ماهيّة التجسد
الهدى 1252-1253 يناير وفبراير 2024
في البدء كان التجسّد معلومًا في ذهن الله، كان الله هناك دائم العلاقة منذ خَلق الإنسان. فكان يخاطب آدم بصورة معينة، ويتواصل معه يكلّمه ويحاوره، وكان آدم يدرك وجوده، ويراه، “نَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ».” (تكوين3: 9)، ربما لا نعلم الكيفيّة، لكن في زماننا وتاريخنا هناك تجسّدات عديده في الصّوت، النّور والنّار، حلّ بأشكال متنوعة ليعلن عن وجوده، حبه، تفاعله، شخصيته للإنسان، وذلك لا ينتقص من قدره تعالى، بل إعلان لنتعرّف على الله، لنتفاعل معه، لتكون علاقتنا معه مُثبته. ولو اعتقدنا أن الله منزه عن التجسّد، فسيكون منزهًا أيضًا عن الكلام، والسّمع، وكل الحواس التي نعرفها، عندها من المستحيل معرفة الله، إذ إنّ الكلام واللّغة هي تجسّد، السّمع، والحركة هي تجسّد، “ولان الله -جلّ ثناؤه- علم أنّه لا تثبت معرفتنا به في أنفسنا ولا تصفو عبادتنا له…إذ كانت أبصارنا لا تدركه؛ وأوهامنا لا تقع حتى تطمأن أنفسنا إلى ثباته، ولا ينتفي الشّك عن قلوبنا إلّا بأن يظهر لنا ويكلمنا بما تقع عليه حواسنا”[1]. فوحدنا لا يمكن أن نعرفه، لذا أعلن الله عن نفسه بتجسّدات مختلفة في العهد القديم كلم آدم، قايين، نوح، إبراهيم، ظهر للبعض مكلمًا إياهم مثل موسى من العليقة، ومن السّحابة، ومن عمود النار كإنسان “وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ.” (خروج 33: 11)
فالله منزه بالفعل عن كل ما ينسب إلينا من ضعف أو نقص، لكنه بإرادته أعلن عن نفسه في إطار زماننا ومكاننا عبر تاريخنا البشريّ، فهو تاريخ العلاقة والمبادرة التي صنعها معنا القدير لنعرفه، وندرك وجوده، وصفاته وطبيعته -بقدر ما. كل تدخلات الله في التاريخ البشريّ في العهد القديم هي تجسّداتEmbodiment لكن التجسّد Incarnation ، خاص بالكلمة، وحدث مرة واحدة في التّاريخ “َلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ..” (غلاطية 4: 4) وفيه كمال الإعلان عن الله ” ٱللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلْآبَاءَ بِٱلْأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ ٱلْأَيَّامِ ٱلْأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ.” (عبرانيين 1:11)
لذا يكون تجسّد الله ممكن، بل حدث بالفعل، وتكون الإمكانية ليست مرتبطة بقدرة الله، أو نعمته، أو جوده فقط، لكنها مرتبطة بالمنطقيّة.
وهناك منطقان للتجسّد، الأوّل سلبيّ، والآخر إيجابيّ، وأعتقد أنّه منطق واحد وهو خلاص الإنسان من الهلاك، الفساد الأبديّ، ولكنه من زاويتين مختلفتين: الأوّل، كأن الله تورط -حاشا- في حدث السّقوط وكان لزامًا عليه أن يتجسّد الابن الاقنوم الثّاني ليحلّ تلك المعضلة بين رحمة الله وعدله. والثّاني، لا ينظر للدّافع من جانب الخطيّة، لكن من جانب المحبّة والضّرورة الواجبة الشُّكر، فالله تعالى غير مجبور أو مضطر بأي شكل من الأشكال، لم يتورط الله في الإنسان فمن البداية لا توجد أي ضرورة مُلزمة لله تجعله مُتلزم بخلق الإنسان بمعنى الاحتياج الناتج عن نقص. فالله مكتفٍ بذاته. فالإنسان والكون كله لا واجب لوجوده. وإن كانت هناك ضرورة لوجودنا فهي ضرورة الحبّ ضرورة واجبة الشّكر. خلقنا الله شركاء، خلقنا أبناء في علاقة. (رومية 8: 14-16؛ 1يوحنا 3: 1)
لذا يكون التجسّد ضرورة واجبة الشّكر دافعها المحبة، التي تنقذ وتعيد العلاقة مع الله، فدون علاقة لا وجود، فالموجود شاركني وجوده لا لسبب غير النّعمة. وجود الله هو حق قائم، سرمديّ، ووجوديّ الذي هو بسبب عنايته هو نعمة.
فالتجسّد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعديدٍ من المفاهيم والقضايا اللّاهوتية، مثل النّعمة، طبيعة الله، الكفارة، الخطيّة، فالتجسّد يعلن لنا ماهية النّعمة، ويظهر لنا طبيعة الله وصفاته في إعلان واضح كامل، ويكلّل مشوار الكفارة الكائن في ذهن الله منذ الأزل “…بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ” (1بطرس 1: 19-20)
والتجسّد يرتبط بالخلاص من الخطيّة، “حَتَّى كَمَا مَلَكَتِ الْخَطِيَّةُ فِي الْمَوْتِ، هكَذَا تَمْلِكُ النِّعْمَةُ بِالْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا.” (رومية 5: 21) فالعمل الكفاريّ يشمل كل تاريخ معاملات الله مع الإنسان وتحقق في الزمان والمكان في تجسد الكلمة (حياته، وتعاليمه، معجزاته، آلامه وصلبه وموته وقيامته وصعوده).
ولا يمكن اختزال التجسّد في حادثة الصّلب، ولكنه يشمل كل تصرفات وسلوك وتعاليم ومعجزات الرب يسوع التي تعلن عما في ذهن الله الآب، بل وتكشف عمن يكون الله؟ “اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ.” (يوحنا 1: 18)، هذا الإخبار نراه في الرب يسوع المسيح. “قَالَ لَهُ يَسُوعُ: “… اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟… صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا.” (يوحنا 14: 9-11)
ففي التجسّد اتّحدت طبيعتنا مع طبيعة الله. الإنسان بالإله، النّاسوت باللّاهوت. هذا الاختبار الحقيقي بالتّضافر والشّراكة مع إنسانيتنا. بين طبيعتنا المائتة ولاهوته المُحيي، بين طبيعتنا المشوّهة ولاهوته الشّافي. التحامنا به جعل لنا الحياة “من آمن بي ولو مات فسيحيا” (يوحنا 11: 25)، “يقول القديس أثناسيوس: ‘لقد صار مثل هذا الاتحاد، لكي يصير ما هو بشريّ بحسب الطبيعة متَّحدًا بالذي له طبيعة اللّاهوت فيصير خلاصه وتأليهه مضمونًا.”، (لوقا 19: 10) “لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ».”
التجسّد اختبار حقيقيّ لله، ليختبر إنسانيتنا، التي ليست بغريبة عنه، بل هو خالقها، خلقها ليس من العدم، ولكن من ذاته حاملة صورته، آدم مخلوق على صورة الله، وآدم الأخير هو صورة الله.
[1] عمار البصري، كتاب البرهان وكتاب المسائل والأجوبة، حققه، ميشال الحايك (بيروت: دار المشرق، 1928) 65.