سيظل باقيًا
الهدى 1228 فبراير 2021
عدد خاص عن وداع القس باقي صدقه راعي الكنيسة الإنجيلية الأولى في أسيوط
عندما نمى إلى عِلمي خبر انتقال الوالد الغالي القس باقي صدقه، تبادرت إلى ذهني الآية الكتابيّة التي قيلت في إبراهيم، «وَأَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ رُوحَهُ وَمَاتَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ شَيْخاً وَشَبْعَانَ أَيَّاماً وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ» (تكوين 25: 8)، وما أجمل أن يذكر الكتاب إنَّ إنسانًا أسلم روحه، ومات بشيبة صالحة، وشبعان أيام، وقد يشاركني الكثير من القرَّاء أن القس باقي صدقه، عاش للمسيح، ومع المسيح، خدم جيله، وأجيالٍ لاحقة، خدم الكنيسة المحليّة، والكنيسة العامة، تمتع بحياة الأسرة المسيحيّة، وسط أولاده، وأحفاده، وعندما انتهت أيام غربته وُجِد بشيبةٍ صالحة، شيخًا، شبعان أيامًا، وانضم إلى قومه، لذا فإنَّه سيظل باقيًا.
إنَّ الموت عدوٌ مخيفٌ، يبدأ في مهاجمة الإنسان منذ ولادته، حتى يتمكن منه في لحظةٍ من الزمن، ربما تأتي هذه اللحظة والإنسان طفلًا، أو شابًا أو شيخًا، لكن هذه اللحظة آتية لا محالة، حتى أنَّ الكتاب يؤكد على أنَّ الموت عدو، وليس هذا فقط بل إنه: «آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ» (1كورنثوس 15: 26)، ويختلف البشر في مواجهتهم لهذا العدو، وتتعدد أسلحة البشر وهم يحاربون الموت، فهناك مَن يسعى للقضاء على أسبابه، كالمرض والأوبئة، وغيرها، وهناك مَن يتعاملون مع أعراضه كالوهن والشيخوخة، وهناك مَن يؤخرون لحظة مهاجمته للإنسان لأبعد نقطة في العمر، ومع أهميّة كل هذه الطرق، إلا أنَّ بعضًا عرفوا الطريق الصحيح للانتصار على الموت، فإذا كان الموت دخل إلى البشرية بخطية الإنسان الأول، فإنَّ إنسانًا ثانيًا هزم الموت، وحطَّم شوكته، هاتفًا: «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1كورنثوس 15: 55)، إنه «.. يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي ابْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ» (2تيموثاوس 1: 11)؛ وهو الذي دعانا للحياة الأبدية، إنَّ الموت صار حكمًا على البشرية نتيجة سقوط آدم الأول في الخطية، لكن آدم الأخير جاء وفتح طريقًا حديثًا للحياة، ولكي ينعم الإنسان لا بالحياة الأرضية فقط، بل بحياة الخلود، وإذ عرف الرسول بولس هذا السرَّ هتف «لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 23)، وهكذا صار على دربه كل مؤمن اختبر الحياة في المسيح، أصبح لا يخشى الموت، إذا فقد الموت بمعناه الأصيل شوكته، وأصبح طريقًا ومِعبرًا يجتازه المؤمن إلى حيث الحياة التي لا تنتهي مع المسيح ذاك أفضل جدًا، وقد اختبر القس باقي صدقه، هذه الحياة مع المسيح، وقد انتقل من هذه الحياة إلى حياة أفضل جدًا، لذا فهو لم يمت بل سيظل باقيًا.
إنَّ طريقًا آخر يذكره الكتاب لهزيمة الشيطان، وما يسببه من موت، فيكتب الرائي: «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلَمْ يُحِبُّوا حَيَاتَهُمْ حَتَّى الْمَوْتِ.» (رؤيا 12: 11)؛ إنَّ كل مَن تمتع بدم الحمل، نال خلاصًا أبديًا، ولم يعد يخشى الموت، لكنَّ يوحنا يقول أيضًا، أنَّ المؤمنين ينتصرون، وهم غلبوه .. بكلمة شهادتهم، وقد كان القس باقي صدقه، شاهدًا بالكلمة، في كل مكانٍ، وفي كل مناسبةٍ، عبر المِنبر، ومن وراء ميكروفون الإذاعة، وأمام شاشات القنوات التلفزيونية، كتب العديد من الكُتب، والمقالات، وإذا كانت الخبرة البشرية تُخبرنا، إنّ مَن يكتب لا يموت، فنقول بكل تأكيدٍ أنَّ القس باقي صدقه، خدمته، وبكلمة شهادته لم يمت، بل سيظل باقيًا.
كان القس باقي صدقه، نموذجًا راعويًا، محبًا، مُشجعًا، عطَّاءً ليس فقط في محيط كنيسته، التي كان يرعاها، لكنَّ في مجالٍ أرحب في المجمع والسنودس والكنيسة العامة، فكم من قصص سمعناها من زملاء في الخدمة، قسوسٍ أو خدامٍ، كل منهم يحكي عن جانبٍ ولمسةٍ من خدمة الرعاية، والأبوة من القس باقي صدقه، لم تكن المسافات عائقًا، فكان تليفونه دائم الرنين على الزملاء سائلًا، مُصليًا، مُشجعًا، ولقد لمست شخصيًا هذا البعد الأبوي والرعوي، فعندما شعر القس باقي صدقه ذات مرةٍ، بمدى احتياجي لفترة راحة في ظروف صعبة، دعاني لأسيوط، ورتَّب لي فترة إقامة في فندق على النيل، كخلوةٍ فيها أخلو وتهدأ نفسي، وكم من مرة تواصل معي عبر التليفون، حتى في ظروفه الصحية الأخيرة، إنَّ ما أسجله هنا، واختبرته في علاقتي بالقس باقي لابد واختبره زملاء كثيرين، يمكنني أن أكتبها صريحة، أن باقي صدقه .. سيظل باقيًا.
على صفحات التواصل الاجتماعي، تبارى كثير من الزملاء في وضع صورٍ تجمعهم مع القس باقي صدقه، أثناء زيارتهم له في منزله، وهذا يُشير ويُعبر عن المحبة المتبادلة بينه وبين من تمكنوا من زيارته في بيته، لكنه انعكاس أيضًا لبيتٍ مفتوح، وهذا نموذجًا ومثلًا لابد أن نذكره، ذلك البيت الذي جمع في جنباته عائلة مسيحية رأت في حياته نموذجًا يُحتذى، وهكذا قدَّم ابنًا وابنة لخدمة الكنيسة، ابنًا شيخًا خادمًا في الكنيسة أولًا، فأكرَّمه الربَّ في وظيفة مؤثرة، وزوجة تتمتع بقلب خادم ومُحب، وهكذا الابنة أيضًا، وينتقل الأمر إلى الأحفاد، فنراهم امتدادًا له، ولهذا سيظل باقيًا.
أخيرًا .. إنَّ القس باقي صدقه، بمعرفته الشخصيّة للمسيح، والسير معه في دروب الحياة، في خدمته المتفانيّة وكرم عطائه، بروحه المسكونيّة وعلاقاته الكنسيّة، في عشقه لبلده ووطنيته، في كنيسته وأولاده وأحفاده .. سيظل باقيًا.