يكون صحيحًا حول الله في الفلسفة. اعتقد لوثر أنَّ الله الحقيقي، يظهر محجوبًا في ما يبدو معاكسًا له ولحقيقته. لهذا، يقف العقل مرتبكًا أمام الصليب، كيما يتبرّر الانسان بالإيمان وحده وليس بالعقل.»
آمن لوثر، أن الله لم يحتجب فقط في الصليب وفي ضعف ابنه المصلوب، لكنه احتجب أيضًا خارج اعلانه عن نفسه في المسيح. وهذا الاحتجاب الثاني، هو الذي يدفعنا لطرح الكثير من الأسئلة التي لا نفهمها في هذه الحياة، لا سيما الأسئلة حول الآلام والأمراض والظلم والموت، وغيرها من الأسئلة الشائكة التي نرى فيها الله محتجبًا عنّا، ولم نعطَ سرّ إدراكها وفهمها. قال لوثر: «في الاحتجاب الثاني، لا نرى الله في كلمته الموحى بها، وإنما ما وراء كلمته. هذا الاحتجاب، يشكّل الإشكالية الكبرى للبشر في فهمهم طرق الله والطريقة التي يحكم فيها الكون». وقف في حيرة، متسائلًا: «إذا ما كان الإله المحتجب خارج كلمته هو إله حقيقي وحرّ ومجهول لنا، فإنَّه يبدو وكأنه إله آخر مختلف عن الإله الذي أعلن عن نفسه في الصليب. فالله المحتجب في الصليب هو إله رحوم منعم يدعو الجميع الى معرفته واختبار خلاصه في ابنه المصلوب. يبدو لنا أن هناك نوعًا من عدم الانسجام بين الله المحتجب في الصليب المعلن في الكتاب المقدس، والله المحتجب خارج الكتاب المقدس. فالله المتجسد في يسوع المسيح، يبكي ويحزن بسبب هلاك غير المؤمنين. بينما الله المحتجب خارج الكتاب المقدس، يسمح بحدوث هذا. الله المتجسد في يسوع المسيح، يفتّش عن الضال، بينما الله المحتجب يسمح بضلاله». ثم يسأل لوثر: «هل احتجاب الله في الصليب، هو قناع يحجب الله الحقيقي المحتجب خارج الصليب، أم بالعكس؟».
يدين لوثر مساءلة مقاصد الله الخفية عن ادراكنا، ويعتبر أنَّ البقاء في المساءلة يتحوّل إلى شكل من أشكال الوثنية. آمن، أن الله حرّ الارادة ولا أحد يقيّد ارادته. قال: «لن نفهم هذه الأمور إلاّ في الدهر الآتي. إذ ما يبدو متناقضًا لنا اليوم في عتمة الحاضر سيقوم المسيح بتوضيحه في نور المجد. لكن علينا أن نؤمن بإله عادل، بالرغم من كل الامور التي تبدو أنها غير عادلة». يعرّف لوثر طبيعة الايمان، فيقول: «ما يجب أن نؤمن به، يجب أن يكون محتجبًا ليكون هناك مساحة للإيمان. يحجب الله رحمته الأبدية، تحت غضبه الأبدي. ويحجب صلاحه، تحت عدم صلاح. فما قد يبدو معاكسًا لرحمة الله، ربما يكون المساحة والحقل الذي يعمل فيه الإيمان». وأضاف: «إذا ما استطعت بكل الوسائل المتاحة، أن أفهم كيف أن الله الرحوم والعادل، هو نفسه، يمكن أن يظهر غضبه ويبدو لنا أنَّه غير صالح وغير عادل، فلن يكون هناك حاجة للإيمان.
إنَّ الايمان محوري، ليس فقط لرؤية الله محتجبًا في الصليب، ولكن أيضًا محتجبًا خارج الصليب». دعا لوثر جماعة الإيمان إلى التفريق بين الله الذي نعظ به من الكتاب المقدس والله المحتجب. بين الله في الكلمة والله خارج الكلمة. قال: «من الأفضل لنا أن نُبقي الإنسان عند مذود المسيح، لأن هناك خطرًا كبيرًا في زجّ نفوسنا في أسرار الكيان الإلهي». لم يفسّر لوثر، كيفية الوصول إلى معرفة الله المحتجب، لكنه يضعه عند أقدام الإيمان. قال: «إذا ما كان لك الإيمان، سيكون لك الله المحتجب. فالإيمان هو المفتاح الذي يفتح أسرار الكون وصراعات الوجود».

القس سهيل سعود

* لبناني الجنسيّة، وهو راع للكنيسة الانجيلية المشيخية الوطنية في بيروت،
* مسؤول رعوي لكنيستيّ الجميلية ومجدلونا المشيخيّة في الشوف.
* حاز على شهادتي: البكالوريوس في الأدب الإنجليزي، والدبلوم في التعليم من جامعة هايكازيان في بيروت عام 1986. وشهادة الماجستير في العلوم الإلهيّة من كليّة اللاهوت الانجيليةّ في الشرق الأدنى عام 1989.
* تولى العديد من المناصب فس سينودس سوريا ولبنان،
* كاتب لأكثر من ستة عشر كتابًا يدور معظمها عن تاريخ الإصلاح الإنجيلي،
* كاتب صحفي في جريدة النهار اللبنانيّة. والعديد من المجلات المسيحيّة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى