آراء

ذكريات مع القس الدكتور حلمي قادس

الهدى 1207                                                                                                                                 مارس 2019

منذ رحيل والدي، القس الدكتور حلمي قادس وأنا أحاول استيعاب حدث انتقاله عن العالم الأرضي. فقد كان بيننا حديث تليفوني مطول قبل رحيله ببضعه أيام، وتحديدًا في 10 يناير 2019، وكنا في هذا الاتصال نُعيد ونطمئن على بعضنا البعض كالعادة.
كان يطمئن على دراستي للدكتوراه وحياتنا كأسرة في أمريكا. كان يشجعني ويرشدني ويناقش معي تفاصيل حياتي في غربتي. وصلي متمنيًا النجاح لأجلي ولأجل أسرتي. وفي المقابل، كنت أطمئن عليه وعلى صحته التي كانت تبدو جيدة أثناء الاتصال. وختمنا الاتصال بمواعدة اللقاء في الصيف القادم حين أزور مصر أثناء أجازتي. ومن هنا، فقد كان هذا الاتصال الأخير عائقًا لقدرتي على استيعاب رحيله في 17 يناير. وكان بعدي المكاني عن التواجد بجوار جسده للوداع عثرة لإدراكي انتقاله. وفيما بعد، استوعبت أن الاتصال بيننا كان للوداع! وحين بدأت أُدرك رحيله، أخذت أقلب ذكرياتي معه. لم أُفكر في سرد زمني للذكريات العديدة، فالذاكرة لا تخضع لقواعد الزمن وتصنيفاته. ولكني أخذت أقلب في الأحداث المتنوعة التي وجدت فيها القس حلمي: أولا، الراعي، وثانيًا، الأستاذ، وثالثًا، الأب.

أولا-الراعي
في عام 1999م، تحدثت مع القس حلمي عن دعوتي لأكون قسًا في الكنيسة الإنجيلية بمصر. وكان رد فعله هو الدعم لرؤيتي وقال: «إني أرى فيك راعٍ ناجح، قادر على تحمل مسؤولية الخدمة.» وأعطاني بعض الكتب التي كان ينبغي عليَّ الاطلاع عليها قبل التقدم لكلية اللاهوت. وبدأ يدربني تدريجيًا بطريقة مباشرة وغير مباشرة. وفي سنة 2000، سافرت معه لإجراء اختبارات المجمع بالإسكندرية، واجتزت هذه الاختبارات. ولكني لم أحصل في هذا العام على قبول لجنة اختبار كلية اللاهوت بالعباسية، وفي تخرجي، ورسامتي، كان حاضرًا، وأيضًا في إعادة بناء الكنيسة التي كنت أخدم بها وفي افتتاحها، ولقد كان حضوره ومشاركته وكلماته ودعمه مصدر لقوتي، ووسيلة لنعمة الله في حياتي.
في عام 2015، مرض والدي مرضه الأخير، وكان القس حلمي راعيًا لأبي منذ شبابه، وحين دخل أبي العناية المركزة، التففنا حوله كأسرة وعائلة ومعنا القس حلمي، داعمًا نفسيًا وروحيًا في هذه الظروف الصعبة.

ثانيًا-الأستاذ
كأستاذ علمني فن العلاقات مع القيادات المحلية. وأنا طفل صغير، كنت أذهب في صباح العيد للكنيسة لأرى المحافظ والقيادات المحلية في بورسعيد الذين يأتون ليهنئونا بالعيد، ونحن في طريق الذهاب أو العودة للكنيسة، كان والديَّا يشرحان لي أهمية حضور القيادات السياسية والاجتماعية للكنيسة؛ كان يوضحون لي شبكة العلاقات التي يبنيها الدكتور حلمي مع هؤلاء المُعيّدين. كنا ونحن أطفال نعيد على المحافظ والقيادات البورسعيدية؛ وهو ما كان غير معتادٍ في التسعينات. كان الأستاذ يعلمنا كيف نستقبل الضيوف، وكيف نبني العلاقات مع المجتمع. وبالتالي، حين دخلت حقل الخدمة، بدأت في تطبيق هذا الدرس. ولم يكن الأمر صعبًا عليَّ؛ لأني تعلمته ومارسته منذ نعومة أظافري مع الأستاذ.

ثالثًا-الأب
لم يكن القس حلمي راعيًا وأستاذًا لي فقط؛ بل كان أيضًا أبًا. فحين قررننا أنا وأميرة أن يكون حفل زفافنا ببورسعيد؛ بدأنا نخطط معه العديد من التفاصيل للاحتفال. كان لنا بمثابة أب، يُشْرِف على تجهيزات القاعة بنفسه، يهتم باستقبال الضيوف من القسوس والأقارب والمعارف، وفي أواخر عام 2013، بدأت الخدمة في الهيئة القبطية الإنجيلية وكان لأبي القس حلمي رأيًا أبويًا آخرًا. فبعد عودتي من دراسة الماجستير بجامعة يال، دعاني الدكتور القس أندرية زكي للخدمة بالهيئة وهو الأمر الذي قبلته بفرح بعد صلاة وتفكير عميق. فالخدمة في الهيئة تكليف وشرف كبير؛ ولكنها لم تكن أبدًا من ضمن حساباتي. فقد كنت أدرب نفسي لأكون راعيًا أو أستاذًا؛ وبالتالي كانت الدعوة للخدمة في الهيئة زلزلة إلهية لرؤية خدمتي. ولذا في هذا الوقت استشرت عددًا قليلًا جدًا لسماع أراء حول هذه الدعوة الراديكالية؛ وكان من ضمنهم بالطبع والدي القس حلمي. قال لي بتردد: «الهيئة تحتاج من زمان لأن يكون بها قسوس أكثر؛ فهي هيئة إنجيلية، بِنْت الكنيسة. ولكني أراك راعٍ ناجح، وليس قسيس بالهيئة. فالرعاية أَسمَى أنواع الخدم التي يمكن أن يقوم بها إنسان. ولكن على كل حال، لو قررت أن تخدم بالهيئة فستكون إضافة عظيمة لها.» كانت كلماته هذه تحديًا وتشجيعًا من أب ناضج لابنه. فقد كان يريد من ابنه أن يسير في خطّاه؛ ولكنه في ذات الوقت -وهو الأهم- يثق في قرارات وقدرات ابنه. يثق في أساس الدعوة الإلهية لابنه بأي مجال من مجالات الخدمة الإنجيلية. وفيما بعد، كلما رأني أو هاتفني يشجعني ويقول لي: «إني أسمع عن اخبار خدمتك الطيبة بالهيئة.» لم أسأله أبدًا كيف تسمع هذه الأخبار؛ فالآباء لهم مصادرهم وأدواتهم الخاصة في الاطمئنان على أبنائهم.
وكان والدي القس حلمي -حتى رحيله بالجسد- يدعم حريتي في التفكير والبحث. ففي عام 2010، بدأ البعض الهجوم على كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة مستخدمين وسائل عدة كانت أحداهم دراساتي عن تأثير الكتابات الغنوصية على الكتابات المسيحية. ولكن بعد هوجة، جمد السجال؛ ثم ظهر ثانية فيما بعد. ولما أشتدت الهوجة في 2014، أتصل بي والدي القس حلمي ليشجعني، وقال لي: «لا تنتبه لمثل هذه الأمور الجانبية؛ فأنت لست المقصود، أكمل نجاحك وطريق دعوتك.» كانت كلماته غير متوقعه بالنسبة لي لأني أعرف مدى قرب فريق الهجوم منه وتوددهم الدائم له. وفي مرة أخرى، أتصل بي وقال لي: «المجموعة التي تهاجمك قالوا لي أنك قدمت أفكار غنوصية في مؤتمر القسوس الذي كان عندي ببورسعيد في 2010، وأنا لا أصدقهم يا رامي؛ بس أحب أَطْلع على الذي قدمته.» وشرحت له الموقف كاملاً من وجه نظري. وبينت له كيف أن العديد من قامات القسوس الإنجيلية كان حاضرًا الندوة في بورسعيد.

وفي النهاية، فُرضَ عليَّ توقيف تدفق الذكريات وإلا صار المقال كتابًا أو مجلدات عن أحد أبطال الحياة. ولكن بإغلاق المقال أنقل الذكريات من الورق للعقول، ومن الحبر للقلوب؛ تلك العقول والقلوب التي عرفت القس حلمي كراعي وأستاذ وأب وأكثر من هذا. فالذكريات أداتنا لقهر مفهوم الزمن الحاضر الذي يَهمنا بفصل ماضينا عن مستقبلنا. فالأحباء، كالقس حلمي رحلوا عن البصر لا البصيرة، وعن السمع لا الفهم، وعن اللمس لا الإدراك. ولذا فسنتذكرك أيها الحبيب القس الدكتور حلمي قادس إلى أن نلقاك قريبًا بنعمة إلهنا.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى